نهض الصبية عن قصعة الطعام الخشبية الواحد تلو الآخر ، بعد ان اتوا على جميع ما فيها من طعام . وقصدوا ركن الحجرة حيث تجلس عجوز قد هد جسمها تداول السنين والايام فرسم على صفحة وجهها آثارا تخلد صراع الزمن معها وانتصاره عليها ، وهى تجلس مكورة تنم قسمات وجهها عن رضا بالواقع واستسلام لشئ مجهول وعدم اكتراث بالمستقبل كيف ما كان ما دامت تؤمن فى قرارة نفسها ايمانا مطلقا بمجئ ذلك اليوم كنتيجة طبيعية لنهاية الاشياء .. تحلقوا حولها وشفاههم الصغيرة ملطخة بالادام ، وهم يرنون اليها بعيونهم المتلألئة مأخوذين بهدونها ، كانهم على وشك الدخول الى عالم سحرى يزخر بالبطولات ، والجياد المطهمة ، والاميرات الجميلات كفلقة الصبح .. وكانها ادركت رغبتهم فافتر ثغرها الادرد عن بسمة هى بمثابة تأشيرة الدخول الى ذلك العالم الذى تخلقه فى مخيلتهم بوصفها المنمق الذى لا يترك كبيرة ولا صغيرة تمر الا وتعلق عليها باسلوبها البسيط فيزيد الحكاية رونقا وسحرا .. تنحنحت واعتدلت فى جلستها ووضعت المسبحة فى حجرها وبدأت تروى لاحفادها بقية حكاية البارحة ... " كان يا ما كان فى قديم الزمان .. ".
كثر اللغط والهرج فى القصر وانتشر الذعر فى كامل السلطة ، وعم الرعب والخوف كافة القلوب ، فالخطر استفحل واصبح يهدد بصورة اكبر هذا الشعب الآمن المطمئن " الغول " هذا الوحش الكاسر الذي يختطف فى كل ليلة عذراء من صبايا السلطنة ويغيب فى الجبل كشبح من الاشباح المرعبة ..
فكر السلطان وتدبر وضرب " أخماسه بأسداسه " وقرر بعد تفكير وتمحيص ان يرسل الى " الغول " سبعة امراء من قصره لاسره او لقتله حتى
تنال عائلته هذا الشرف وتحتكره لنفسها ويؤكد لكل الدنيا انه لا يخاف احدا ولا يخشى ايا كان ..
سار الاخوة فى كوكبة متجهين نحو الجبل بعد ان ودعهم السلطان وحاشته على مشارف المدينة .. كانوا طوال الطريق واجمين يقدرون فى المصير الذي ينتظرهم في متاهات الجبل المخيف .. صحيح ان فى نظرتهم عزم وشجاعة تتحدى كل الاشياء المخيفة .. وانهم استعدوا للمجابهة احسن لنداد بسيوفهم الصلبة البراقة وخناجرهم الحادة ، ودروعهم التي تتكسر عليها اقوى السيوف ، وتتحطم عليها اسنة الرماح الكبيرة ... ولكن تستطيع بكل سهولة ان تلمح ظلالا من القلق وعدم الاطمئنان من شئ لا يعرفون كنهه ولا حقيقته .
أشجار السدر والصبار تغطى الروابى وكثير من المساحات الواسعة تزيد فى صعوبة الصعود ..
الصخور ملساء ينزلق فوقها احذق القطط تعطل تقدم الخيل وتجبر الفرسان على الترجل خوف السقوط فى جرف او على احدى الصخور المذيبة التى تحاكى اكثر السيوف مضاء ..
بعض الطيور الجارحة من عقبان ونسور وغربان تحلق فى الفضاء باحثه عن احدى الجيف لتمزق لحمها بمخالبها القوية فتشبع نهمها الابدى الى اللحوم ..
السكون عميق ولكنه لا يدعو الى الاطمئنان فالسباع الغدارة كثيرة فى هذا المكان المخيف ، وهى تنصب كمينها بين الصخور وفي الاكمات لتنتظر فريستها ، وعندما تحين الفرصة تنقض عليها كالهول بلا رحمة فتمزق لحمها بأنيابها الحادة ولا تتركها الا هشيما تعافها الطيور الجارحة فى بعض الاحيان
بدات الشمس تتوارى خلف صخور الجبل لتترك على قمته لونا احمر يشبه الدم ، هذا اللون الذى تنقبض النفس لمشاهدته ..
بدأت خطواتهم تثقل فالتعب قد هدهم هدا .. يوم كامل من السير لا راحة فيه وهم ينظرون فى الارضهم يجدون اى اثر لضالتهم ، حتى بليت اجذيتهم وادمت الصخور ارجلهم . وتعبت الخيل واصبحت تتوقف عدة مرات وتمتنع عن التقدم ..
وأخيرا ازمعوا على التوقف للاستراحة حتى تتجدد قواهم ويكونوا على استعداد كامل للقتال .. نصبوا خيمة فى مكان منبسط ودخلوها ، وجلسوا حول قنديل زيتى يتدارسون الوضع ..
- نحن فرسان الحروب وليوث البرارى لا نهاب " الغول " ولا غيره وسنبحث عن عدونا فى كل مكان حتى اذا وجدناه هاجمناه من جميع الجهات سيوفنا وخناجرنا فنثخنه جراحا ونقتله شر قتلة ، ونجز رأسه لنقدموه هدية لشعبنا فننال بذلك الشرف والشهرة .
إن كل الشعب قد وضع فينا أمله ، والسلطان يريد أن يشرفنا بقتل هذا الوحش ونحن كما تعلمون نكاد نموت تعبا وفى حالة يرثى لها من الاعياء والأفضل أن نترقب عدونا ونحن مختبئون بين الصخور وفى الاشجار فاذا شاهدناه باغتناه بنبالنا ثم نجهز عليه .
- لم يخطئ السلطان عندما اختارنا لهذه المهمة الخطيرة ونحن فى مستوى أمل السلطان والشعب ، وارى ان لا نضع اى خطة قتالية الا اذا شاهدنا عدونا عندها نقاتله بالطريقة التى تعجبنا حتى اذا تمكنا منه ربطناه بالحبال فتجره خيلنا الى مدينتنا ...
وباتوا ليلتهم وفى نفس كل واحد منهم اشياء كثيرة يكتمها ولا يريد الافصاح عنها لاخوته .
وفى الصباح كانت الشمس ترسل اشعتها الذهبية على الكثبان والصخور قطعان الوعول والغزلان ترتع هنا وهناك فى اطمئنان .
ارانب برية تنط خفيفة بين اشجار الصنوبر والصفصاف .. الطيور تزقزق نشوى باليوم الجديد ..
لم يعر احد منهم اهتماما بكل هذه الأشياء الجميلة التى تدعو فى صمت الى التأمل واستكناه الطبيعة ، فعقولهم مشغولة بالشئ الخطير الذى جاءوا من اجله وتكبدوا الاتعاب والمشاق بسببه .
بادروا بركوب خيلهم واتجهوا رأسا الى الوادى العميق وهو المكان الذى شاع امره واصبح رمزا للموت والفناء .. فهذا الوادى يسكنه " الغول " هذا
ما اخبر عنه بعض الرعاة الهاربين من الجبل بعد ان فقدوا اغنامهم فى ظروف جد غامضة .
بدأوا يقتفون الآثار بانتباه ويقظة كبيرة .. صعدوا تلالا وصخورا ، وانحدروا الى اوديه عميقه .. مروا بين صخور عالية واشجار كثيفة ..
وإخيرا وصلوا الى الوادى العميق فتنفسوا الصعداء واخذوا يفحصون المكان بانتباه ، فلاحظوا على الارض آثار اقدام كبيرة تثير الدهشة ، وترعب النفوس ، وشاهدوا على بعد نصف فرسخ وبين الصخور مغارة كبيرة مظلمة فتبودلت النظرات وخفقت القلوب ، وايقنوا انهم وصلوا المكان المقصود وما عليهم الا الانتظار ..
ولم يطل انتظارهم إذ سمعوا صيحات مفزعة لم يسمعوا مثلها ابدا ، ففر الطير ..
وارتجفت الوعول والغزلان قافزة بين الصخور .. وابتعدت السباع عن الوادى خائفة ..
واهتزت صخور الوادى بوقع اقدام ثقيلة ، ودقات عنيفة كانها دقات الطبل الكبير ..
فارتجفت القلوب وزاغت الابصار وجفلت الخيل فكادت تمزق الالجمة وتفر الى مغاور الجبل المرعب .. وسمع من بعيد تكسر اغصان الشجر كانها اعواد الثقاب في يد مجنونة ..
وظهر بين الاشجار حيوان لم يروا له مثيلا .. رأس كبيرة بها اذنان كاذنى الفرس . . وعينان يشع منهما بريق مرعب .. وانف مفطس ذو منخرين واسعين بشعين .. وفم واسع بأنياب حادة .. أما جسمه فهو أضخم جسم متحرك رأوه يكسوه شعر طويل وهو يحمل بيديه الطويلتين عضو حيوان يأكله فتسمع لانيابه واسنانه وهي تعمل فى اللحم والعظم جعجعة لا تبقى ولا تذر فتلطخ فمه بالدم فزاده بشاعة وقبحا ..
لكنهم تذكروا وصية السلطان والخطر الذى يتهددهم فتجلدوا وسيطرو على اعصابهم بشجاعة وعزم ..
- ها أنتم قد رأيتم وحشية عدونا .. ولا شك عندى ان هناك قوى اخرى تساعده على اقتراف هذه الجرائم .
- ولهذا فان هناك حلين لا ثالث لهما : اما ان نمضى معاهدة سلام مع عدونا فيكف عن إذايتنا واختطاف صبايانا او ندخل معه فى حرب ضروس لا ندرى عواقبها ما دام لعدونا حلفاء .
- ان اقتصاد امارتى متدهور كما تعلمون والدخول فى حرب معه سيزيد الحالة سوء .. ولهذا فمن المفيد ان نبرم معه اتفاقا حتى يتسنى ..
- هذا جبن واستسلام .. ولن نبرم معه اية معاهدة فهو وحش ولن يحترم أى بند من بنود الاتفاقية .
- لا بد من مواجهته فعدونا ظلمنا وسكن فى الوادى العميق وهو ملكنا واختطف صبايانا ولا بد لنا من استرجاع كل ما اغتصبه منا بالقوة .
- علينا ان نستعمل كل طاقاتنا وجهودنا فى جميع الميادين للوصول الى هدفنا الذى ينشده شعبنا فعدونا قوى وله حلفاء ..
وتداخلت اصواتهم وتشابكت ولم ينتبهوا الا والظلام بدأ ينشر جناحية على الحبل فسكتوا وساد سكون عميق .. واخيرا عادوا يجرون اذيال الخيبة ..
ونهض الصبية فى تثاقل وهم يفكرون فى امر الاخوة ولاول مرة ينامون وفى رؤوسهم الصغيرة الف سؤال ، ويجزمون فى قرارة نفوسهم ان الحكاية لم تنته بعد ..
