الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

حول التعريب, ثبات على المبدا

Share

توجهت مجلة " الندوة " فى عددها الصادر فى شهر نوفمبر 1954 بآستفتاء الى جمع من الأساتذة حول مقومات الثقافة التونسية والتعريب وبقاء اللغة الفرنسية وتوحيد التعليم ، وكان لى شرف المشاركة فى هذا الاستجواب فى ظرف كانت فيه البلاد التونسية تقاسي ويلات الاستعمار وتجاهد بقيادة الرئيس الحبيب بورقيبة وتحت لواء الحزب الحر الدستورى التونسى من أجل الحرية وتقرير المصير

وقد رأيت من المفيد أن أعيد نشر آرائى فى الموضوع كما جاءت بالضبط فى مجلة " الندوة " قبل ما يزيد عن ستة عشر عاما رغم أن بعض جوانب المسألة قد تجاوزتها الاحداث ، عسى القوم يدركون ان ما لا ازال أصدع به من آراء فى مجالات التعليم والثقافة والشباب والاذاعة والتلفزة . . ليس وليد الظروف بل هو وفاء متجدد لعقيدة وطنية وإخلاص لمفهوم ومنطوق استقلال الوطن وكرامته وتصور واضح لمعنى التعاون الدولى والحوار المجدى بين الثقافات .

واذا كانت الحياة عقيدة وجهادا وكانت الثقافة أصالة وصدقا والتزاما وسطرة على الواقع والاحداث فان شر ما يهدد المثقف والمربى - والمسؤول عامة - هو التذبذب والانتهازية والتنكر للمبادىء .

وفى خصوص قضية التونسة والتعريب ، أمل أن يراجع الجميع ضمائرهم ويرجعوا الى أنفسهم لعلهم يفارقون ما قد يغرها ويذلها . كما قال الشاعر

الجواب على استفتاء مجلة " الندوة " ) 1954 (

ثقافة أمة مجموع آثارها الروحية والفكرية والفنية . . . وجماع ذاتيتها منذ ان رشدت واستكملت جميع اسباب الوجود والديمومة وهى بهذا الاعتبار تراث قومى مقدس تتوارثه الاجيال جيلا عن جيل وتسعى كلها الى ابقائه وتنميته تضمنا وشمولا .

ولا تكون الثقافة حقة أصيلة حتى تتجلى فيها عبقرية ابنائها وتبرز خصائصهم الفكرية والوجدانية ويظهر انتاج القوم من حيث طابعه وعمقه ومداه .

وليس لثقافة من الثقافات ان تنفرد بالكمال او تدعى التفوق المطلق ولا من حقنا ان نعتبر حفظ القيم السامية الخالدة حكرا على احداها دون الاخرى وانما تساهم كل واحدة منها بقسطها وبمقدار ما ابتكره اهلها فى توسيع الثقافة البشرية ، تلك الثقافة التى ليست لأحد لأنها للجميع . فلا يمكن ان نفضل على الاطلاق الثقافة الصينية القديمة مثلا ولا الثقافة اليونانية ولا الرومانية ولا الهندية . . . لان البشرية أفادت منها جميعا وفازت بفضلها جميعا .

وثقافة الأمة التونسية التى أبت طبيعة الاشياء وأبى ابناؤها الا ان تكون عربية اسلامية روحا ولسانا لا يمكن ان تكون الا عربية اسلامية روحا ولسانا .

اعتقد انه على ضوء تلك الحقائق البديهية يمكن الاجابة على هذه الأسئلة الثلاثة التى لا بد انها تشغل بال التونسيين فى هذا الظرف الانتقالى الحاسم

أ - ما هى مقومات الثقافة القومية ؟

اذا سلمنا ان لكل أمة اتجاها فكريا معينا وعبقرية موصوفة واذا اتفقنا على ان الأمة التونسية عربية اسلامية فلا مندوحة من التسليم بان الثقافة القومية يجب ان تكون عربية اسلامية وبالتابع يجب ان تكون أداة هذه الثقافة اللغة العربية بحيث ان تعريب التعليم فى جميع مواده وفى جميع اطواره أمر تقتضيه طبيعة الاشياء ويفرضه المنطق السليم

الا ان سؤالا يخرج الكثير منا وهو هل يمكن ان نعرب العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية والاقتصادية وغيرها ؟ ومعنى ذلك هل للعربية طواعية ومرونة تصبح معهما قادرة على تأدية جميع المعانى والالفاظ العلمية الخاصة التى

ابتكرها الغربيون ولم يفقهها الشرقيون لانهم كانوا فى عهود الانحطاط عن العلم راغبين وفي وادى الاحلام تائهين ؟ ومعنى ذلك ايضا هل يمكن ان تكون اللغة العربية لغة علم بالمعنى الحديث أم لا ؟ وجوابى هو نعم وهذه بعض ملاحظات تؤيده :

1) ليست المسألة مسألة اختيار بل مسألة اضطرار فاما ان نطمح الى الوجود  الحقيقي في مستوى الامم المتحضرة فيجب ان نعبر عن كل شئ فى لغتنا ونستقل بها حتى لا نكون عالة على غيرنا او آلة فى يد سوانا أو أن نقر بنقصنا ونعترف بقصورنا وحينئذ لا يمكن ان تكون لنا ذاتية ولا قومية ولا حرمة ونبقى - كما كنا - فى نظر غيرنا منقوصى الجانب مهيضى الجناح .

2 ( لا أخطئ كثيرا ان قلت ان الذين لا يؤمنون بامكانية تعريب التعليم فى جميع فروعه ودرجاته هم ضحايا التعليم الممسوخ والثقافة المسمومة التي اتخذها المستعمر وسيلة من وسائل قتل الشعور بالقومية والذاتية التونسية والتي يسمونها مزدوجة أو ثنائية ولكنها فى الحقيقة اجنبية قبل كل شئ اذ بواسطتها نتعلم كل ما يتصل بالعلم الحديث وينتسب الى الحياة . وتبقى العلوم ) التقليدية ( تدرس بالعربية . . التقليدية ايضا .

فأمر هؤلاء الضحايا واضح من الناحية النفسية : هم لم يتعلموا ولو لفظا علميا واحدا عربيا ولم يعبروا ولو على حقيقة علمية واحدة بالعربية فظنوا ان اللغة العربية لغة ميتة لا يمكن ان تكون أداة الحضارة الحديثة والى تكوين هذه النفسية بالضبط قصد واضعو برامج التعليم الحالى فى بلادنا فهل تراهم يوفقون في المستقبل كما وفقوا في الماضي ؟ ؟ . . )

3 ( والحقيقة ان اللغة ليست هيكلا جامدا لا يتحرك بل هي مركب حى حركى فى تغير وتطور مستمرين وانها تستمد قوتها من قوة اهلها وطرافتهم وملكاتهم الانسانية بحيث تزدهر وترقى اذا ازدهرت الأمة ورقيت وتنضب وتنحط اذا جمدت الأمة وانحطت ) * ( .

فاذا كنا أمة فتية معتزين بانفسنا معتدين بقوتنا طامحين الى ان نخلق ونفتح والى ان نبنى ونشيد والى ان ننير كما استنرنا فلا بد ان نوجد الالفاظ والمصطلحات ولا بد ان نفتق اذهاننا ونجعل اللغة العربية لغة علم وحضارة ولو كان ذلك بعد مرحلة ) محاولة وخطأ ( كما يقول علماء النفس

4 ( وذلك بالضبط ما كان فى عصر المأمون فقد نشط الفكر العربى وتحرك الخيال العربى فوفق العرب الى التعبير عن افكار ) اقليدس ( و ) طاليس ( و ( افلاطون ( و ) ارسطو ) و ( جالينوس ( ومن لف لفهم . بل تجاوزوهم جميعا ودخلوا في طور الانشاء والخلق بعد ان انتهوا من طور الطلب والهضم فكان أبو بكر الرازي وكان ابن الهيثم وكان الخوارزمى وكان ابن خلدون وغيرهم . . .

فالمعجزة التى حصلت في القرون الثاني والثالث والرابع هجريا يمكن بل يجب ان تتجدد فى القرن الرابع عشر حيث الاتصال أيسر والوسائل انجع والانتفاع أشمل وأوفر

5 ) يمكن الاتعاظ بالتجربة السورية . ذلك ان سوريا خلافا لمصر والعراق حيث تدرس بعض المواد فى الطب والهندسة وبعض فروع الحسابيات بالانكليزية ) * ( وذلك من آثار الاستعمار الثقافي الذي لن يزول الا بزوال الاستعمار السياسي تماما ) قلت ان سوريا عربت جميع مواد التعليم في المدارس وفي الكليات منذ عشرات السنين وهذا الدكتور حسنى سبيح مدرس الطب بجامعتها ومؤلف أكثر من ثلاثة عشر كتابا فى نفس الفن يقول : ) انى ارى من الذلة والمسكنة والرسوف بقيود ضرب من ضروب الاستعمار الغربي ( الاستعمار الادبي ( ومما يناقض الاستقلال السياسى التام جعل التدريس فى الجامعات العربية بغير لغة أهل البلاد وحدها بدعوى ان لغتنا العربية ؛ تصلح لان تكون لغة علم عصرية وقد اثبت بما لا يدع مجالا للشك تدريس الطب بها في الجامعة السورية منذ أكثر من ثلث قرن صلاحها لأن تكون فى عداد اللغات الحية - ان لم نقل فى طليعتها وان بمكنتها استيعاب كل ما يجد من مصطلحات علمية بدقائقها متى جد بنوها وأولوها الاهتمام اللائق شأنهم

فى اللغات الاجنبية اذن لألفوها لغة كاملة سلسلة الانقياد مرنة مطاوعة لا ينقصها الا حسن ظن بنيها بها ( .

ولعل معجم الاستاذ عبد الله العلائلى مما يؤيد ذلك ويذهب بالكثير من شكوكنا وتردداتنا .

6 ( كما يمكن الاتعاظ بالتجربة التى وقعت فى الاقسام العصرية بالجامع الاعظم حيث يدرس جمع من الاساتذة جميع العلوم العصرية من طبيعية ورياضية وفلسفية . . . باللغة العربية ففي نجاح هؤلاء الزملاء ) وقد ألف بعضهم كتبا فى الحساب والهندسة والجبر . . . ( ما يبعث الامل ويؤكد طواعية اللغة العربية ومرونتها .

ومهما يكن من أمر فان تعريب التعليم أمر ضرورى يجب ان ينجز من دون مراحل وفي جميع الدرجات وذلك مهما كانت الصعوبات الجزئية والعقبات الفنية ) وعندئذ نرى هل نحن نستحق ما ندعيه ونطمح اليه أم لا .

ب - كيف ترون بقاء الفرنسية فى التعليم ؟

لم نتعصب ولا ضاقت نظرتنا الى الاشياء عندما نزعنا فى تعريب الثقافة التونسية ومحاولة تحديدها نزعة قومية . إنما اردنا ان نخلص لانفسنا ولذاتيتنا ونطهر ) كياننا الثقافي ( من كل ما علق به من ادران الماضي والحاضر . ثم نحن اردنا ان نقف موقف الند للند ازاء الاقوام الاخرى فنأخذ عنهم ونعطيهم

وفي المرحلة الحالية نحن مضطرون ان نستفيد اكثر مما نفيد لان قافلتنا لما ندرك قوافل الامم المتقدمة المتحضرة فوجب أن نأخذ منهم بنصيب وافر وذلك لا يكون الا اذا حذقنا لغاتهم وفقهناها .

وعلى هذا الاساس فانه اذا كانت جميع الامم فى حاجة الى تعليم لغات اجنبية كثيرة فان حاجتنا الى ذلك أكبر وألح . ولذا فلا بد ان تحتوى برامج التعليم الثانوى - لا الابتدائى - على الاقل على لغتين لغة أولى ولغة ثانية .

وأرى أن تكون الفرنسية هى اللغة الاولى لاعتبارات كثيرة أهمها واقعنا الثقافي الحالى وتكوين أجيال وأجيال منا تكوينا فرنسيا بحتا او يكاد ثم الروابط الثقافية بيننا وبين فرنسا بحيث يجد الطالب التونسي سهولات كثيرة اذا هو

قرر الالتحاق بكلياتها . زد على ذلك وجود جالية فرنسية كثيرة العدد لا بد ان يبقى دورها كبيرا فى الميدان الاقتصادى مهما كان الوضع السياسى

ج - ما هى الوسيلة التى بها ينسجم التعليم الزيتوني مع التعليم المدرسي

اذا اردنا ان تكون روح الأمة واحدة واتجاهها واحدا وجب أن تكون برامج التعليم ومناهجه موحدة فلا يبقى تعليم يسمى مدرسيا أو زيتونيا . ولعل ما قاسيناه فى الماضى وما زلنا نتألم من بقاياه فى الحاضر كاف لردع كل ما تحدثه نفسه باستبقاء طابع خاص بالزيتونة أو بالصادقية . . . قسم العدو بيننا بتكوين عقليات ثلاثا عقلية فرنسية صرفة ترعرعت وتكونت فى أقسام الليسيات والمدارس الخاصة وعقلية ) صادقية ( أريد منها أن تأخذ من العربية والفرنسية بطرف ولكنها بقيت مذبذبة بين هذه وتلك ولم ينج من آفتها الا القليل القليل وأخيرا عقلية زيتونية يقال انها عربية اسلامية ولكنها عتيقة لا تتصادى مع القرن العشرين . فيجب أن ندرا هذا الخطر درأ ونضع برنامجا واحدا للشباب التونسى المتعلم حتى يتكيف عقله بكيفية واحدة ويتشبع بروح واحدة ويؤمن بقيم واحدة ويستجيب لمختلف المنبهات استجابة واحدة .

الا انه لا بد من تخصيص فرع للعلوم الدينية الشرعية فى المرحلة الاخيرة من التعليم بالزيتونة اى انه يمكن لبعض الطلاب وقد درسوا دراسة ثانوية مثل غيرهم واستوعبوا فيها حاصل العلوم والمعارف العصرية وتدربوا على الانشاء وتعودوا على المشاهدة ومارسوا البرهان الرياضى والتفكير الفلسفي . . يمكن لهؤلاء ان يلتحقوا ) بكلية العلوم الشرعية ( حتى يتخصصوا فيها ويتخرجوا منها قضاة ومفاتى وعدولا ، ( ويتبحروا فى التفكير الاسلامي (

تلك غاية لا إخال الشباب التونسي بمنظماته الا حريصا على بلوغها ساعيا الى تحقيقها ماذا أقول ؟ بل ان الأمة التونسية جمعاء ستعمل على انجازها وجعلها حقيقة ملموسة .

أطلت الجواب واعتقادى انى لما أحدد ماهية الثقافة التونسية تماما ولا ذكرت جميع مقوماتها . فقد ألحت خصوصا فى ذكر قيمة التعريب وضرورة التوحيد وصورة بقاء الفرنسية فى التعليم . وكان يجب ان أتوسع في مسألتين آخريين هما :

1 ( أهم ما يجب أن تحتويه البرامج وخاصة فيما يتعلق بعلوم المشاهدة والفنون الجميلة .

2 ) طابع الثقافة نفسه هل يجب أن يكون شرقيا أم غربيا ؟ ) أم هل يجب أن يأخذ من الشرق والغرب ويكون تونسيا طريفا ( ؛

ومع أملى فى أن أجيب عنهما فى فرصة اخرى فانه لا بد من التلميح فى خاتمة هذا الجواب الى أمر له أهمية كبرى بالنسبة لهذا الاستفتاء وهو علاقة التعليم من حيث اتجاهه ومحتوياته بمصير البلاد الاقتصادى . فمما لا شك فيه أن اتجاه التعليم يتغير الى حد ما إذا رأى الشعب التونسي مثلا أن المستقبل للتصنيع أو بالعكس اذا قرر أن البلاد فلاحية قبل كل شئ ويجب ان تبقى كذلك . .

اشترك في نشرتنا البريدية