الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "المنهل"

حديث وصراحة، الفكر العربى التائه،

Share

من اجل ان يكون المفكر العربي عربيا صحيحا ، ومن اجل بقاء الكيان الذاتي والحضاري للامة العربية ينبغي ان يظل فكرنا نتاجا عربيا أصيلا يستمد مقوماته من معطيات تراثنا المروحى المخالد ومن تقاليدنا الاصيلة المتطورة . " ع . ح . المنفيسة "

مقدمة قصيرة

منذ عام مضى كتبت مقدمة لهذا العنوان من المنهل الاغر على اساس مواصلة نشر حلقات متتالية . ولظروفي الدراسية لم أتمكن من المتابعة ، وهأنذا أكتب احاديث متواضعة تحت هذا العنوان يحدوني الامل في كسب رضا القارىء الكريم

الفكر بين الفرض والاختيار

الامة التي تجتاز المراحل الاولية للتطور ، لا بد - وهي في طريقها الى الجوانب الايجابية من تلك المرحلة - ان تعرج على جوانب سلبية معقدة ومتنافرة يبدو كأنها ضرورية لازمة ولكنها في نفس الوقت من الصعوبة بمكان لان مقدرة الامة وطاقاتها فعالياتها تبرز واضحية ان في المرحلة المثالية

النظرية كخطوة أولى او في التطبيق العملي المادى كخطوة ثانية . . هذه الصعوبة لا تمثل في التقلبات الجانبية او الجذرية التي تلازم هذه الفترة المرحلية ، ولا تبدو في القلق الذي يسودها او في التضحيات المحتمل وقوعها ولا تبدو كذلك في حرارة الصراع المحتم حدوثه بين فئات الامة في نزعاتها المتباينة ، ورغبة كل منها في الاستئثار بتطبيق ما تؤمن به كوسيلة للوصول الى الجانب الايجابي . . المصعوبة لا تبدو في هذه او تلك لان مرارة تلك الفترة وآثارها السيئة على الامة لا تبدو مزعجة جدا باعتبار أنها وقتية عابرة تنتهى بالاستقرار على نمط معين حين يستطيع ذلك الخط النصر النهائي

ان الصعوبة تكمن في عملية (الاختيار) للنمط نفسه . . هل هو صالح في ذاته ؟ وهل في اختياره صلاح تلك الامة او فسادها ؟ وهل

ستتمكن من الوصول الى الغاية السليمة اذا التزمت به ؟ مثلا - لو فرضنا أمة كأمتنا العربية لها سبق حضاري تاريخي ، وتمر بمثل ذلك المدور هل تستطيع المحافظة على تلك الحضارة ؟ وهل في مقدورها التجدد تبعا لتجدد متطلبات العصر الذي تعيش فيه ؟ استطيع القول بان مرحلة (الاختيار) اقسى ما تواجهه امة في طريقها الى الانطلاق والانعتاق . . الانطلاق من الاغلال الاجنبية اذا كانت تلك الامة خاضعة لغزو اجنبي متنوع ، والانعتاق من الرواسب الحضارية المتخلفة ومن الركود الفكري الذي فرضته عليها عوامل متعددة . . هذا الاختيار قد لا يكون لامة ما ، ارادة فيه حين يتحول الى اجبار تفرضه قوة مادية مسيطرة مصحوبة بعنف قد يتحول عبر الاجيال المتتالية إلى ما يشبه الاختيار أو ما يمكن تسميته بـ ( الاختيار المفروض ) بمعنى ان تلك الاصول المعاصرة له والتي لها حافز تاريخي قد يدفعها لمحاربته باعتبار انها غير قابلة له في الاصل . . هذه الاصول سوف تنتهي وتختفي من مسرح الحياة ، وستخلف فروعا نبتت في ظل " الاختيار المفروض " ولقنت بان ذلك الخط مرتبط بحضارة الاصول ارتباطا عضويا وتاريخيا - بموجب المتلقين - حضارة تاريخية لها وتكون الكارثة حين يكون من ذلك الفكر ابتلاع فورى او تدريجي لحضارة امة بكاملها .

. ان الامة - أي امة - في المراحل الاولى من تطورها الاجتماعي والاقتصادي لن تكون في مجموعها غنية فكريا بالشكل الذي لا تحتاج فيه الى موجه امين يأخذ بيدها ، ويدلها على الطريق السوي ، بل تكون في الغالب تائه مائجة في خضم الافكار

والنظريات المتباينة : الحسن منها والسيء ، والطيب والخبيث ، هي مرحلة فراغ قلقة يسودها انتظار وترقب : انتظار للمنقذ الصالح الذي يقول : هذا حسن فابتغيه . وهذا سئ فاجتنبيه ، لتنصهر بعد ذلك في البوتقة التي يراها .

وأعتقد ان الامة العربية والاسلامية مرت بتلك الفترة في تاريخها ابان الحروب الصليبية وخروج المنقذ صلاح الدين ، وفترة ترقب مصحوبة بمخاوف متنوعة ، وانذاك يكون للفكر اثره وتأثيره فهو الذي يقرر الخط الذي تسير عليه الامة ، وهو بالتالي يقرر نوعيته ، والامة في تلك المرحلة بمثابة العليل الذي ينتظر العلاج ، والمفكرون هم الاطباء وهم في نفس الوقت القادرون على تحقيق نتيجتين . . اما محاولة العلاج واثره يتوقف على مهارة الطبيب ، وسلامة قصده ، واما الاجهاز المتعمد وشبه المتعمد ونتيجة حتمية الموت للعليل .

ولا مرية في ان للبيئة التي يولد فيها الفكر الذي تقبله الامة عن طواعية واختيار أثر فاعل ، كما ان للعوامل التاريخية والحضارية التي مرت بها اثر اكثر فاعلية . فهناك بيئة لا تلد الا فكرا خبيثا ، وبالمقابل هناك اخرى لا تلد الا فكرا طيبا - ( والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا ) - فالامة ذات الرغبات الواعية لن يخرج منها مفكر الا وهو يحمل نفس الاحساس والشعور بتلك الرغبات وتجسيدها في اطار معين يعكس مبتغاها والعكس بالعكس تماما .

ولكني اعود فأقول : ان ذلك قد لا يبدو قاعدة آلية ، فقد يكون لامة رغبات تتباين كلية مع فكر معين ، تلتزمه فئة لا تعرف

الا المفرض والاجبار .

كما هى الحال بالنسبة لتتار القرم والتشاشان والداغستان والازباخستان مع القوة المادية في روسيا (١) وسبيل هذه الامة الى الانعتاق من هذا الفرض شاق وطويل ومشقته تكون اكثر اذا اختفت الاصول المعاصرة للتجربة تاريخيا . . فالبراعم الصغيرة التي نبتت وهي لا تعرف الحقيقة الا من خلال ما تلقن به في الخفاء ستكون عاجزة عن الانعتاق الا اذا استطاع أولئك الاصول صهر تلك البراعم الصغيرة في قوالب مضادة تنتهج طريق التربية المعادية وذاك في نظري بالنسبة لها صعب في ظل قوة مادية مسيطرة على كل وسائل الحياة ولكنه على اي حال ليس بمستحيل . " للحديث صلة "

الزيات في ذمة التاريخ

في الاشهر القليلة الماضية مات الاديب المصري المعروف احمد حسن الزيات وبموته انطوت وكانت صفحة مشرقة من صفحات

أدب الرعيل الاول من ادباء مصر الذين كان لادبهم طابع الجزالة وطابع المحافظة في تاريخنا الحديث . الجزالة في الانتاج الادبي والفكري والمحافظة على سلامة اللغة العربية وكيانها .

ذلك الرعيل الذى خدم الادب والفكر العربي بكل طاقاته رغم انه كان يعيش ظروفا حيوية قاسية لا من ناحية فرص العيش غير المواتية ولا من ناحية الظروف السياسية المترجحة آنذاك .

لقد كان الزيات واحدا من أولئك الكبار وكانت مجلته - الرسالة - منبرا جريئا من منابر الادب والثقافة في ذات الوقت الذي كانت فيه معولا حادا على الدعوات الاجنبية المضللة وسلاحا مشهرا ضد نظريات الالحاد والايدولوجيات الموفدة .

حقا لقد مات صاحب الرسالة ذو الاسلوب الجميل الذي كان يحوي في طياته قوة البلاغة وسلاسة الكلمة وجمال التعبير . ولقد انطلقات بحوثه التى كانت كشمعة كانت تنير الطريق لعشاق الادب ومحبيه . شمعة كانت مضيئة ثم خفت نورها بالتدريج باختفاء الرسالة ، ثم خبت تماما بموت الزيات ومهما قيل بان قلم الزيات ترجح في آخر حياته بين السياسة وتقلباتها المضطربة واخذ عليه ذلك فانه لا يقلل من قيمته كواحد من ادباء الرعيل الاول الذين خدموا اللغة العربية وحافظوا عليها في عصر كان يموج بالافكار والنظريات التي كانت تعمد الى الهدم وافناء الحضارة العربية . . فرحم الله الزيات . . وتلك سنة الخالق العظيم في خلقه :

( سنة الله التي قد خلت من عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا ) .

(الطائف)

اشترك في نشرتنا البريدية