صدر عن الدار العربية للكتاب بتاريخ أكتوبر 1981 كتاب للدكتور محمد بن سعد الشويعر عنوانه : الحصرى وكتابه زهر الآداب .
ما أن خرج للناس هذا الكتاب حتى شكرنا الدكتور الشويعر اعتناءه بأديب القيروان وشاعرها ابراهيم الحصرى وكبر لاول وهلة فى أعيننا كتابه هذا الذى ضم بين دفتيه ستمائة صفحة أو ما يزيد .
ولعله معلوم لدى جمهور القراء أن ابراهيم الحصرى لم يكن مغمورا فى تونس ولا فى غيرها من البلاد العربية . فالى جانب التراجم والادب التى لم تغفل عن ذكره ولا توانت فى الاشادة بأدبه ، فقد أشبعه المرحوم حسن حسنى عبد الوهاب درسا وتمحيصا فيما نشر من كتب ومقالات (1) وكلف به الشاذلى بويحيى أيما كلف فكشف للناس جميعا فى حوليات الجامعة التونسية ( 2 ) وفى أطروحته ( 3 ) وفي دائرة المعارف الاسلامية ( 4 ) ما كان من حياة ابراهيم الحصرى وأدبه مستترا خفيا . الى جانب دراسات اخرى اهتمت عرضا بالحصى وهى كثيرة لا يسع المجال لذكرها الآن . وقد تساءلنا ونحن نقرأ الصفحات الاولى من كتاب الدكتور الشويعر عما يمكن أن يحويه من جديد خاصة وان حجمه يوحى بما يوحى . فقلنا : لا يمكن أن يكون الكتاب غير جمع
ولم لجميع ما كتب عن إبراهيم الحصرى وجاء أوزاعا فى المخطوطات والطبوعات . واذا ما كان ذلك كذلك فقد أحسن الدكتور الشويعر صنيعا اذ كفى القراء مؤونة الرجوع الى عشرات الكتب للفوز بمعلومات عن الحصرى . وهو لعمرى عمل مضن عسير يضطر صاحبه الى الرجوع الى مشهور الكتب ومغمورها والى مطبوعها ومخطوطها واذا تم له ذلك دعته الامانة العلمية ونزاهة البحث إلى ذكر أعمال سابقيه والاشادة بها إذا كانت جليلة قيمه فلا يدعى لنفسه ما هو لغيره ولا يبخس الناس حقهم ولا » يحرف الكلم عن موضعه « . قد سارع الدكتور الشويعر الى اعلامنا بالاسباب التى دفعته الى تاليف كتابه وقد قيدنا من تلك الاسباب ما يلى :
(1) ـــ ( وهو ثانى سبب عنده ) » التعريف الصحيح الوافى بذلك الاديب الكبير الذى لم يجد من ينصفه أو يوفيه حقه من العناية « (5) .
(2) » وان الحظ أسعفني (أسعف الدكتور الشويعر ) بالعثور على مخطوطة نادرة له ينتبه اليها أحد ولم يكشف النقاب عنا من قبل هي كتاب » المصون فى سر الهوى المكنون « ، وهو كتاب فى الحب عرفت به ودرسته دراسة وافية رجحت فيها بالموازنة والمقارنة تأثر ابن حزم الاندلسى به فى كتابه طوق الحمامة « (6) .
يعتبر الدكتور الشويعر أن الدارسين لم ينصفوا الحصرى ولم يوفوه حقه من العناية وكلامه هذا يدل دلالة واضحة على أنه اطلع على جميع ما كتب عن الحصرى وأنه لم يرض عن ذلك ولا عن الدارسين الذين لم يعرفوا بابراهيم الحصري » التعريف الصحيح الوافى « . وسنرجع الى هذه النقطة بالنقد والتعليق فيما سيأتى .
ويعتبر الدكتور الشويعر في مرحلة ثانية » أن الحظ أسعفه بالعثور . . . ( راجع الفقرة السابقة ) الى أن يقول فى غير هذا الموضع ولكن في نفس الموضوع : » هذا الفصل بما فيه من كشف ونتائج جديدة كل الجدة لم يسبقني بحمد الله اليه أحد قط « (7) .
ونحن نسجل أمام هذا الكلام استغرابنا وخجلنا وعجبنا ، كما نعبر عن استبائنا ـــ وكل الذين يعلمون حقيقة الامر مستاؤون مثلنا ـــ لصنيع الدكتور الشويعر الذى أراد استبلاهنا والتمويه علينا والاستخفاف بنا . أفلم نقرأ منذ ثمانى عشرة سنة هذا الكلام بحذافيره لباحث آخر فى مرجع اخر ؟ ألم يقل أحدهم وهو السابق الكشف لا الدكتور الشويعر ، ما نصه :
» ذلك أننا بتتبع آثار ابراهيم الحصرى في مظانها عثرنا على تأليف له غريب هو كتاب» المصون فى سر الهوى المكنون « ( ويقول فى الحاشية اطلعنا على نسخة خطية منه بمكتبة ليدن محفوظة تحت عدد 2593 ( ORوهو فى قالبا الطريف كحديث بين متحاورين دراسة تحليلية لعاطفة الحب فى مظاهرها وظهورها عند العشاق . . . ووصل بنا الاطلاع على هذا الكتاب الى رأى آخر لا تخفى أهميته على علماء العربية . . . وهو ان كتاب الحصرى هذا يمكن اعتباره اصلا من الاصول المظنونة لتأليف ابن حزم المسمى» الحمامة فى الالفة والالاف « (8) .
فما للدكتور الشويعر ينسب الى نفسه ما تعب غيره فى العثور عليه ؟ وما هذا الكشف الذي أعلن عنه وقد أمسى خبرا متداولا بين الطلبة والباحثين منذ سنة 1964 ؟
ان ادعاء من هذا القبيل يجعلنا ـــ من حيث لانشاء نسئ الظن بالدكتور الشويعر ولا نطمئن الى أقواله وهو الذى غالطنا ثانية ـــ والمغالطات فى كتابه لا تحصى عددا ـــ فى غضون حديثه عن تاريخ حياة الحصرى وتاريخ وفاته . فقال بالحرف الواحد : » ولان تاريخ ولادته يكاد يكون مجهولا عند المؤرخين فقد ناقشست الآراء التى حددت عمره وفندت ما ذهبوا اليه هادفا الى تصحيح الخطأ الذى اعتمدوا عليه فى هذا التحديد وخرجت من ذلك بالرأى الصحيح الذي ربما لم يسبقنى اليه أحد « (9) . وحتى يعلم القارئ أكثر ، فان الدكتور الشويعر أقر أن سنة ولادة الحصرى
هى 363 ه وسنة وفاته هى ه . واعتبر اقراره تينك السنتين كشفا لم يسبقه اليه أحد . ولعلنا نعلم جميعا ان حوليات الجامعة التونسية نشرت مقالا (10) أشرنا إليه سابقا بامضاء الشاذلى بويحيى تناول فيه صاحبة بالدرس الحصرى وكتابهر» المصون « وقد قام بمقارنات بين التواريخ عديده اعتمدها جميعا من بعده الدكتور الشويعر ووصل الى نتائج أمست لدينا بعد أن كشف عنها الشاذلى بويحيى معروفة لصحتها ولكونها وليدة أبحاث معمقة لا وليدة تخمين تهويم . والغريب فى الامر أن الدكتور الشويعر الذى اعترف صراحة انه اطلع على مقالات ح . ح عبد الوهاب والشاذلى بويحيى فعلم علم اليقين انهما أقرا سنة 413 ه تاريخا صحيحا لوفاة ابراهيم الحصرى ، يقولهما ما لم يقولا ويفترى عليهما الكذب مغالطة للقارئ وتدليسا للحقائق حتى يوهم الناس بأنه الكاشف الاول لمسائل لم يهتد اليها من قبل غيره . فانظره يقول فى الصحة 74 احالة 29 : » وقد تابع ح . ح عبد الوهاب فى هذه الاستنتاجات الشاذلى بويحيى فى مجلة الحوليات » حوليات الجامعة التونسية « ص 9-10 العدد الاول سنة 1964 م وبنص صراحة على أن الحصرى اندثر فى منتصف القرن الخامس مع أن الحصرى مات قبل ذلك بكثير « . وقد قال الشاذلى بويحيى بالحرف الواحد : » فهم ـــ يعنى أدباء العصر الصنهاجى ـــ الذين اخدوا عنه و تأثروا بمذهبه فنما فيهم وازدهر معهم ووصل أوجه بترعرعهم وكان بتلفهم اندثاره فى منتصف القرن الخامس عند خراب القيروان « و » الاندثار « هنا للمذهب لا للحصرى كما فهم غلطا الدكتور محمد بن سعد الشويعر . ولا يمكن أن يكون الاندثار للحصرى لانه سبق أن بين صاحب مقال الحوليات أن سنة وفاة ابراهيم الحصري هي 413 ه لا 453 ه كما ذهب الى اثبات ذلك بعض الباحثين .
ومما زهدنا فى كتاب الدكتور الشويعر عقده انطلاقا من كتاب الحصرى رهر الآداب فصلا عن السرقات الادبية وهو الفصل الأول من الباب الثالث وخصه ب117 صفحة نراه فيها يدافع دفاعا بطوليا عن السرقة بتضييق نطاقها والتخفيف من أمرها لاخراج أنواع كثيرة من الاخذ من باب السرقة من ذلك أنواع من الترحمة عن لغات أجنبية وأنواع أخرى أطلق عليها عبارة » لفت النظر « وهي التى استعملها فى ما أخذ عن غيره وتبناه لنفسه فكأنه قصد بذلك الى اسكات ضميره بأن اعتبر سبق غيره لكل ما أخذ عنه مجرد لفت نظر
وبذلك يكون قد برر عمله وبرأ نفسه وهو فى ذلك الخصم والحكم معا . ولا ينتهى القارئ من مطالعة الفصل دون أن يخرج منه بفكرة جد غريبه ؛ وهى أنه تكاد لا توجد سرقة ـــ حسب تحاليل الدكتور الشويعر ـــ فخد ما شئت من عمل من شئت واضمم متاع غيرك الى متاعك فليس ذلك سرقة الا ما سماه » سرقة صريحة « أى عند ما يقول المريب خذوني !
الى جانب هذا الاخذ الصريح الذى يسميه الدكتور الشويعر » لفت نظر « فقد عثرنا على هنات فى الكتاب الذي نقدمه لا تحصى عددا لم نستطع غض الطرف عنها أو عدم لفت النظر اليها .
ـــ يلجأ الدكتور الشويعر فى مواطن كثيرة من كتابه الى نقل فقرات مطولة من كتاب زهر الآداب وكتب أخرى مع ذكر مئات من الابيات الشعرية مما يجعل من الكتاب مجموعة نصوص أدبية لكتاب وشعراء من مختلف العصور وآراء لنقاد وباحثين قدماء ومعاصرين يعوزها الترتيب المنطقى .
ـــ يعتمد غالبا على نصوص ينقلها بحذافيرها رغم طولها عوض الاختصار على تلخيصها أو استعمالها للاتيان برأى من عنده أو بعبارة هي عبارته : ـــ مثلا ص 17 وما بعدها حيث ينقل عن الادريسى والمقدسى وغيرهما من المؤرخين ونصوصا عن الجاحظ والحصرى والهمذانى . ـــ فى أواخر الكتاب : من ص 389 ، أمثلة تتوالى وتنتهى بلا ربط ولا خاتمة ، وكذلك فى مستهل الفصل الثالث فى الحديث عن البديع .
ـــ ينقل نص وصية ابى تمام للبحرى كاملة ونص مقدمة كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة ( ص 526-527 ) وغير ذلك من النصوص الكثيرة المعروفة المنشورة فى جل كتب الادب . والكاتب يعترف بهذا ـــ درءا للنقد فيقول ص 290 : » ولما كان الحصرى رحمه الله لم يرحنا بتعريف هذه المصطلحات وكذلك من سبقوه كما أن أمثلة تتناول أمورا أعم مما حدده تلميذه ابن رشيق فى تعريفه فاننى أرى الاستكثار من ايراد الشواهد التى ذكرها الحصرى لهذه المصطلحات ودراستها « .
ـــ يعلم أن شعر الحصرى لم يصلنا منه الا النزر القليل ومع ذلك فهو لا يتورع من البت فى الحكم على هذا الشعر ويقول : إنه ليس فيه مديح الا بيت
واحد ويقدم سبب اعراض الحصرى عن المديح ! ويحكم على الحصرى بقصر النفس ( ص 124 وما بعدها) .
ـــ يصدر أحكاما قاسية على الحصرى وشعره ـــ بدون مبرر ـــ ويستنقصه دون دليل مقنع فيتهمه بالعجز ( ص 144 ) وقصر النفس ( ص 128 ) وقلة العمل الفكرى العملاق ( ص 145 ) ثم يتناقض عندما يورد شهادات القدماء باستحسان أدب الحصرى وشعره . ولعل ما يعيبه على الحصرى انما هو من خصائص أدب العصر . وهو يعلم ذلك اذ يصرح به ( ص 151) .
ـــ ص 216 وما بعدها : عند التعرض الى كيفية تصنيف الحصرى كتاب زهر الآداب يخلط الدكتور الشويعر خلطا يدل على أنه لم يفهم كلام الحصري فادعى عليه ضربا من التناقض وكأنه اعتبر أن تصنيف الكتاب قد اشترك فيه الحصرى وأبو الفضل العباس بن سليمان بأن اختار هذا نصوصا من ادب المحدثين واختار الحصرى نصوصا من ادب القدماء مع اختصاره الكل الخ . . . ويبدو أن الدكتور الشويعر لم يفهم أن كلام الحصرى يعنى أن أبا الفضل قد أتى من الشرق بكتب لا ينصوص مختارة ، وأن أبا الفضل طلب من الحصرى اختيار نصوص من هذه الكتب التى جلبها من الشرق .
ـــ لا ينفك يقول : رجحت ، ثبت عندى ، أعلل ، وهو غالبا فى ما قاله غيره وأثبته بالححة . يقول ( ص 423 ) »وقد لاحظنا ثلاث نقاط فيما نحن بصدده تحتاج كل نقطة الى تعليل أمام القارئ وهي 1... 2 ...ونحن نعلل ذلك بأمور ، أولهما ، وثانيهما « وهنا يقول فى احالة اسفل الصفحة : » هذان التعليلان ذكرهما الدكتور هدارة« فما معنى قوله حينئذ » ونحن نعلل ذلك بأمور اذا كان هذا التعليل قد أخذه من غيره ؟ ومثل ذلك فى ما أوهم اكتشافه فى كتاب »عيار الشعر « لابن طاطبا ( ص 421 ) قبل أن يعترف ص 422 أن الدكتور هدارة هو الذى يرى ذلك الرأى .
ـــ ص 85 : يقول الدكتور الشويعر : » عن الشرقى القطامى : أن أبى ( كذا ) عتيق لقى عائشة . . . « ـــ ص 36 : » فوقف شعراء وأدباء الشيعة العبيديين ( كذا ) « . ـــ ص 145 : » وموجز هذا اللقاء أن الحصرى ما ترك ضربا من ضروب السجع الا تعمدها وتكلفها « .
ـــ ص 286 : » ولا ننسى « ص 307 : » ٠٠٠ سواء كان المأخوذ لفظا أم ( كذا ) معنى أم خيالا « . ص 360 : » على أنه لا يخلو الحصرى من ومضات طفيفة « ! ! ! ص 361 : » لانه مشغول برد المعاني والالفاظ الى أصولها من السابق الى اللاحق « ولعله أراد أن يقول من اللاحق الى السابق . ص 381 : » أحدهما معانى ( كذا ) عادية . . . « ص 440 : » ويقول : ولئن ( كذا ) يسمى ابتداعا أولى من أن يسمى سرقة « . ص 539 : » وبينت تأثيره بمن سبقه « .
وخلاصة القول ، ان الدكتور الشويعر لم يضف بكتابه هذا الى معلوماتنا حديدا يذكر ، وقد اكتفى ـــ وما نظنه يستطيع أكثر ـــ بجمع أقوال سابقيه ونتائج بحوثهم ونبه الى ذلك فى مواطن قليلة وسكت عما أراد تبنيه فادعى باطلا كشفه واماطة اللثام عنه .
ويبقى سؤال يخامر ذهننا بعد الانتهاء من قراءة الكتاب وهو التالي : ما هو موقف الدكتور الشويعر من الحصرى وأدبه ؟ هل كتب عنه اعترافا له بقيمة أدبه وحرصا منه على الوقوف على مواطن الاعجاب والتفوق فى كتابه زهر الآداب أم أنه كتب عنه ليحط من شأنه وليسمه بالعجز وقصير النفس ؟ .
