الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "المنهل"

حركات التجديد، فى الشعر العربي

Share

شهد العصر العباسى تطورا خطيرا بسبب اتساع الحضارة الاسلامية ولاتصال العرب بثقافات أخرى وتعرفهم على حضارات أمم قديمة . ولذلك كان من الضروري أن يتطور الشعر حسب تطور الزمن ، وتتجدد الالفاظ والمعانى مع تجدد الحياة (١) ، ولذا نرى انه ظهرت همسات لدى الشعراء حول سنة القدماء فى الالفاظ والمعانى وموضوع الشعر وشكله (٢) .

حتى اذا ما ظهر أبو نواس على مسرح النقد وثار على المناهج الثابتة للقصيدة : البكاء على الزمن والديار التى هى غريبة عن بيئته الحاضرة، ودعا الشعراء الى أن يعيشوا فى عصرهم وبيئتهم التى يحيون فيها ، والى تصوير الشاعر لما يرى على حسب ما يشعر به ، لا على حسب ما سمع ، وأن يتغنوا بزمانهم وحضارتهم ويترجموا عنهما فيقول:

صفة الطلول بلاغة القدم

  فاجعل صفاتك لابنة الكرم

تصف الطلول على السماع بها

       أفلو العيان كانت فى الحكم

واذا وصفت الشىء متبعا

       لم تخل من غلط ومن وهم (٣)

هكذا يحمل لواء الثورة جاهرا ويدعو الى تصوير البيئة الحضرية التى كان يعيش فيها ، كما يقول فى موضع آخر :

علاج الشقي على دار يسائلها

       وعجت اسأل عن خمارة البلد

كم بين ناعت خمر ، فى دساكرها

       وبين باك على نؤى ومنتضد (٤)

هكذا يصف لنا هذا الشاعر العابث المفتون بالحضارة التى يراها اذ تهيء له كما نرى من خلال تصويراته كل وسائل اللهو والعبث ، بل كل وسائل الفن ، ما دام الفن عنده تعبيرا عن الحقيقة التى انتشرت فى هذا العصر (٥) . ويخبرنا انه لا صلة بالرسوم والديار لأن الحياة قد تغير وجهها فالعودة الى البادية وصحرائها ورمالها وطلولها والبكاء لها وعليها ضرب من العبث وبعد عن الصدق وكذب على الحقيقة .

ولكن ما نلاحظه ان دعوته كانت تهدف الى أن يترجم الشاعر عن مشاعره المجتلبة من بيئته ومكانه وزمانه ، وكان يمكن أن تنجح فكرته ، لولا انه أبدل مطلعا بمطلع آخر وهو الخمر ، والحديث عن أثرها فى النفس (٦) على حين لا ضرورة لكليهما ولا صلة لهما بالقصيدة من وجهة النظر الحديثة، لأن الشاعر يتأثر ويتأمل بكل ما تقع عليه حواسه من صور وأحداث وما يدور فى نفسه من خواطر وأفكار فيحيل أفكاره الى صور حية متحركة بما يصحبها من انفعال حاد ومشاعر ووجدان متأثر .

كما نرى ان أبا نواس لم يكن من الأوائل الذين استنكروا التقليد والمعانى القديمة

وان لاحظنا ازدراءه وتهوسه بتحقير التقليد والقديم ، بل سبقه كثير من قدماء الشعراء فى دور التقليد الجاهلى (٧) وفى العصر الاسلامى (٨) ، كما خرج شعراء الحماسة عن هذا التقليد ، وقد سبقه عمر بن أبى ربيعة بتحويل مجرى الشعر العربى حتى اننا نلاحظ انه يذكر معانى الوقوف على الأطلال فى آخر القصيدة بدلا من الاستهلال بها (٩) ، ويرى بعض الباحثين ان دعوة أبى نواس لا تعدو أن تكون محاذاة للشعر القديم ، والمحاذاة أخطر من التقليد ، وذلك لأننا كنا نفهم انه يدعو الى نوع جديد من الشعر ، وأما انه يحافظ على الهياكل القديمة للقصيدة مستبدلا ديباجة أخرى أن يدعو الى الحديث فى موضوعات لا تستطيع أن تحرك نفوس الجميع ، فذلك لا يعتبر خلقا لشعر جديد (١٠) .

ومما يمكن معه أن نقول أن دعوته التجديدية فى الموضوع لم تقابل نجاحا ويعلل الاستاذ أحمد أمين ذلك فيقول : « ولكن مع الأسف ، كما قل فى الفقه الاجتهاد المطلق فى العصور المتأخرة وانما

اجازوا الاجتهاد المقيد ، كذلك كان الشأن فى الأدب ، فلم يفلحوا فى الشعر ولا فى النثر أبوابا جديدة ، بل كل ما فعله مجددوهم انهم فتحوا الأبواب القديمة مع تعديل بسيط ، حتى أبو نواس الذى استهجن بكاء الأطلال والدور ودعا الى بكاء القصور والتغزل بابنة الكرم ، والمتنبى الذى يقول :

اذ كان مدح فالنسيب المقدم

      أكل فصيح قال شعرا متيم

عادا فبدءا شعرهما بالغزل وبكاء الديار والسبب فى ان دعوتهما لم تنجح انهما دعوا الى مذهبيهما فى خفوت ولم يكونا مؤمنين به حق الايمان ، ومن جهة أخرى كانت مدرسة النحويين والصرفيين قوية مسموعة الكلمة فاخفتوها .

ولا شك ان اللغويين أحسنوا فى اتخاذ الشعر القديم مثلا عاليا وقد كانوا يسقطون الشعر العباسى الحديث ، وذلك من أجل المحافظة على متن اللغة العربية لقد ارادوا أن لا يضطرب المقياس اللغوى والادبي الصحيح ، وأوضح دليل على ذلك هو كتاب الموشح للمرزبانى ، كما نجد ان الشعراء عكفوا على الشعر القديم ونهلوا منه نهلا واسعا ، ومن أوضح الدلالات على ذلك أن نجد أبا تمام يؤلف خمس مجموعات شعرية ، وأيضا فان البحترى ألف ديوان الحماسة .

ولربما حدث أن أثرت دعوة أبى نواس وجرى النقاد على أوصاف أخر تعين حياتهم كما يقول صاحب العمدة : « وليس بالمحدث من الحاجة الى أوصاف الابل ونعوتها والقفار ومياهها ، وحمر الوحش ، والبقر والظلمات ، والوعول .. ما بالأعراب وأهل البادية ، لرغبة الناس فى الوقت عن تلك

الصفات ، وعلمهم أن الشاعر انما يتكلف تكلفا ليجرى على سنن الشعراء قديما .. الى ان يقول : والأولى بنا فى هذا الوقت صفات الرياض والبرك والقصور وما شاكل المولدين (١٢) .

كما نرى من النقاد المحافظين والمعتدلين بين القديم والحديث الجاحظ يقول عن أبى نواس فيمتدحه بجودة السبك وجودة الطبع والحذق فى الصنعة حتى أنه يقول : « وان تأملت شعره فضلته الا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى ان أهل البدو أبدا أشعر وأن المولدين لا يقاربونهم فى شىء فان اعترض هذا الباب عليك فانك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبا » .

كما فتح باب النقد وجرأ على نقد التقاليد من الادباء ابن قتيبة ، ووضع التخطيط لتحكيم الفن والتحرر من التقليد وخطا خطوة حسنة لشيوع الذوق الأدبي الخالص (١٣) ، وكذلك سلك معاصره أبو العباس المبرد طريقا وسطا بين القديم والحديث (١٤) .

ونحن اذ نتحدث عن تعديل عمود الشعر فلا بد لنا أن نشير الى مجرى التطور فى مفاهيم العمود الشعرى فنرى أن المرزوقى يذكر العمود الشعرى قائما على سبعة أركان حيث يقول :

« انهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته والاصابة

فى الوصف . ومن اجتماع هذه الأساليب بالثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات والمقارنة فى التشبيه والتحام أجزاء النظم والتآمها على خير من لذيذ الوزن ، ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكلة اللفظ بالمعنى وشدة اقتضائها للقافية حتى انه لا يرى منافرة بينهما . فهذه سبعة أبواب هى عمود الشعر العربى ولكل باب منها معيار (١٥) .

وهكذا دخل تعديل فى عمود الشعر العربى ومفاهيم المناهج الثابتة للقصيدة وانطبع الشعراء بالطابع الذى يتلاءم مع واقعهم فنرى من كان يذكر رحلته على قدمه (١٦) ، ومنهم من يبدل بالناقة السفينة ووصفها كما فعل البحترى (١٧) ، ومنهم كان يصف الخيل بدل الابل (١٨) ، وكما نرى ان « بعضهم يبدأون أحيانا شعرهم بدء يتناسب مع الحضارة التى يعيشون فيها (١٩) ، كما مال بعضهم الى وصف النسيم والقصور والرياض والورد وغيرها من الأزهار ، وهكذا خلق المحدثون ديباجة حضرية لا تتصل بسبب الى شبه جزيرة العرب ، ولا تحن لحبيب ، ولا تبكي على طلل ، وأوجدوا ديباجة جديدة هى

مرآة للحياة فى بغداد ، وفى الكوفة ، وفى الحواضر الاسلامية المترفة (٢٠) .

كما أخذ بعض الشعراء موقفهم فى التجديد تحويل المعانى والصور القديمة حسب ما يناسب عصرهم ويضيفون اليها معانى وصورا جديدة ، فيخرج من ذلك كله نموذج جديد فى الشعر ولكن هذا التجديد كان قائما مع نوع من التوازن بين القديم والجديد ، وأن الشعراء كانوا أثناء تطورهم به ينسقون بين سدى الماضى ولحمة الواقع ونغمات العابر وألحان الحاضر (٢١) . ونستطيع أن نرى هذا التطور مع المحافظة على التقاليد الموروثة بصورة تلك التطورات التلونية والبديعية والمحسنات البلاغية ، وبما أثرت الثقافة على قدرة توليد المعانى والغوص على الأفكار والأحاسيس الدقيقة .

ومن هنا يمكننا أن نقول أن الشعراء لم يستطيعوا أن يبتكروا موضوعا جديدا فى الشعر ، الا أنهم مالوا الى التجديد فى الأسلوب والصياغة فى الشعر .. وهذه الظاهرة الجديدة فى الشعر العربى ظهرت بفضل الشاعر بشار بن برد ، فانه دعا الى طريقة جديدة ، وهى طريقة كانت تعتمد اعتمادا شديدا على الأصول التقليدية للشعر القديم حتى لتبدو فيه نزعة محافظة وخاصة فى مدائحه فان الاطار فيها لا يختلف عن الاطار القديم الا قليلا الا يستوفى فيها القيم الجزلة وكل ما تقتضيه الجزالة من رصانة وقوة فى البناء ، ولذا نجد أن معاصريه ومن جاءوا بعدهم يجمعون على أنه هو الذى نهج للعباسيين طريقتهم الجديدة (٢٢) .

ومن الملاحظ أن للصياغة الشعرية فى الأدب العربى شخصيتها ومقوماتها وأوضاعها الأساسية ولما استحديث الصياغة القديمة

طوال العصور الأدبية ، تجددت مع مقتضيات العصر فكان بها تطور فى الفكر وقدرة على الافصاح عن المشاعر ودقائقها الخفية (٢٣) .

ولذا نرى أن هناك تحولا للشعراء بالأفكار والصور القديمة الى معارض جديدة يزينها الفكر الحديث بألوانه التقليدية ، حتى أصبح كثير من الأفكار والصور القديمة يشبه ساقا نابتة من الارض قد استحالت الى شجرة متشعبة الفروع والفصول بما نماها الفكر الجديد ، ونستطيع أن نأخذ أى فكرة قديمة ونقف عندها محاولين أن نتبين مدى تنمية الشاعر العباسى لها ، ولتكن طول الليل التى طالما ذكرها الشاعر الجاهلى المحزون شاكيا سهاده الطويل من مثل امرىء القيس :

فيا لك من ليل كأن نجومه

     بكل مغار الفتل شدت بيذبل

فهو يتصور النجوم كأنما سمرت فهى لا تتحول . وتناول بشار هذا المعنى فى صورة مختلفة محاولا فى كل صورة أن ينفذ الى خيال مبتكر جديد . من ذلك قوله مستمدا من فقده لبصره :

النجم فى كبد السماء كأنه

       أعمى تحير ما لديه قائد

ويعود الى التفكير فى هذا المعنى ولا يلبث أن ينفذ إلى خيال جديد اذ يقول وقد طال عليه انتظار الصباح :

خليلي ما بال الدجى ليس يبرح

   وما بال ضوء الصبح لا يتوضح

أضل الصباح المستنير طريقه

   أم الدهر ليل كله ليس يبرح

وهو خيال مليء بالحركة وفيه تعميم فقد تحول الدهر ليلا مظلما ليس له آخر

ويعود الى التفكير فى المعنى وما يزال يلح فى التفكير والتخيل حتى تتكون له صورتان جديدتان اثر فراقه لاحدى صاحباته :

كأن جفونه سملت لشوك

        فليس له بها سنة قرار

أقول وليلتى تزداد طولا

        أما لليل بعدهم نهار

جفت عينى عن التغميض حتى

        كان جفونها عنها قصار

وعلى هذه الشاكلة كان بشار يتناول المعانى والأخيلة القديمة محاولا أن ينفذ منها الى معانى وأخيلة جديدة . وفى شعره معان كثيرة لم يسبق لها مثيل (٢٤) .

وهكذا نرى أن بشارا ترك أثرا عميقا فى نفوس الشعراء فنراهم يشبهون صورهم من العناصر الفنية الموروثة ولكنهم استطاعوا أن يطوعوها وأن يمرنوها بأذواقهم وأحاسيسهم المتحضرة ، ولنأخذ مثلا بيت زهير الذى وصف فيه الأثافى :

أثافي سفعا فى معرس مرجل

       ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم

فيأخذ أبو تمام هذه الصورة ويحولها صورة جديدة مبتكرة :

أثاف كالخدود يطمن حزنا

       ونؤي مثلما انفصم السوار

فصورة الأثافى تشبه ، بما عليها من حمرة فى سواد ، الخدود وقد اضطرب فيها اللونان والنؤي استحال الى سوار منفصم .     وهكذا نرى أن الشعر العربى لبس

ثوبا جديدا بسبب الحياة المتنوعة من وجود أفكار جديدة ومظاهر خلابة مما جعل الشعر يغلب عليه التهذيب الأدبي أكثر من الافصاح بالشعور والتعبير عن العواطف .

ومما لا شك فيه أن العمل الفنى المتكامل هو الذى يجعل التراكيب والتشابيه والصور الملونة منسقة تساعد الشاعر والقارىء على التذوق والتفاعل معها وحاصل هذا أن الصلة بين القيم الفنية وبين الانطباعات النفسية وثيقة الارتباط ، متشابكة أشد التشابك عند كل انسان ، ولهذا نرى أن الناحية الفنية للشعر توجب التأثير والاستجابة لما تنطوي عليه ، هذا من حيث التوازن بين الجوانب الداخلية والمثيرات الخارجية التى تتمثل فى هذا العمل الفنى ، أما اذا ما كانت القيم الفنية لا تجد لها محلا قابلا لها فى الجوانب الداخلية فانها تكون ضربا من الترف الذهنى الذى لا يجد قابليته فى الغالب :

ويمكننا أن نستخلص انه وجدت هناك اتجاهات عدة فى الشعر العربى فنرى مثلا جماعة من الشعراء الذين تأثروا بالثقافة السائدة وتناولوا المعانى الجديدة وأضفوا على الشعر ثورة جديدة من الألفاظ والمعانى الرائعة ونوعا من الطرافة والابداع الفنى فى المعانى على مسرح الشعر العربى . وجماعة أخرى تعصبوا للتراث القديم وتمسكوا بتلك النماذج الجاهلية ومقوماتها وتقاليدها التى كانت تعتبر لديهم عزا وفخرا ، وجماعة من الشعراء حاولوا الربط بين القديم والجديد بشىء من التوازن اذ أخذوا من القديم ما يتلاءم مع حياتهم الجديدة ومن الجديد المستجد منه الذى

كان وليد الثقافة والحضارة الجديدة .

وهذه الاتجاهات خلفت خصومة أدبية(٢٥) بين القدماء والمحدثين، ونلاحظ ان الخصومة بين القديم والجديد ظلت باقية فكان هناك أصدقاء وخصوم ، مدافعون ومهاجمون فما جدت فكرة من هذه الفكر الا قابلها بعض النقاد بالاستنكار وقابلها البعض بالترحيب والاعظام ثم رمى الاولون الآخرين بالخروج عن الجادة ورمى الآخرون الأولين بمثل ذلك .

وجدير بالذكر أن الشعر العربى اكتسب منذ القديم نوعا من القداسة باعتباره المصدر الأساسى للغة . وهذا ما أكسب الشعر العربى صلابة وصمودا فأوجدت هذه الصلابة صعوبة فى التجديد(١) بخلاف الآداب الاخرى لأن التراث خضع فيها لعملية تجديد عن طريق المعايير العصرية .

المدينة المنورة

اشترك في نشرتنا البريدية