* الشعر هندسة حروف . . والشعراء مهندسون ، لكل واحد منهم طريقته في بناء الحروف وتعميرها . فالحجر متوافر للجميع . ولكن القلة من الموهوبين هي التي تعرف أين تضعه ، وكيف تضعه . وبالرغم من اعترافنا بوجود قواعد اساسية للفن الهندسي . . فان حرية المهندس تبقى لا حدود لها . وهي التي تتيح له في كل لحظة ان يحذف ويضيف ويعدل في تفاصيل مخططه حتى يقتنع بكماله الفني . !
* لماذا الارتباط ذهنيا ونفسيا وعاطفيا ووراثيا بنماذج من القول والتعبير . نعتبرها نهائية وصالحة لكل زمان ومكان . ونرفض أى تعديل لها . . تماما كالقدر المحتوم . . لا نملك له دفعا ولا ردا . . اننا نبيع حريتنا . . وهي أعز ما يملك بنو آدم . . ولا نريد الراحة . . وهي أثمن ما يسعى اليه البشر . . ولا نكترث بحاضرنا . . وهو أغلى ما يحب الناس . . يا لها من حياة أرحم منها الوحدة النائية مع الطحلب والديدان . ومبع الصحراء القاحلة والرمال الجافة . . فهل اكتفينا بذلك ؟ !
* يا اخي في الشرق ، في كل سكن يا أخي في الارض ، في كل وطن انا ادعوك فهل تعرفني ؟ يا أخا اعرفه . . رغم المحن . . انني مزقت اكفان الدجي . انني هدمت جدران الموهن لم اعد مقبرة تحكى البلي . .
لم أعد ساقية تبكى المدمن . . لم أعد عبد قيودي . . لم أعد عبد ماض هرم . . عبد وثن . . انا حي خالد رغم الردى . . انا حر رغم قضبان المزمن فأستمع لي . . استمع لي . . انما اذن الجيفة صماء الإذن !
. . ما من موضوع ادبي اثار الاقلام في عالمنا العربي . . وحفزها . . ولا زال يثيرها ويحفزها . . كما فعل ويفعل موضوع الشعر الحر .
وموضوع الشعر الحر هو معركة القديم والجديد في الشعر العربي ، واحتكاك القديم بالجديد أمر حتمي في كل مجتمع . . المجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك كرياته الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحياة .
ومعركة القديم والجديد نقد ، والنقد فن التقويم . . به يعرض على التمييز كل ما تقع عليه العين ، ويسقط في السمع ، وتلم به الاحاسيس ، وتدركه العقول .
واذا كان التعميم والتبعيض يعتريان النقد فقد صح أن يتناول النقد نواحي منفردة من آثار الحياة في الثقافة والابداع ، أو أمورا مجتمعة في مظاهر الجماعا ت . . فكان نقد الادب واقعا على منتج القرائح وثمار البيان في الشعر الحر .
ان المعمل الادبي - في ناظري - كائن متحرك . ومتموج . . وله وجوه عدة . ولا يكشف عن كل ما فيه دفعة واحدة . ومن وجهة نظر واحدة . . ان الحقيقة الادبية مثل الحقيقة العامة . نسبية . . لان في كل منا وجهة نظر . . وما أكثر ما تختلف وجهات النظر الى الشئ الواحد !
ومن هنا . . كان لا بد من ان ترسل الاقلام - في بلادنا - في اثر هذا الشعر . فتلاحق اية قصيدة حديثة : وتنسبها الى (الشعر المحطوم) حينا ، والى ( الشعر المستورد ) حينا ، والى ( الشعر العيي ) حينا ؛ إلى غير هذه النسب :
وأذكر ان صديقا لي ، عنده وقفة على أعتاب باب الادب . . فقد استهواه الادب . . وراح يغترف أول ما يغترف من بعض مناهله . . وأهم منهل ورده من مناهل الادب - منهل الشعر الحر - لسوء الحظ . . ولقد عرفت فيه انفجارا في نفسه . . ينطلق الى الخارج ليرتسم كلمات قلقة . . باهتة . . ترسم بصدق . . صورة انسان قلق . باهت . . وتخطط لوح تجارب . . تقتات من اعصابنا . . وتطرح على الطريق احشاءنا . . بعبث ظاهر . يجتاح شعره الحديث . . بتفصيل . واسهاب ٠٠ وحرية كاملة . . دون قيود . . ونظام يخضع له . . فهو إنسان يسكن حينا ويهدأ . . ويتمرد ويثور حينا آخر . . هذا هو صاحبى المفضال الذي بدأ بدايته بهذا التيار الجارف من الشعر الحر . . بقوة نابعة من موطنه . . بدأ بدايته وقد بدأ نقد الشعر الحر وانواع الشعر الباقية متصلا باظهار نقصها وتمامها ، وخطئها وصوابها ، وبدأ نقد الشعراء المحدثين متناولا آثارهم في مرافقهم ومعايشهم وميولهم واعمالهم وما تبدع افكارهم وتصنع ايديهم من اعمال ادبية محدثة فى اشتات صفاتها ، وعديد اشكالها يدعو انهم مراد الناقدين ، ولذا فقد قاسوا على نتاجهم اضرابه واشباهه ، وابانوا به معاييره ، فكانما النقد بذلك قد توجه الى نشدان الكمال ، والتماس المثل العليا ، واصبح هو الرقيب الذي يروز بميزانه الامور ويمحص بأحكامه الاشياء فيفرق بين الفوق والدون .
هذا الشاعر الذي أحببته . . له قواف ومنظومات عفوية : دافقات المشاعر . .
مشبوبات العواطف . . مراهقات القوافي . . عربيدات المعانى . . يرسلها على عواهنها حين تجنح به الاحاسيس . . وتشتط به المشاعر . . تستمع اليه . . فيتغلغل في اعماق نفسك . . ويصور هواجسك واحلامك . . لتنساق مع اللحن كالاسير لا تستطيع منه فكاكا . . وتشعر بتنميل يسري في جسمك ك " البنج " لا تستطيع معه حراكا . تشعر بكل هذا دون أن تفكر في الشاعر او القصيدة . . بل تنساق مع اللحن . . ومع الكلمات . . ومع المعاني . . ومع العواطف ، وانت في هذا كله لست عاميا ان كان شاعرنا هذا عاميا . . . . ولست فصيحا ان كان هو كذلك . . اذ تمحى هذه الفوارق ، وتبقى الخاصة الانسانية التى تجمعك به رغم اختلاف الثقافة والميول . . هذا الشاعر الصغير الذي صور في كلماته الجميلة مشاعر ومعانى كبيرة . . جاءنى يوما بادي المغضب . . وعلى وجهه من الهم ما يحز في نفسي . ويجعل قلبي يبكي . . ويجعل عيني تدمع مدرارا .
قلت لنفسي : لعل ميلاد قصيدة حزينة جديدة . . تتفاعل في ذهنه . . ويتجاوب معه قلبه . . ويسببان له ضيق الخلق . . فيبدو - كما بدا - متبرما . . مقطبا . . كانت ابتسامته كثوب اليتيم باهتة . . صفراء . . وحيدة . . فقد لاح لعيني نحيلا . . كأنه عود من غاب طال وضعه في الشمس . . كان انيقا ولكن اناقته ما عادت اناقته . . لهزاله بدت وكأنها ليست ملكا له . . فكرت ان اسأل ما به . . ولكني لم افعل . . وانتظرت ان يسمعني شيئا مما نظم - لانني اعتدت أن اسمع منه الكثير والكثير جدا من رعشات قلبه وشذراته التي ما انفك ينثرها لي بين
اليوم والآخر . . بل قل بين الفينة والفينة . . تلك التي تنبض بالشاعرية الرقيقة . والحس المرهف . . والتفكير العميق . ولكنه لم يفعل . !
عندها لم أجد بدا من ان اقول له . . هل ادعك يا شاعري لتخلو الى نفسك ؟
قال : اياك ان تفعل . . لانني لن أنظم بعد الآن . .!
فحسبت ان في الامر جدة . . وأردت ان اسأل . . ولكني سمعته يتمتم : المعاني فرت . . الجزالة المحلوة نأت . . الصور الجذابة تلاشت . . الخيال المحلق لم يبق له أثر . !
فبادرته . . هل ماتت ملكة شعرك ؟ !
فأجاب بشئ من البلادة . . لا ، لم تمت . . ولكن رأسي يكاد ينفجر . . أحس بآلام شديدة في فروة رأسي . . ليس مبعث الالم مرضا عضويا . . بل هو مرض سببه الكتاب الادباء . . الذين طعنوني في ظهري ونالوني بالسوء . . وزعموني هاويا احاول الهرب من الطريق الصحيح الى طرق ملتوية أخرى . . بحثا نحو ينابيع المشهرة . . وروافد المجد . . ان عشرين وسادة لم تعد تكفى لراحة رأسى . . وجع في الرأس . . وعاطفة مشبوبة تموت في بطء شديد . . وتعب شديد في ارجاء جسمي . . ويصيب التعب ذهني بالكلل ويؤثر على مزاجي . . فاذا انا في ضيق . . انني افكر جديا ان اخلى هذا السبيل . . اجل مسمي . . إذا وجدت ان كل من حولي يمرنون حياتهم . . ويجبرون واقعهم المعاش على تقبل الصدق ، الذي يتجسم في الشعر الحر منه في غيره من انواع الشعر . . اذا وجدت ان كل من
حولي يجبرون الشعر على ان يكون منبرا حرا . . بكل ما في الحرية من معنى . وان تكون هذه الحرية سبيلا من سبلها . . لا تحيد عنه . . فهي التي تولد الانفجار في النفس . وذلك هو الشعر الحر . . وهو اسم على مسمى .
وزال تقطيبه . . واردف قائلا . . وهل من الضروري بمكان . . ان اكون شاعرا مع البحور الشعرية . . كما فعل المتنبى . . والمعري . . والشريف الرضي . . والبحترى . . انهم وجدوا في بحور الخليل المجالات الواسعة ليقولوا في الشعر بعض اغراض الحياة . والناس والمجتمع . . ونحن وجدنا في بحور القرن العشرين المجالات الاوسع لنقول في الشعر كل اغراض الحياة والناس والمجتمع . . لماذا لا نغير اتجاهاتنا قليلا بعد التحليق مع الشعراء والادباء في اجواء " رومانتيكية " حالمة ؟ !
ثم ، لماذا هذه الاحتجاجات والتقولات . . انني أود أن أشير الى نقاد الادب الى ان المجال فسيح . . وميدان المنافسة شريف . . للتعبير عما يخالج النفوس . . ويجيش فى العقول من آراء . . وفي القلوب من رعشات !
لم يأبوننا ؟ لم يتذمرون منا ونحن نصور واقعنا الذي نحياه ؟ ألا يجوز ان يكون تصويرنا اصالة ؟ وطريقتنا الجديدة اصيلة ؟ أم ما كان اصيلا منذ الازل لا يجوز ان يأتي بعده أصالة ؟ !
ثم ، إذا كانت الاصالة في القدم عند المتنبي والبحتري . . والمعري . . والشريف الرضي . . وغيرهم . . لكنها اصالة مرت عليها اجيال على هذه الارض السيارة . . وارتحات . . أفتبقى بعدها
قوانينا . . مجبرة على المحافظة عليها قلبا وقالبا . . فلم يجسر أحد أحدثا على تغييرها او بعضها .
ووقفنا عندها . . لم تحرك ساكنا . مكتوفي الايدي . . ولا من جديد يبث في النفوس روح القوة والحيوية والتجديد . . أعيب بالله عليك ان نكتب شعرا بدون عمود ولا قافية ولا وزن واحد . . وبدون ان نقدم صيغة جديدة لمفهوم الشعر الجديد اذ لا مفهوم في رأيي - له ؟ !
اما آن الاوان لما لان نكتب الشعر على " العود " و " الكمان " و " القانون " و " البيانو " و " القيثار و " الاكسفون " و " الكنترياص " و " التشيللو " . . بدلا من أن نعتمد على الآلات القديمة من " الربابة " و " الجوزة " و " الطبل " ؟ !
لا أعني بهذا ان العمود والقافية والوزن قد انقرض عهده او سينقرض . . بالعكس ، انما الذي أعنيه هو . . ما الذي يمنعنا من ان نصيد طيرين بحجر واحد ؟ وهذه ظاهرة شد ما تنتابني . . ولا أدري ماتاها كلما شهدت صراعا كتابيا يحتدم بين مدافع عن الشعر الحر . . وآخر عن الشعر الموزون . . فاتساءل . . ترى . . اي سر محجب في هذه الظاهرة ؟ !
واحر قلباه . . أعلينا وحدنا يشنون حملتهم للدفاع عن المشعر الموزون ؟ . وهم الذين عاشوا هذه السنوات الطويلة في رتابة وملل . . راضين باوضاعهم . . ملتصقين بالمكان المذي ربطوا فيه . . مقتنعين بمستوى معين من التفكير . . ومن الحكم على الأشياء . . وتمضي الأيام . . وتصبح شهورا وسنين . . ومع ذلك لا جديد . . يبحثون في عقولهم . . فيجدونها كالبركة
الآسنة تجتر طحلبها . . وتأكل ديدائها . . فيغورون الى عاطفتهم فاذا هي قاحلة كالصحراء . . جافة كرمالها . فاذا حاولوا استثارتها . . اهتزت اوراقها الجافة اليابسة بين ايديهم ، وتفتنت على الارض . . ويعودون الى رتابتهم وخمودهم . وتنسيهم احداث اليوم احداث الامس . . . وبين الماضي والحاضر . . يبقون مجرد شئ من هذه الأشياء التي تزداد تفاهتها كلما قل انفعال عاطفتهم وارتجاج عقولهم . كل شئ صامت كالقبور . . هامد كالاموات عندهم . . في الصحراء تتفجر الآباز الرعناء . . وفي قعر البحار الهادئة تسكن الحيتان المتوحشة .
انهم يبيعون حريتهم . . وهي اعز ما يملك بنو آدم . . ولا يريدون الراحة . وهي أثمن ما يسعى اليه البشر . . ولا يكترثون بحاضرهم . . وهو اغلي ما يحب الناس . . يا لها من حياة ارحم منها الوحدة النائية مع الطحلب والديدان . . ومع الصحراء القاحلة والرمال الجافة .!
فهل اكتفوا بذلك ؟ ! ان الانسان منذ غابر العصور يحاول ان ينطلق من عقاله . . الى أجواء الفضاء . . ان بالمونا يرفعه الى علو مائة ألف قدم لهو بالون عجيب . . وان امرءا يحتمل الظروف الجوية على هذا العلو الشاهق لهو امرؤ اعجب . !
فعلام الملام - اذن - والام العتبي ؟ ! لقد انطلقنا اخيرا . . لقد طرنا . . وها نحن أولاء نعيش أياما حافلة . . يسجل فيها التاريخ احداثا كبارا . . لا يستطيع الانسان ان يقف بمعزل عنها . . وهي تشكل جزءا من حياته . . وحياة بلاده . . وحياة عالمه . . والاحداث الكبار التي تتواتر على جيلنا قد
حملت شعراءه مسؤولية كبرى . . لا اظنهم بمستطيعى الخلاص من تحمل اعبائها . . ومن تأدية واجبهم نحوها . ان هم استمروا على هذه السلبية المطبقة
ان الذين عاصروا هذه الاحداث مطالبون - وربى - أمام التاريخ بأن يقولوا فيها كلمتهم . . بتجرد . . وصدق . . وأن يعبروا عن أحاسيسهم تجاهها بأمانة . . وانصاف فهم يمثلون المرأة التي تنعكس منها صور الاحداث على الاجيال القادمة . . ومن خلالهم . . من خلال انتاجهم . . الباقي على الزمن . . في كلمات قصيرة من المنوع السهل السلس . . فاللغة ليست غاية بحد ذاتها . . أبدا . . اللغة ليست الا رمزا للتعبير . . . وهي في اغلب حالاتها تعجز عن نقل الانفعال وعن تصوير الفكرة . . ولعل هذا أحد أسباب ظهور الرمزية في الشعر الحديث . . باعتبار ان اللغة فقط وسيلة لنقل الايحاء النفسى من شخص الى آخر . . والكلمات السهلة السلسة هى أقرب ما تكون الى نقل هذا الايحاء . .
واذا كان اعلام الشعر الغربيون استطاعوا ان يتغلبوا على مشكلة التعبير هذه ، وعلى الخروج بالشعر من التصوير المحلي الى الفضاء الرحب الفسيح . . الى التغلغل في أعماق النفس البشرية ، وتصوير هواجسها واحلامها . . فتارة ينظمون الشعر وكأنهم يؤلفون الموسيقى . . جمالا صافيا . . وطورا يستفزونك . . ومرة يقومون معك برحلة شعرية من طراز فريد . . يبدأونها من حيث الاعشاب تتكسر تحت الاقدام الموصلة حينا . . وحيث الاقبية الرطبة حينا . . وحيث التوابيت المكتنزة بالاحقاد والمخاوف حينا . . وحيث الاشجار السوداء والظلال
الحقيرة حينا . . وحيث الدهاليز والمفاوز والمشاعر الصفراء حينا . . المهم ، تتخذ رحلتهم هذه من الشعر مركبا لها . . وتستهل سبيلها متخذة حملها من هذه الاجواء جميعا . . حصيلة من الضياع . . والغربة والاحساس البالغ بالجماعة تحت سماء فسيحة لا حدود لها . . هي الملامكان
رحلة شعرية . . لغة الشاعر فيها وتعابيره وصوره تتطور بتطور مراحله وانتصاراته وقيمه الجديدة . . الغنائية عنده هي الطابع المميز للكلمة والتعبير . بل تثب احيانا الى حد الخطابة . . والتجسيد والتصوير وابراز القسمات هو من أظهر سمات قدرته .
لقد تطورت ادوات الشاعر التعبيرية مع تطور وعيه وتكامل حسه بالواقع . . وما تزال امامه مراحل عديدة . . ما أجدره بأن يخطوها في ثقة .
فهل استطاع الشعر العربي شيئا من هذا ؟ !
مع الاسف الشديد ، لم يستطع . . وحتى شعرنا الحديث . . والذي يسمونه (عصريا) انما هو صورة لم تكتمل . . وانى لها ان تكتمل وهى تعيش في جو مشحون بالانفعالات والمقالات المتوفرة ؟ !
ولهذا لن نكون طامعين في الاستماع والقراءة لزمن طويل لشعر عربي حي ليكون هو الأنعكاس الحي للرؤى التي تسبح في وجداننا . . للقلق الذي يساورنا . . للخلاص الذاتي . . ان ذاتنا كذاته . . تريد ان تستفيق من احقادها . . ان تتحرر من قيودها العاطفية . . وتخرج من اقبيتها المظلمة .
الذين عاصروا هذه الاحداث مطالبون أمام التاريخ بأن يقولوا فيها كلمتهم بصدق وتجرد . . وأن يعبروا عن احاسيسهم تجاهها بصراحة وأمانة . . فهم يمثلون المرأة التى تعكس منها صور الاحداث على الاجيال المقادمة . . ومن خلالهم . . . من خلال انتاجهم . . الباقي على الزمن . في أوزان وقواف واعمدة جديدة يورثون الاجيال القادمة حقيقة الاحداث الكبار التى عاش فيها هذا الجيل .
وسكت برهة . . ثم قال : دعني الآن أعكس لك بعض أحداث ( محمد الفيتوري ) من خلال مرآة الشعر الحر . . ومفهوم بداهة ان الشعر لا يؤرخ . . ولا يسجل وقائع . . انما هو يعكس أحداثا كبارا من خلال أبطال الموضوع . . انه يعرض قطاعا من حياة ناس . . يحسون في أغوارهم الباطنية احساسا بالغا بالضياع لانهم لا يستشعرون انتسابا حقيقيا الى وطن . . هو زنجي الجد من أعالي بحر الغزال . . وهو مصري الام . . وهو سودانى الوالد . . ان بشرته السوداء تقيم بينه وبين المدينة التي يحيى فيها حاجزا كثيفا . . يحرمه المشاركة والاندماج . . . ويؤجج في باطنه مشاعر مريرة صفراء . . ويشحذ حساسيته . . لان المدينة تكاد تكون مقفلة على البيض . . فهى لا تعرف الوجه الاسود الا خادما ذليلا . . وجعل يقرأ علي من ( اغانيه الافريقية ) :
( ألان وجهى اسود . .
ولان وجهك ابيض . .
سميتني عبدا . .
ووطئت انسانيتي . .
وحقرت روحانيتي . .
فصنعت لي قيدا . .
وشربت كرمي ظ لما . .
وأكلت بقلي ناقما . .
وتركت لي الحقدا . .
ولبست ما نسجت خيوط مغازلي . .
وكسوتي التنهيد والكد . .
وسكنت جنات الفرادييس . .
التي بيدي نحت صخورها الصلدا . .
وانا . . كم استلقيت في كوخ الدجي .
أتلفح الظلمات والبردا . .
كالمشاة . . اجتر الكآبة . .
عاقدا حولي دخان تفاهتي عقدا . .
حتى اذا انطفات مصابيح السما .
وانساب نهر المفجر ممتددا . .
أيقظت ماشيتي الهزيلة . .
وانطلقت أقودها لمراحها قودا . .
فاذا سمن نعمت أنت بلحمها . .
ونبذت لي الامعاء والجلدا . .
لا يا اخي
ان التهاب مشاعري هيهات بعد اليوم
ان يهدا . .
هيهات . .
لم اخلق عليها بومة . .
تقتات بالديدان او قردا . .
انا كائن امي وامك طينة . .
والنور ليس لاينا جدا . .
فالام تحرمني حقوقي ؟ !
بينما تلقي السعادة انت والرغدا . .
والام تستعلي بأنفك سيدا ؟
وانا اطاطئ هامتي عبدا ؟
اني صحوت . .
صحوت من أمسي
وذي فأسي تهد قبوره هدا . .
سأكون نارا . . فالحياة تريدني نارا . .
وأرقص فوقها رعدا . .
فأخلع براقع كبريائك . .
اننى اسكنت جيفة ذلتي لحدا . .
واضم يديك الى يدي . .
نشد معا صرح المحبة بيننا شيدا . .
اني اخوك فلا تعق اخوتي .
فتزيد بركانيتي وقدا . .
اياك . . لا تبذر بذور عداوتي .
فتعود تحصد شوكها حصدا
اياك لا تزرع حقولك عوسجا . .
اني زرعت حقولي . . الموردا ! ) (١)
والحض ، هو العنصر الشعري الفذ الذي تكون من الفكرة والغنائية معا . . . والجدة ، هى العنصر الشعرى اللذيذ . . الخصيب في التعبير عن احلامنا . . الغني بعناصر الفن والجمال . .
تلك بعض خصائص المدرسة الحديثة في الشعر . . المدرسة التي اتخذت " قالبا " جديدا . . على رغم انف المقالب القديم البالي .
" البقية فى العدد القادم ان شاء الله "
