الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

حول اثر العرب فى الحضارة الاوربية

Share

عرف الأستاذ العقاد بعمق التفكير ، وبالبراعة فى التعبير فى دقة ووضوح " وهذه مميزات قل ان يجارى الاستاذ العقاد فيها كاتب من الناطقين بالضاد" ولو نزعت من " توماس مان " مسحته الصوفية ، او نظرته التشاؤمية التى تبدو فيما كتب ، وعلى الأخص ( فى الجبل السحرى ) لكان وجه الشبه بين الكاتبين اكبر من ان يغفل ذكره .

وهذا الاغفال مرده الى ان الأستاذ العقاد استطاع ان يجتاز دور الشك والتردد السلبى ، وان يضع يده بما يشبه اليقين على ما ارتضاه لنفسه من ناحية ايجابية وليس فى هذا ما ينتقص من قيمة أو عنف التجارب الروحية التى عاناها كاتبنا الكبير اذ ليس هناك ما يدل على انه ترك لأرادته أو بيئته أوتريته الأولى التحكم فى عقله ، واذا كان يرى فى ( العبقريات ) شيئا من هذا ، فان فيما لحق من اعماله ما يكفى للقول بان العبقريات كانت نقطة تحول من دور السلبية الى دور الايجابية ، والواقع الذى لاشك فيه ان الانسان لا يمكن ان يبقى سلبيا الى الابد ، فاذا كان القول بان الانسان كائن اجتماعي او سياسي صحيحا فان وصفه بانه مؤمن من مستلزمات انسانيته

وبين يدى الان كتاب وجيز من كتب " مابعد التحول " ؛ وهو يبحث فى الاثر المتبادل ما بين الحضارتين العربية والأوربية . ولا يريد الأستاذ العقاد فى هذا الكتاب التفريق بين الأمم الاسلامية المختلفة ، بل كلمة العرب تشمل الكلدانيين والعبرانيين والأشورين والكنعانيين ، لاعتبارات ( فيلولوجية ) وقد سبق لباحث اوربي كبيران اقام بناءا شامخا من هذه الاعتبارات وغيرهما ولكن الاستاذ العقاد استطاع ان يكتشف ظواهر جعلته يقول بان كل ما

استفاده الأوربيون هو تراث عربي أو تراث انتشر بعد امتزاج العرب بابناء البلاد التى توغلوا فيها ، وان تؤكد تبادل الآثر ولاشك انه بقوله قد ابتعد كثيرا عن تفكير ذلك الباحث الأوربي ، ولا يرى الأستاذ العقاد ان وجود السومريين الآريين فى بلاد ما بين النهرين يقدح فى رأيه الآنف الذكر واذا استطاع الأستاذ العقاد البرهنة على ذلك فسيكون قد توصل الى فتح جديد في المباحث الحضارية ويمكن القول بدون ابتعاد عن الصواب إن الأستاذ العقاد مقود بفكرة رئيسية فى كتابه هذا . . وهذه الفكرة هي محاولة ازالة ما علق بالاذهان من تمايز وتفاضل بين الأريين والساميين ، ودحض دعوى بعض الباحثين الذين يردون تخلف العرب فى بعض النواحى الفكرية والفنية الى قصور اصيل فيهم وقد وفق الى حد بعيد في تأبيد ما ذهب اليه وعلى الأخص فيما يتعلق بالناحية الفنية . وقد يكون من المناسب الاشارة الى بحث وضعه الأستاذ فلبى عن الكتابات العربية القديمة فى بلاد العرب الجنوبية ، واشار فيه الى بعض المظاهر الفنية فى حياة سكان تلك البلاد القديمة . وقد كان من حسن حظى نقله إلى العربية وسيظهر قريبا ان شاء الله . ونجد فى هذا البحث وصفا مجملا لصور فنية لا تختلف فى مظهرها العام عن الصور التى تتميز بها المدرسة الانطباعية الحديثة .

وذكر الأستاذ العقاد ان (آسين بلسوا ) قد توصل الى اثبات اقتباس دانتى  عن محيى الدين بن عربى فى بعض مباحثه الادبية ، واضيف إلى ذلك بان الباحث المذكور قد سبق له القول بتأثر ( توماس الا كويني ) بابن رشد وقد نقلت مجلة ( العالم العربي ) فى عددها الحادى عشر بحثا بهدا الخصوص كتب فى المجلد الثاني لسنة ١٩٤٦ م من مجلة ( العالم الاسلامي ) ، وذلك عند الترجمة لأسين بلسوا بعد وفاته والواقع ان نظرة فاحصه يلقيها المرء على ما كتبه ابن رشد وماجاء فى ( السوماثيلوجيا ) تظهر له بجلاء تأثر الا كويني بابن رشد . الا ان ما يستوقف النظر بصفة خاصة ما ذكره الأستاذ العقاد في الفصل المرسوم بإجمال . أعني قوله : " إن العلوم لم يكن لها مساس جوهري بالحياة الروحية فى البلاد الشرقية لأنها استطاعت ان تستقر فى حيز المعارف العقلية

والآلية دون ان تقلق بواطن الضمير " . فهذا قول ليس من السهولة التسليم به  ونرجو ان لا يكون الأستاذ قد وصل اليه استقراءاً للحوادث الفردية فان من الصعب مثلا رؤية قانون العلية يهدم على يد (هايز نبرغ) ولا يؤثر ذلك عمن يحاول اكتناه معناه ومداه . وغريب ان لا يؤثر مزج الزمان والمكان فى كل موحد دون ان تحرك شعور المقاومة على الاقل ولست ادري كيف لا تؤثر براهين اينشتين الرياضية وقواعد حساب المجاميع التى تقلب ابسط العمليات الحسابية راسا على عقب اعنى عمليات الضرب والجمع والضرب بالصفر ، فمثلا اذا كان ( ١ ) و ( ب ) تدلان على كميتين تسميان فى اصطلاحات ذلك العلم بالمعاملات . . فان أ × ب = ب × أ . . هذه عملية ليست صحيحة اطلاقا فى حساب المجاميع والضرب بالصفر لا يعطينا صفرا كما هى العادة فى الحساب العادى والجبر الابتدائى . وبدهى اننى لا استطيع الاستمرار فى سرد قواعد هذا الحساب الغريب ولكنى لا اتمالك ان ابدى دهشتى ممن يمرون بقواعد هذا العلم مر الكرام ، ولا تؤثر في ضمائر من يحاول تفهمها منهم ، والنظر فى مراميها البعيدة والقريبة ، والأستاذ العقاد نفسه قد تأثر الى حد بعيد بالنظرات العلمية الحديثة عند محاولته هدم اللوثة المادية .

واما اشارته الى من يعتمد على النصوص والتفاسير فالذى يبدو لى أنها اشارة لها ما يبررها فى المواقف التى يتخذها بعض الموفدين من الامم فى الاجتماعات والمؤتمرات الدولية ، ولكن من المعقول ايضا ان تكون ظاهرة عامة تلابس حالات معينة فى كيان أية أمة من الامم فى تطورها التاريخي . ومهما كان الأمر فالواقع ان الأستاذ العقاد قد استطاع اكتشاف حقيقة هامة قد تجني منها ثمار يانعة فى مستقبل الايام

هذا ما عن لى كتابته عند قراءتى لهذا الكتاب الوجيز الذي اتحفنا به كاتب العربية ولاشك انه سيساعدنا على فهم تراثنا المشترك وتحديد موقفنا من تاريخنا ، وسيعين على رسم خطط المستقبل لرقي شامل عميم ان شاء الله .

اشترك في نشرتنا البريدية