أدب بلا قراء : الانتاج الأدبى فى ضروبه المختلفة ليس ملكا خاصا لمنتجه بقدر ما هو ملك عام . والملك العام فى المفهوم القانونى « ما ينتفع به العامة بشكل مباشر أو غير مباشر » . واذا سلمنا بأن هذا المفهوم ينطبق على الانتاج الأدبى أمكن القول بأن عمومية الأدب وشموله أساس من أسس وجوده ، فاذا فقد هذا الشمول تجرد من كل نفع عام يمكن أن يؤديه أو يوصف به ..
وانطلاقا من هذا يتعين القول بأن أدب الخواص الذى يكتب لفئة معينة تتسامر أو تتسلى به أو تضعه للذكرى والتاريخ - بصرف النظر عن فائدته الجانبية - أدب فاشل عجز فى مضمونه عن القدرة والعطاء الفكرى للانسان ، فصار من المحدودية والعزلة بمكان .. وقس على فشل أدب الخواص ، أدب « الأحلاميين » الذين يكتبون وهم مستغرقون فى بحيرات الخيال المجنح أدبا يعزف عن الواقع وينأى عنه ، يصور الحقيقة على نقيضها ويشيح بناظره عن الرؤى الحقيقية للحياة ، متخذا من التلبيس الكاذب طريقا رحبا لا يهمه أن يصور السراب ماءا . والغبار سحابا . والباطل حقيقة ،
والكذب صدقا . وقد يتعشق ذلك النمط الردىء أناس تستهويهم الأحلام وتستبد بهم الأوهام .. نشوتهم لا تكون الا حين يبتعدون عن الواقع ، وسرورهم لا يوجد الا حين يغيبون فى متاهات الخيال .. هؤلاء « الاحلاميون » و « الوهميون » ألا يحق لنا أن نناقشهم بالتساؤل الآتى : ما قيمة الأدب اذا لم يخلق تأثيرا صادقا فى مفاهيم الناس؟ وأى نفع له اذا لم يوجد تغييرا جذريا فى مجريات تفكيرهم قلبا وقالبا من أجل سلامتهم ونفعهم العام ؟ وأى رداء له اذا لم يحول الشحوب الباهت الى حيوية وجمال ؟ بدون هذه المعانى هل للأدب معنى ؟ وبدون هذه الصور هل يكون وجوده ضروريا ؟
هذه التساؤلات أترك الجواب عليها للقارىء ويقينى أنه لن يقول الا كلمة - لا - ان ثمة فرقا جوهريا بين أدب يشبه آلة محنطة لا حراك فيها يتراكم عليها الصدأ ثم تحللها عوامل الطبيعة الى ان تصير ذرات من تراب لا خير فيه ، وأدب يشبه آلة متحركة تنتج فى كل لحظة ما ينتفع به الانسان ..
الصورة والشبه واحد .. فالأدب الذى لا يقوى على الحركة فى نفسه ولا يتغلغل فى الخلايا الاجتماعية لكشف أمراضها وعللها ويميز لها بين ما هو طيب وسمين ، وما هو غث وخبيث هو أدب عقيم ومريض ، ضره آكد من نفعه باعتبار أن الأدب فى غايته وأهدافه عامل من عوامل الحركة والتأثير فى أوجه النشاطات المختلفة فى الخلايا الاجتماعية ، فاذا فقد هذا العامل أصبح الضرر مؤكدا ..
ان الانسان فى عالم اليوم بحضارته المتفاعلة وبمداخلاته وتأثيراته المختلفة على الفرد وكيانه ، أحوج ما يكون الى فكر واقعى واضح يصور الانسان على حقيقته فى صفاء
ونقاء .. يقول له ان الحق هنا والخطأ هناك .. يدله على الاسلوب العملى فى حياته كيف يفكر وكيف يعلم ويعمل .. أدب واقعى منهاجى فى مرحلتيه ، أو أبديته يبين له الواقع كما هو ويكشف له الحياة على وضوحها حتى يتعود على الرؤية ببصيرة وحتى يستطيع الامتزاج والتأثر مع حياته بكل واقعية ونقاوة .
ان نظرة بسيطة نلقيها على كثير من الذين يكتبون ما يسمونه أدبا تعطينا دليلا على عقم ما يكتبونه وغثاثته، حتى يتحسر المخلص على ذلك المداد الذى يكتبون به وعلى الورق الذى يكتبون عليه وعلى الجهد الذى يبذلونه - اذا كان ثمة جهد - .. أدب نستطيع أن نقول عنه - بلا قراء - أدب لا يكفيه تجاهله لحقيقة الانسان فى نزعاته وسلوكه بل صارت غايته البحث عن أوابد اللغة وشوارد الألفاظ فيها ومعتسف الاسلوب ليخرج وكأنه جنازة يريد أهلها الخلاص منها لتذهب الى عالم القبور .. ماذا يقال عن هذا الادب؟
وأى صفة يمكن ان تسبغ عليه ؟ وأى لباس يمكن اضفاؤه عليه ؟ هل هو أدب خواص أم أدب باطنى أم ظاهرى ؟ لكنه قد لا يكون لا هذا ولا ذاك . انه اقل من هذا بكثير . انه أدب بلا قراء .. أدب جامد ومحنط لا يستحق أن يوضع فى متحف التاريخ بقدر ما يستحق أن يلقى به فى وعاء النفايات .
ان أولئك الذين يكتبون بعد أن يغلفوا كتاباتهم بغرائب الألفاظ يحكمون على أنفسهم بالسلبية والانزوائية وهم أبعد ما يكونون عن الأدب ومغانيه .
وان من الخير لأولئك أن يعرفوا لماذا فاق المتنبى أقرانه ونظراءه وسجل لأجيال العربية دررا من القول تصيخ لها الأسماع وتطرب لها القلوب وتنفعل معه المشاعر والعواطف .. فهل
كان المتنبي ساحرا أم ماذا ؟ نعم انه ساحر فى بيانه حين تخيل عواطف الناس ومشاعرهم فى زمانه والزمان الذى بعده .. تصور وفاء الناس وكرمهم وبخلهم .. سعادتهم وأسبابها وشقاءهم وأسبابه ، تصور كل ذلك بــــ « خيال واقعي واضح» ثم صبه فى قالب شعرى أثر فى النفوس أيما تأثير حتى صار شعره أهازيج أجيال عربية فى ماضيها وحاضرها وسيكون كذلك فى مستقبلها على حد سواء ..
ذلك هو شعر المتنبى قل ان تجد أو لن تجده قد حمل فى طياته لفظة واحدة يعجز العارف البسيط عن ادراكها رغم منعطفات الزمن وتغاير البيئات .. ومثل المتنبي من المعاصرين شوقى والاخطل الصغير وأبو ماضى ومن هم حول مرتبتهم فى الشعر وفى النثر . وخير لأولئك « المتبحرين » أن يروا انتاج العقاد وطه حسين والرافعى والزيات وجبران ونعيمه ومن هم فى مرتبتهم فى النثر حتى الذين عمدوا منهم الى الاستعارات والمجازات لاسباب معينة لم يصلوا الى حد « الطلاسم » التى يتعمدها بعض كتابنا اليوم حتى ليخيل للقارىء غير العادى أنها أكثر تعقيدا من طلاسم الآثار الفينيقية والارامية .
ترى ما هو الحافز لاولئك على تعمد تلك الطلاسم واثقال فهم القارىء بها ؟ أهو تبحر فى اللغة ؟ أم ارتقاء بافهام الناس ليحفظوا عن ظهر قلب معاجم اللغة ، وليكونوا فى علمها مثل الأصمعى ، وفى نحوها مثل سيبويه ، والخليل ؟ أم هو عجز فى الفكر الواقعى السهل المتحرك ؟
انى لا أخاله الا ذاك الأخير .. وحين يكون هذا الاستنتاج صحيحا ، يكون أفضل للقراء أن لا يروا مثل هذا الأدب ، الحظ
وهم بالتأكيد لو رأوه سيكون حظه الاعراض والعزوف .
كلمات شتى : ليس من المستغرب أن يمر الانسان بعوارض متنوعة .. عوارض فى الجسم والروح والمال .. قد يمر الانسان بواحدة منها، وقد يمر بها كلها أو بعضها ومقاومتها تختلف بين شخص وآخر . وجوهر الانسان وتكوينه له دور أساسى فى المقاومة .. البسيط فى تكوينه النفسى والعقلى ينحنى ولو كانت الهزة بسيطة والقوى يصلب مهما كانت قوية وكبيرة .. هذه العوارض يتفاوت تأثيرها فى الانسان ، فعارض الجسم قد يكون آنيا ، ويزول . وقد يشتد ويفتك وما فى ذلك خير على الانسان ، لأن الجسم سيواجه نهايته الحيوية عاجلة كانت أو آجلة .. وعارض المال قد يكون هو الآخر آنيا وموقوتا ، فمع العسر يسر ، ومع الضيق انفراج وانبلاج .. وقد يظل قاسيا ومريرا . والانسان رغم كل ذلك سيعبر ذلك الجسر النهائى مهما كان الزاد .
لكن هناك عارض آخر هو عارض الروح وأيم الله ما أشده من عارض وما أقساه من ضرر ، لأن الانسان بلا روح «مادى متوحش» لا يميزه عن الكائنات المتوحشة الا الاطار العام ، لكنه بالروح يمايز ويتفارق مع تلك الكائنات : ان محنة الروح هى محنة وجود الانسان فى عالمين كتب عليه أوله أن يعيشهما بقلبه وقالبه ..
لذا فان عارض الروح سيظل أعقد محنة يواجهها الانسان فى صراعه المادى وسيظل انتصاره الروحى أسمى وأغلى انتصار يحققه فى رحلته الطويلة ..
(الرياض)
