سأل التلميذ " أناندا " أستاذه بوذا قائلا : - أنت ترى أيها المعلم الاكبر أن الانسان يكافح علة واحدة منذ وجوده على الارض ، وسيظل يكافح هذه العلة الى أن يظفر بالنصر عليها ، أو ينهزم فتصبح قضية استمرار رسالته فى طي التاريخ ؟
قال بوذا : نعم . تلك القضية لم تكن الا صراع الانسان مع العبودية وانى لا أرى كائنا كبلته الحياة بالقيود الا هذا الحيوان العجيب الذى يسمونه - الانسان - فعبوديته تأتيه فى أشكال شتى ، وألوان عديدة ، تنبع من نفسه ، وتتفجر مما حوله ، انها أمواج مظلمة ، تحملها رياح عاتية يصطك بها أنى التفت ، ويظل يصارع ويصارع وما أظنه مستسلما أبدا .
وان شيئا كبيرا من أغلال الانسان يرجع الى طبيعته ومزاجه ، الى ما فيه من غريزة أولى
قال أناندا : ألم تعلمنا يا سيدى أن الغريزة ، وسيلة المحافظة على الحياة ، وأن حياتنا لم تكن الا موتا نقاومه باستمرار ، وليس سلاحنا فى ذلك غير الغرائز ، بها نتناسل ، وبها نكافح للبقاء ، فكيف تعدها اليوم شرا ومصدرا للعبودية والالم ؟
قال بوذا : ان كل شئ يمكن أن يكون مصدرا للخير ، والشر . لكن الجوع الى الحياة هو علة آلامنا واحزاننا ، وان الغريزة تترجم عن نفسها وتظهر على سطح الوجود ورودا وأزاهير جميلة ، تعبق بالاريج وتعشق لطف النسيم ، ورقيق الندى ، ولكنها قد تتخذ طريقا أخرى فتنبت حسكا وشوكا ، والويل للانسان الذى يستنشق الاحساك ويلاطف الاشواك ويدوس الورود الناعمة والزهور الزاهية .
ان آفة الانسان أهواؤه ، وان عبودياته التى لا تحصى نابعة من هذا النبع الراكد . ويظل مع ذلك يقنع نفسه بأنه خليفة الله على
الارض ، وان أعماله مصدرها العقل ، يخادع الانسان نفسه بأوهام يلبسها أردية الحقائق ، ثم هو يلون هذه الاردية بألوان مقبولة لا تمجها الاذواق .
قال أناندا : فأنت ترى اذن أن الانسان كائن بين الذئب والطفل . فيه سذاجة الطفولة وبراءتها ، وفيه مكر الذئاب ولؤمهم ، هو طفل ينساق لشهواته وغرائزه ، وهو ذئب حين يخفيها بأقنعة يسميها - منطقا - وما وراء هذه الاقنعة الا أنياب طويلة وحادة ؟
قال بوذا : قد يكون ذلك . ولكن يبدو لى أن الطفولة هى الجانب المسيطر عليه ، ذلك أن الخطأ هو الطابع العام لاعماله ، وهو كلما التفت الى الوراء متأملا سبيله التى سلكها أخذ نفسه بالنقد واللوم ، وأيقن من خطئه ، ان هذا برهان عندى على أن طفولة الانسان لم تنته بعد .
قال أناندا : ومتى ستنتهى اذن ؟ قال بوذا : لست أدرى ، فالانسان لا يزال معلقا بين السماء والارض ، واذا صعد الى السماء ، انهزم ، واذا هبط الى الارض انهزم ، أيضا وأغلب ظنى أنه لن ينتصر الا اذا استطاع أن يجد له مقرا حيث هو . فمكانته ومكانه ليست الارض ، وليست السماء ، فاذا ما نجح فى الانتصار على جاذبية الجسم التى تشده الى أسفل ، وجاذبية الروح التى تهفو به الى أعلى ، فقد وجد لنفسه مكانا مطمئنا واستقر حيث يجب أن يكون . وأملى فى الانسان عظيم ، أنه ما يزال شاكيا سلاحه ، لابسا دروعه .
قال أناندا : انى يا سيدى مع اعجابى بآرائك واحتياجى لتجاربك وخبرتك بالحياة ، أخالفك الرأى فى أن تكون آفة الانسان أهواءه وحدها فعقله لا يقل طغيانا واثما ، ذلك أنه كلما عصفت رياح الباطل وقصفت رعود الشر ، جاء العقل فبررها بمنطقه المعهود ، وسرد قائمة من الاهداف المعقولة فقال مثلا : انما حدث من كذا وكذا لم يكن الا بدافع الخير . . العدالة . . المساواة . . الحرية ، ، النظام ، المصلحة العامة . . .
حتى عهدنا هذا اللون من الاسماء ، وألفتها أسماعنا دون أن نفهمها كما ينبغى لنا أن نفهم ، أو كما ينبغى لها هى أن تفهم . فأصبحنا مقتنعين بأنه اذا كانت الغريزة هى الجانب الطفولى فى الانسان ، فان العقل هو نصيب الذئب منه .
أما يحق لنا يا سيدى ، أن نقول : ان الشهوة ضالة ، وان العقل كذاب ؟
قال بوذا : نعم ، نعم ، العقل دائما يطل علينا بالقيم ليبرر أعمالنا ، ومن هنا كانت القيم ألفاظا لم يبرز الواقع مدلولاتها الحقيقية ، انها ما تزال قضية نظرية ، ولم تتجاوز التبجح ، انها ما تزال لافتات اشهار وانها ما تزال تدير طواحين الضجيج ، وتصدع الرؤوس ، لم نر فى الواقع الا غرائز تتصارع ، وأهواء تتنازع ، وان اليأس ليذهب بى أحيانا الى الشك فى وجود ما يسميه الناس " عقلا " ذلك أنى لم أر فى حياة الناس العملية الا ضربين من الشهوة : شهوة عارية متبرجة كالمومس ، وشهوة متأدبة ، تخطر بين الناس فى استحياء وهذه هى التى انخدع الناس لها وسموها " عقلا
قال أناندا : لقد ذهبت بعيدا ، بعيدا يا سيدى ، ولست أريد أن تشككنى فى كل شىء ، فأنا مع حاجتى الى حكمتك ، أستضئ بها وأشيعها فى الناس ، فانى لا أريد أن أذهب مذهبك فى التنكر للعقل أو انكاره أما ترى فتوحات العقل فى العلم والمعرفة وكيف سخر ذلك كله لخير الانسان ، ومده بأسلحة شتى لحرب آلامه ؟
قال بوذا : أنا لم أنكر العقل ، ولكنى شككت فيه شكا قويا ، وان نتائج العقل وفتوحاته فى العلم لم تكن الا للرفاهية المادية ، أما سعادة الانسان فلن تحققها الطائرة ، ولا الباخرة ، ولا المركبة الفضائية . ان سعادة الانسان لن يحققها الا تحقيق القيم ، وفى هذا الصعيد بقى العقل في حدود النظر والنظريات ، كلما حاول أن يحقق شيئا جاءت المطامع والاهواء فخدعته فانخدع ، وصرفته فانصرف .
ليس هناك شئ يا بنى اسمه العقل ، وانما العقل هو ما نلمسه من سلوك انسانى نعيش نتائجه ، وما دامت بنات العقل - وهن المثل العليا - أحلاما وأمانى ، تعيش فى عالمها العلوى البعيد منذ حدثنا عنها - أفلاطون - فان قضية العقل والمعقولية ستظل محل شك وريبة عندى أنا على الاقل
قال أناندا : أنت اذن يائس ؟ قال بوذا : ليست القضية قضية يأس أو أمل . انها قضية عمل وكفاح
فقد تحقق بعد لحظة ما كنت يائسا منه كل اليأس ، وقد يفرط منك ما كنت واثقا منه كل الوثوق
أنا لست من أنصار اليأس ، ولا من أنصار الامل ، ولكنى أرى أن للانسان قدرة على العمل ، وهو اذا وجه عمله الى قصد بلغه مهما كان بعيدا . ان القضية عندى أن الانسان لم يوجه ما يسميه - عقلا - فى كفاحه ضد الشر النابع من نفسه ، بالقدر الذى سخره لمطالب الشهوة والغريزة .
قال أناندا : والغريب أننا لا نشعر بالنشوة واللذة فى تحقيق مطامعنا الا متى كانت على حساب الضعفاء منا .
قال بوذا : ان قوة بعضنا ، وتسلطهم واستعلاءهم هى افرازات الضعف عند آخرين ، انه لا معايشة بين الحق والباطل ، فاذا رأيت الباطل يصول فاعلم أن الحق استكان ، واذا رأيت القوة تزمجر ، فاعلم أن الذل والضعف يغذيانها .
ان الانسان لم ينتصر على الطبيعة الا ليسخرها فى خلق حياة شاذة ، والواقع أن انتصاره على الطبيعة وهم ، فالطبيعة هى المنتصر أليست الغريزة وما يتبخر منها من حب للسيطرة ، والاستغلال ، والقهر ، وطلب الشهرة ، والتبجح ، والانانية ، أليست كل هذه الشرور هى الطبيعة ذاتها ؟ وان شئت أن تأخذ مثلا من حياة الطبيعة دليلا على ما أقول ، فاذهب الى أى غابة أو دغل من الادغال وسترى ما حدثتك عنه وأخبرتك به ، سترى ذلك فى حيوان الغابة ونباتها وحجراتها ، وكل مظهر للحياة فيها
قال أناندا : هو ذاك يا سيدى . ان عجبى ليس من الاقوياء ، فالاقوياء يحققون غرض الطبيعة حين يهوون السيطرة ، ويتلهفون على القوة . فالقوة لا توجد الا بالضعف كلما علمتنا يا سيدى ، ولكن عجبى من ضعف الضعفاء ، وذل الاذلاء ، كيف رضوا بذلك ؟ وكيف ظلوا ينخدعون للأقوياء ؟ فاذا أبوا أن ينخدعوا كشف الاقوياء عن أنيابهم وزمجروا ، فاستكان هؤلاء وطأطأوا الرؤوس وساروا فى قافلة الذل يرددون : " نحن أحرار ، نحن شباع ، نحن نحن أحرار وشباع الحمد لله والشكر لكم أيها الاسياد الكرام العظماء . . . "
قال بوذا : ها أنك أخذت تهذى ، ورجعت بنا الى هموم الناس اليوميه . لكن ما دمت قد أثرت هذه المشكلة ، فانى سأرضى تطفلك الى المعرفة ان مصدر ما يقاسه الضعفاء من عبودية تجعلهم يرددون ما يسمعون ، وقلوبهم تنكر ما تقول أفواههم انما هو - الخوف - نعم : الخوف
ان الخوف غريزة أيضا ، فاذا كان حب التملك والسيطرة غريزة تمنح القوة وتسخر الناس للصراع فى سبيل البقاء ، فان الخوف غريرة تسخر الضعفاء الى الاستسلام فى سبيل البقاء أيضا . فالقضية قضية تنوع في الغرائز لا غير . أما القيم فقد اختفت من حلبة الصراع ، ولا خير فى الاتباع والمتبعين
قال أناندا : ان الخوف فيما يبدو لى مسؤول عن كثير من الشرور والآثام ، ألا تحدثنا عنه ؟ ما هو ؟ ما مصدره ؟ وما سبيل الخلاص منه ؟
قال بوذا : ان ذلك يطول ، وليس الحديث عن الخوف من تعاليمى ولا مما أوحى به الى
