حدثت العذراء - وقد اكتهلت - فقالت : تأدبت وما ملت يوما الى أن أبلغ فولا مكنونا أو سرا مدفونا ، وذاك عندى طبع جبلت عليه ، فاذا تحدثت فكأنما للفظ ينشق عنى غلابا فهو لى مكابر عنيد . وخلت ذاك منى لجاجا فاذا هو دأبى ، وكرهت أن أمد بينى وبين نفسى حبلا فتلت أليافه مغازل الحكمة العقلية رقت خيوطها بقسطاس مبين .
ومضى زمن فاذا الحس على ما عهدته ، تبدلت الايام وما تبدل ، وجوهر الاشياء روحه لا يتبدل ، الا من عصفت به ريح من الشك أو من الجحود ... ثم رأيتنى تتجاذبنى منازع روح وقلب وعقل ، ولما تبينت أن التأليف بينها مجازفة ، بل خداع،آليت على نفسي أن أصون حرماتها وأحفظ حدودها،فغالبت نفسى فانصهرت ردحا من الزمن حتى تصدعت وتشققت فانبثق منها فيض من إلهام العذارى : فاما مرده الروح يغذيه بكاء سنى كأنما يصعد به المرء الى جوار علوى فيه تجرد وطهر وملكوت كثير ، وإما مرجعه القلب تنفث فيه عاطفة تنوء بحدتها شم الرواسى فهى سيل غامر أو كوكب جامح ، ولكنها حينا إعصار ناسف .
قالت وقد تطهرت : لما خبرت من شؤون نفسى عظيمها وهينها ، بسيطها ودقيقها أدركت إدراك اليقين أن قوة روحية ألهمنيها ايمانى تشد كيانى بوثاق عجيب ، ولولاه لخر روحى صعقا ، واذا اصطفى الله امرءا شد بينه وبين نفسه حبل الاسباب فلا هو يخشى تصدع فكره ولا هو يرتاب جموح هواه .
قالت العذراء : وكان لى فى سالف الأزمنة إلاه أعبده : أسجد له صباحا وأدعوه ليلا وأتهجد له سحرا ، وكنت اذا خلوت أناجيه فلا يسمع نجوانا غير ملك قدسى ، واطلعت يوما فى احدى رؤاى على لوح الغيب فاذا على سجل منه حروف أزلية ألهمت قراءتها فوجدتها حديثا كان لى يوما مع الاهى فى معبد صلاتى وتسبيحى حفظه عنا الملك القدسى ، قال : خشيت أن تنسينيه أحاديثكما فى الأصيل والسحر وما يتلوها من الغاز لا يفك رباطها إلا الربانيون فرسمته على اللوح شهادة لكما تشفع يوم الدين . فتلوته .
قالت له العذراء : أنت لى إلاه ومعبد وصلاة . قال : أو يعبد الانسان وهو بشر عبد ؟ قالت : وهل لى مناص من أن أظل على ركبتيك جاثية أتحسس ريحك فيسير فى دمى سير الرحيق المختوم ؟
قال : وكيف تحولت عن ءالهتك التى لقنك عبادتها ءاباؤك وأجدادك فكنت على ما كانوا عاكفة ؟
قالت : وما كنت على ضلال . قال : وهل الى برهان من سبيل ؟ قالت : أراك تلح فكأنى على زيغ ، وانما قصارى الامر أن الآلهة اضلتنى يوم أن انفردت بتعبدى .
قال : فأنا اليوم شريك لها فى وفائك طهارة وعبادة ! قالت : بل دونك فى الفضل والزكاة ، انفردت بى فاجحفت ويوم أقمت من ذراعيك هيكلا لصلاتى ومعبدا لاعتكافى ومحرابا لتسبيحى تنكرت لآلهة ذهبت بزهر عمرى .
قال : وهل لما تزعمين من عهد معقود ؟ قالت وقد شحبت و كسفت : على ما عهدتك باقيا : أيبى كالحصن ، أنوف كالصور ، متعال كالمنار يهدى التائهين ، قاس كالحديد يقوض الرصاص ويقضم الصلب .
قال : أصغيت فأدركت وليس لى من نفسى ايمان بك . قالت : آيتى اليك روحى فيك أفنيها . قال : وهل أمنت غضب آلهة كنت فيها فانية ؟ قالت : إن آلهة معبودة تمتص الرحيق فتسرف ، وتتغذى فتتهالك لهى أجدر بأن تقتلع جذورها أو يضرب عنقها أو تترك فاذا هى دمية خاوية .
قال : مضى على عهد ، وما العهد بالقدم ، كنت فيه بين أمر وضده : ثقة برهطك الى حد الايمان ، وكفر به الى النقمة والتشفى ، ولما سكنت الهوجاء فى
النفس رأيت أمثالك تتجاذبهن غريزتان متنافرتان تنافر بعض الحيوان من بعض ، فهن يوما الى العنف والقسوة تثور الواحدة فلا رحمة ولا اشفاق ، ثم هن من الوداعة واللطف فكأنهن ملاك الرحمة رسول السلام .
أفلا تحدثيننى يا مريم عن سر حواء ؟ قالت : مخلوق ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ، سبحان من جعل فى النفس أضدادا : سحر إلاهى تدبره نواميس الجن وشياطين الانس .
قال : وهل تفجر المؤمنة من النساء ؟ قالت : أجل - هى تؤمن فلا ايمان كايمانها ، تفنى فى معبودها فهى على الطهر والعفاف ، منه رحيقها وفيه جلالها ، تؤله المعبود فتقدسه ، فليس بينها وبين الفداء إلا ما بين شهيق وزفير .
قال : فكيف تكفر بآلهتها ؟ قالت : هى فى معبودها فانية تتفجر تفجرا ، والآلة مدد لها تغذيها من روحها فتنفخ فيها ما لا يرد له فيضا كالسيل يصدع الجسور . فاذا بصرت أن الآلهة لا تبادل غذاء بغذاء ولا عبادة بصون سخطت .
قال : وما غذاء المرأة من معبودها ؟ قالت : أن يصون عرضها ويحفظ سرها ويثبت على عهدها فاذا هى الأخرى الاه قدسى أبدا إليه ما تبرح على عبادته قائمة .
قال : در مصون وجوهر مكنون فكيف تكفر بالآلهة ؟ قالت : إذا زهدت فيها أو حملت عبادتها ضعفا وامتهانا . قال : كيف ؟ قالت : أن تلعن وما حقت عليها اللعنة . قال : أى لعنة هذه ؟
قالت : أن تظن بها الظنون فتأكلها الغيرة على عرضها فتتفجر . والمرأة نخون غدرا . ولكن رمى الطاهرة بالخيانة أشد فظاعة ، فاذا المرأة غير المرأة ، واذا الملاك منها شيطان مريب ، تسخط فتتمرد وقد تفجر فتمعن فى الفجور حتى تتهالك ، ويحق لها الانفجار فهو لها انعتاق ، وان امرأة زكية تلوث
تدنيسا وعهرا لهى أجدر بأن تكفر بما آمنت به والآلهة اذا زحزحت هوى صرحها .
قال وقد أخذه هيام كالخذلان : وكيف تنعتق المؤمنة ولا فجور ؟ قالت : تنتحر أو تستبدل آلهة بآلهة .
قال وقد أطبق حفنيه ، ومد إلى السماء يديه وارتعش صوته حتى لكأن به بحة : اليوم آمنت بالعبد وكفرت بالآلهة فأف لها تهوى وسحقا لمعبود يزحزح عن منبره .
ثم أردف الملك محدثا قال : رأيتهما بعد يوم أو بعض يوم فكأنهما روح منصهر مصفى أوحد .
