الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

حديث بين العلم والمال

Share

المال : ألم يبلغك أننى الحلة النفيسة ، التى تحجب كل دنيئة وخسيسة ، بل حلتان يرتديهما الانسان احداهما محتشمة نضيرة ، والاخرى تدرك بعين البصيرة ، فالاولى تشهد لها الحواس الخمس ، وهى النظر والسمع والشم واللمس ، فالعين تمتلئ بذاك الزى اللطيف ، والاذن بالخشخشة والحفيف ، والكف بنعومة الخز الرقيق ، والانف بالعرف العبيق ، بهذا شهدت الحواس ، ان المال زينة للناس ، وقال رب السماوات العليا : المال والبنون زينة الحياة الدنيا .

العلم : تقول ان الحال لبوس ، مشاهد ومسموع وملموس ، وقد حكمت بذاك الحواس ، وزال الريب والالتباس ، فما قولك فى حكم لم يشارك فيه العقل ، ولا أيده النقل ، بل تفرد به الاحساس ، وابرقته الحواس ، ولعمرك لو استشرت النهى ، من قبل أن تفتح المرتقى , واقتبست منه بعض النور ، لما تخبطت فى هذا الديجور ، ولما ركنت الى هذه الاحكام ، ولا اعتبرت اولائك الحكام ، فهذا شأنهم مهما استقلوا ، فكم حادوا عن الطريق وضلوا ، أما العلم فهو حلة الخلق , التى لا تعتريها خلوقة ولا خرق ، لكنها تبدو لكامل البصيرة ، وذى الفكرة المستنيرة فيراها أفخر الحلل ، وصاحبها أعظم بطل ، فهى الحلة الخفية ، والثروة المخيفة ، ولكنها لا تبدو للعيان ، الا بعد برهة من الزمان فتلتف حول حاملها الرفاق ، بل يكاد يحمل على الاعناق , ويجمعون على اجلاله ، وهو فى اطماره واسماله ، واليك هذه الأبيات ، يا أبا الحلات :

العلم سيف لو علمت صقيل   تصل السماك بحده وتصول

العلم من زهر العقول لذاك قد  زهرت به بعد القرون عقول

إن العليم اذا دهى . ذو عدة   وأخ الجهالة أعزل مكمول

المال : لقد تطرفت يا أبا اليراع ، وملأت بزخرف كلامك الاسماع ، واخيرا        زعمت أن ستأتى بالاعجاز ، اذا التجأت الى الصدور والاعجاز ,        وحققت بها الكلام ، وزعمت انها خير ختام ، فحد عن هذا المجال ,        فلسنا فى ليلة احتفال فما جئت به لا يسمن ولا يغنى ، ولو رفعت        عقيرتك تغنى ، وها أنا مصور لك ليلة ماجلة ، فى حلل السعادة

رافلة ، ومجلسا دلت على عظمته البسط والنمارق ، وما حداه من كل نادر وخارق ، رصعت جدرانه بالصور ، فكانت دليلا على قاض معتبر ، فهب أن صاحبك كان من المدعوين ، بفضل غلط بعض التابعين ، وهبه وقف على الباب ، وهو بتلك الثياب ، يحاول خلع مداس أبى القاسم الطنبورى ، اذ رأى هذا للياقة ضرورى ، ودخل بتلك الجلالة والعزة ، فى أحسن طلعة واجمل بزة ، وقال السلام عليكم أيها الصحاب ، فردوا عليه باقتضاب واقتصروا على كلمة سلام ، وكان آخر الكلام ، فاتخذ مقعدا فى زاوية ، وكأنما ابتلعته الهاوية ، وتجنب القوم رؤيته ، واستثقلوا صحبته ، فدخل فى طى النسيان ، ولم يعد يشعر به انسان .

العالم : مقاطعا - نعم كنت امتطيت الخيال ودخلت معه المكان ، واكبرت مهابة السكان ، وشاهدت دخول الشيخ ذلك المقام ، وسمعته يلقى التحية والسلام ، ورأيت صاحبك فى صدر الايووان ، بين اولائك السادة الاقوام ، فى تجلة واكرام ، واكبار واحترام ، والغريب أنه ليس بمعقول بل رحبوا به اكراما لاثوابه كما تقول ، ثم رأيت بعد أن أهدى الشيخ سلامه ، بانت على فم صاحبك ابتسامة ، دلت على الاستنكار ، والاشمئزاز والاحتقار ، ولاحظها الشيخ فى رمسه , فأصرها فى نفسه ، وفى هذا المقام ، يحسن الانتصاف والانتقام , أطل الشيخ بعد حصة من ضريحه ، وتكلم ببليغ القول وفصيحه , موجها الى صاحبك العبارة ، بكل بساطة وبعض جراءة وجسارة , رأيتك يا أبا الدرر والانعام ، تبتسم عند اهدائى السلام ، ففهمت أنك تنبهت الى الحكمة الشرعية ، فى القاء التحية ، وكونها سنة وردها فرض كفاية ، كما قررته أهل الدراية ، فهل عندك ما تقول , فانى ارى عليك مخائل الفحول .

الثرى : الكفاية أن تكتفى بالتحية وردها ، ولا يحتاج الى قول بعدها ، فاذا ألقيت التحية المعتادة ، فلا نلزمك أدنى زيادة ، وأما كيف أمسى السيد وكيف أصبح ، فليس من التحية على القول الاصح .

الشيخ : احسنت أن ثقافتك حسنة ، جارية غير آسنة ، تمر على المعقول ، وتجر معها المنقول ، فهذا الذى سألتك بسببه ، لانك أحطت بما لم أحط به ، وجئتنى بنبأ يقين ، من دون تأمل وتخمين ولعمى ان مواهبك اجرت منى ما كان جامدا ، واضرمت فى ما كان خامدا , فتذكرت أنه منذ أيام سالفة ، تخالفت مع بعض الغطارفة ، فى تراكيب لغوية ، وأساليب عرفية ، وكثرة الروايات ، واختلاف السادة النحاة ، حتى قادنا الجدل ، الى باب الثنازع فى العمل ، فذهب على مذهب الكوفيين ، وصوبت أنا رأى البصريين ، فمن تراه أيها العليم ، على سراط مستقيم .

الثرى : نعم ان التنازع أمر مشين ، وسلوك مهبن ، وهكذا حال النجاة , فى سائر الاوقات ، فالى متى هذا النزاع ، وحتام التمادى والقراع , ولعمرى ان ذلك لمن اكبر الاسباب ، لتقهقر ذوى الالباب .

الشيخ :  ثم ذكرنا علم العروض ، وهل زائد أو مفروض ، وهل من شروط الانشاد ، ان تعلم الاسباب والاوتاد .

الثرى : ان معرفة الاسباب والاوتاد ، واجبة على كل العباد ، فما شيدت هذه القصور التى مرت عليها العصور ، الا بالاوتاد والاسباب ، وبها شقت السفن العباب .

الشيخ : ثم اقلنا قطار البحث السريع ، الى رياض علم البديع ، فدخلنا من بعض ابوابه ، واحتسينا من لذيذ شرابه ، وتجولنا بين حدائقه واغراسه ، واقتطفنا من اجناسه وجناسه ، وملأنا الاطباق من الاقتباس والطباق ، فهل عندكم بعض الحقائق ، على هذه الدقائق , وهل تجولتم فى هذه الرياض ، وارتويتم من تلك الحياض .

الثرى : رحم الله الشيخ بديع ، فتالله لقد فاق الجميع ، وفاز على الاقران , وقام بما يعجز عنه الانسان أليس هو مصدر كل علم ، وينبوع التصور والفهم ، وما نسبوا العلم اليه ، واقتصروا به عليه ، الا لطول باعه ، وسعة اطلاعه ، والاحاطة الكاملة ، والفكرة العاملة , ففى قولهم علم البديع ، عبرة لكل عليم ضليع .

الشيخ : أحسنت ، يقال يا أبا الرياءات ، أن للشيخ مقامات ، بل آيات فى البيان ، سارت بذكرها الركبان ، فهل بلغك هذا الخبر ، وهل اقتفيت هذا الاثر .

الثرى : نعم اقتفيت ذلك الاثر ، وأحطت بصدق الخبر ، فعلمت أن له من علية المقامات ، ما تطأطأ له الهامات ، تطاول الاعلام ، وتلتحق بالغمام .

الشيخ : أحسنت ، ثم تناولنا الخريطة ، وسيرنا البصر فوق البسيطة , وواصلنا الترحال ، نفتش على أعلى الجبال ، فما اهتدينا اليه ، ولا عثرنا عليه ، فهل تعلمون هذا العلم ، الذي علت قمته على كل القمم ، وفى اى البقاع ، وكم له من الارتفاع .

الثرى : أعلم هذه الاوصاف ، لا تنطبق الا على جبل قاف ، فهو المحيط بالدنيا ، والناطح للسماء العليا .

الشيخ : أحسنت ، أما نحن فلم نجد له فوق البسيطة من أثر ، ولا علمنا له فيها مستقر .

الثرى : عليك بسيرة ذى يزن ، فهى مستودع هذا الفن ، ففيها البيان

والتفصيل ، والاقناع وارواء الغليل ، وانك لواجد فى الصحف العتيقة ، ما لم تجده فى التى على أحدث طريقة ، فاغترف من هذه المؤلفات ، فان منهلها عذب فرات ، ودع الخرائط والصور ، وغص فى يم تلك السير ، واستخرج منه ما ينفع الناس ، ويعلو على الابريز والماس ، أنا أقسمت أن لا أطالع كتابا فيه صورة ، ولو كانت لحورية مقصورة .

الشيخ : ثم قصدنا التاريخ المجيد ، حتى وقفنا على باب هارون الرشيد ، ذلك الملك الهمام ، وغرة جبين الايام ، ولكنه محاط بأسرار , تتخالف فيها الافكار ، ولا زالت فى ظلمة حالكة ، ولا سيما فيما يتعلق بالبرامكة ، فهل عندك يا ذا الرأى السديد ، مفتاح سر هذا الملك العتيد .

الثرى : ان الملك هارون الرشيد ، هو صاحب البئر المعطلة والقصر المشيد , وهو الملقب بذى الاوتاد ، وهو الذى جاب الصخر بالواد ، وكان يدعى فرعونا فى اول أيامه ، ثم دعى هارون بعد اسلامه .

الشيخ : أحسننت ، ثم اضاءت أشعة الكهرباء ، بمجالس الشعراء والادباء ، فمرت علينا الايام ، مرور دائرات الافلام ، ولاقينا منهم الاعلام ، فى الجاهلية والاسلام ، ثم تخطيناها الى مجالس النساء ، وتخيرنا مجلس الخنساء ، فروت لنا من أشعارها ، وسقتنا من عصير افكارها , وسبحنا فى معانيها ، الى أن بلغنا قولها فى رثاء أخيها :

وان صخرا لتأتم الهداة به          كأنه علم فى رأسه نار

فهل عندكم المام ، بهذه الصخور الاعلام .

الثرى : أعوذ بالله من احتراق العلم ، فانه علامة جيش منهزم ، وعنوان التقهقر والانكسار ، وطليعة الخراب والدمار ، فهل تحرق الاعلام ، والجند الى الامام ، فسحقا لهذا الفكر الشاذ ، والغزل البارد .

الشيخ : أحسنت يا أبا النقود ، فيما بذلته من الجهود ، فلقد ظهر من براعتك , ما دل على فقدان ثقافتك ، وثبت فيما ابديته من الآراء ، أن كل الصيد فى جوف الفرا ، وأظن أن هؤلاء السادة ، لم يتعودوا منك هذه الاجادة وما اكتشفوا هذا الكنز الثمين ، الا بفضل هذا المسكين ، أما وقد استمعوا لكلامك ، وتبينوا منزلتك ومقامك ,

فسوف يرفعون جثتك فوق الصدر ، ويطيرون بها الى منازل البدر ، وسيكون خروجك من هذا الاحتفال ، كدخولى الى هذه الاسمال ، ولتعلم بأنه اذا تثقفت العقول ، وارتوت من المعقول والمنقول ، لا تضرها البطون الطاوية ، ولا الجيوب الخاوية ، وسوف يبتسمون من بزتك ورؤاك ، ولكنك لا تدركه لانه من وراك ، فسبحان من أدخلك كما خرجت ، وأخرجك كما دخلت ، فكأنى استعرت حلتك البديعة , واعرتك عباءتى الفظيعة ، والعبرة بالختام ، وعليكم السلام .

اشترك في نشرتنا البريدية