( سوريا )
حين يقبل باحث على تاريخ أدب العرب ويعمد الى ذكر الاقاليم التى ازدهر فيها التراث العربى عبر العصور ، يغدو لزاما عليه ان يذكر بلاد المغرب العربى فى عداد هذه الاقاليم ويجعلها بحانب مصر والشام والعراق والاندلس . . كذلك كان شأن القيروان فى تلك الربوع الافريقية كشأن دمشق وحلب والكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة ، حين كانت ايضا حاضرة العلم والادب والمركز الحضارى الذى تألق فيه الحرف العربى حينا من الزمان وشع على دنيا العرب .
لقد انبتت القيروان فيمن انبتت ، واحتضنت ايضا فيمن احتضنت قافلة مباركة من الاعلام فى الشعر والنثر ، واللغة والنقد ، والتاريخ والتراجم ، والفقه ، والطب . . والذين ينتمون الى القيروان من النابهين فى هذه المعارف كثيرون لعل فى رأسهم ابن رشيق القيروانى المتوفى سنة 463 ه ، والحافظ عبد الرحمان بن محسن القيروانى المتوفى سنة 380 ه ، وابن أبى زيد عبد البر بن عبد الرحمن المتوفى سنة 386 ه ، وابراهيم بن القاسم القيروانى المعروف بالرقيق ، المتوفى سنة 417 ه ، وابن شرف محمد بن ابى سعيد القيروانى المتوفى سنة 460 ه ، وجعفر بن محمد القيروانى المتوفى سنة 534 ه والطبيب المؤرخ احمد ابن ابى خالد ، ابو جعفر القيروانى ، المعروف بابن الجزاز والمتوفى نحو سنة 350 ه (1) ، وابو اسحق ابراهيم بن على الحصرى القيروانى المتوفى سنة 453 صاحب زهر الآداب ، وأبو الحسن على بن عبد الغنى القيروانى الشاعر الضرير صاحب قصيدة (( يا ليل ، الصب . . )) . . حتى ان شعراء القيروان بلغوا حدا من الكثرة جعل ابن رشيق يخصهم بكتاب اسماه (( انموذج الزمان فى شعراء القيروان )) الخ . . هذه هى القيروان ، انها بحق (( بغداد المغرب )) (2) .
اما ابن رشيق فهو كشأن الافذاذ ، متنوع المواهب ، متعدد الجوانب ، آنه ناقد ، مؤرخ ، شاعر ، ناثر ، لغوى ، فقيه (I) ، منصف . .
وكثيرا ما يلحق الغبن وسوء الحظ من كانوا من هذا الطراز من الاعلام ، اذ يعرفون من خلال مظهر من مظاهر نشاطهم المتعدد ، فتطغى ناحية مما يجيدون على سائر النواحى فتكاد تخمل ذكرها . وهكذا عرف ابن رشيق ناقدا كما عرف ابن حزم فقيها وابن عبد ربه مؤلفا ، وهم جميعا طليعة العلم والادب فى المغرب والاندلس ، وكانوا فى الوقت نفسه يقرضون الشعر ويجيدون نظم القصيد ، ومع ذلك لم يكونوا يعدون دائما فى الشعراء . ولعل ذلك مما أدى الى قلة احتفاء الناس بشعر ابن رشيق ، وربما كان السبب ايضا فى ضياع ديوانه .
على أن جهودا معاصرة كان لها فضل فى محاولة استكمال دراسة شخصية ابن رشيق من جوانبها كافة ، وبخاصة فى الكشف عن ابن رشيق الشاعر (2) .
واذا أمعنا فى تضييق شقة الموضوع يطيب لنا ان نخص بالقول مرثية ابن رشيق فى مدينته القيروان ولعل ما يميز هذه القصيدة من بين سائر شعر ابن رشيق أنها اطول القصائد التى بين أيدينا ، اذ يبلغ عدد أبياتنا 56 ستة وخمسين بيتا . ويكاد يكون من المؤكد أنها فى أصلها تزيد فى عدد ابياتها عن هذا الحد ، فما بين أيدينا منها يبدأ على هذا النحو :
كم كان فيها من كرام سادة
بيض الوجوه شوامخ الايمان
وواضح ان هذا ليس مطلع القصيدة ، ولكنه امتداد لابيات سابقة ، والضمير ( فيها ) كذلك يعود الى قول سلف ، فضلا عن فقدان التصريع فى هذا البيت ، وهو ظاهرة بديعية لا شك فى أن ابن رشيق وأمثاله كانوا يحرصون عليها فى ذلك العصر .
أما أن تكون القصيدة فى اصل ابياتها قد بلغت / 122 / مائة واثنين عشرين بيتا (1) فأمر محتمل الوقوع ولكننا لا نستبعد فى الوقت نفسه ان يكون هذا العدد مبالغا فيه نتيجة احتمال تداخل ابيات هذه القصيدة مع ابيات اخرى من قصائد موازية لها فى الموضوع والوزن والقافية ، على غرار ما حدث خلال مرثية أبى البقاء (2) وغيرها (3) . .
وواضح ان هذه القصيدة تنضوى تحت غرض رثاء الممالك ، هذا الغرض الذى يعد بمثابة وتر جديد شده الاندلسيون والمغاربة الى قيثارة الشعر العربى وعزفوا عليه أشجى ألحانهم . ومع ذلك فلا بد من التمييز بين نمطين من رثاء الممالك ، نمط يصف ما حاق بالبلاد من عسف وهوان ، وقتل ودمار ، حين كانت فئة من الحاقدين او الطامعين تطغى وتستبد بالامور وتعيث فى الارض فسادا ، من مثل ما حل بالبصرة حين دهمها الزنج ، وقرطبة حين دهمها البربر ، او اشبيلية وبطليوس وبعض مدن الاندلس حين أطاح بحكامها المرابطون . . . وهذا أقرب الى أن يدعى انقلاب الدول منه الى أن يسمى زوال الممالك على حين نجد نمطا آخر ضمن هذا الغرض الشعرى يتصل بماحاق بديار العرب والاسلام وبخاصة فى الاندلس من اهوال ومحن وابادة وتهجير على ايدى الفرنجة . ولعل هذا النمط أبعد شهرة من سابقه لانه ارتبط باحداث جسام وانطوى على نهايات
فاجعة ، حين لم تعد تلك الحواضر والمدن تذهب من ايدى العرب الى العرب ، بل إنها الآن وفى طور الافول أخذت تخرج إلى الأبد من أيدى العرب لتعود الى حوزة الاسبان ، من مثل ما قاله ابن العسال فى بريشتر وطليطلة وابن حمديس فى صقلية ، والوقشى فى بلنسبة ، وسائر ما قاله لفيف آخر من الشعراء فى رثاء عدد من مدن الاندلس او بقية ربوعها كابن بقى وابن الابار وابى البقاء . . .
اما قصيدة ابن رشيق فهى من النمط الاول الذى يعكس الصراع المرير بين المسلمين فى افريقية حين كان باسهم بينهم شديدا ، وكثيرا ما كانت الاحداث تتفاقم وترتدى طابع الفتن والاحقاد ، كالذى حدث بالقيروان :
حتى اذا الاقدار حم وقوعها
ودنا القضاء لمدة وأوان
أهدت لها فتنا كليل مظلم
وارادها كالناطح العيدان
وابن رشيق فى هذا النمط من رثاء الممالك او تصوير انقلاب الاحوال فيها يمكن جعله فى زمرة ابن الرومى وابن حزم وابن شهيد والمعتمد وابن عبدون ونحوهم من الشعراء الذين بكوا ربوعهم وابتأسوا لمصائر بلدانهم ..
على أن ما يلفت النظر فى مضمون هذه المرثية ان ابن رشيق فيما وصف انما كان يصدر عن شعور دينى عارم لانكاد نجد له شبيها عند سائر شعراء زمرته الذين تناولوا انقلاب الدول واجتياح الفتن لبعض الحواضر . وهذا امر طبيعى فلم يكن من هم البربر فى الاندلس مثلا او المرابطين او من كانوا من هذا القبيل ان يخربوا المساجد ويدنسوا المقدسات ما داموا يدينون بالاسلام . ولهذا اتسم شعر ابن حزم ونثره مثلا ما بطابع عاطفى مفعم بالمرارة ، وقد تلفع بغلالة انسانية رقيقة . . وهذا يعنى ان مرثية ابن رشيق تشير الى ان ما حدث فى القيروان على يد قبائل بنى هلال من استباحة للحرمات وتعرض للمقدسات انما كان مشابها فى طبيعته لما ارتكبه الفرنجة من هول فى ممالك المسلمين ، حتى انه لم تقم للقيروان بعد هذه النكبة قائمة طوال قرون عدة .
وذلك فى نحو قوله :
فتكوا بأمة أحمد ، أتراهم أمنوا عقاب الله فى رمضان
واستحسنوا غدر الجوار وآثروا سبى الحريم وكشفة النسوان
أو قوله :
. . وأئمة جمعوا العلوم وهذبوا سنن الحديث ومشكل القرآن
واذا دجا الليل البهيم رأيتهم متبتلين تبتل الرهبان
فى جنة الفردوس اكرم منزل بين الحسان الحور والغلمان
المتقين الله حق تقاته والعارفين مكايد الشيطان
ثم يخص ابن رشيق جامع عقبة بالوصف فيقول بأسى بالغ :
والمسجد المعمور جامع عقبة خرب المعاطن مظلم الاركان
قفر فما تغشاه بعد جماعة لصلاة خمس لا ولا لأذان
بيت به عبد الاله وبطل ت بعد الغلو عبادة الاوثان
بيت بوحى الله كان بناؤه نعم البنا والمبتنى والبانى
وابن رشيق يجنح الى التهويل على مألوف العرب فى هذه الموضوعات :
اعظم بتلك مصيبة ما تنجلى حسراتها او ينقضى الملوان
لو أن ثهلانا أصيب بعشرها لتدكدكت منها ذرى ثهلان
وأرى النجوم طلعن غير زواهر فى افقهن وأظلم القمران
وأرى الجبال الشم أمست خشع ـا لمصابها وتزعزع الثقلان
والارض من وله بها قد أصبحت بعد القرار شديدة الميلان
وما من ريب فى ان مبالغات كهذه قد لا تبدو سائغة فى عصرنا هذا ، ومن جهة اخرى كان جديرا بابن رشيق ان تتخمر الاحزان فى نفسه وتتوضع الآلام فى قريحته لتفيض هذه النفس بعد ذلك ببالغ الحكمة ، ولكننا لا نكاد نجد شيئا من هذا القبيل الذى عهدناه لدى شعراء آخرين كالبستى (1) ثم ابن اللبانة وابن عبدون واخيرا ابو البقاء . .
على اننا ينبغى مع ذلك الا نجزم بافتقار القصيدة إلى الحكمة ما دام شطر غير قليل منها لم يصل الينا .
ومن الطبيعى فى موضوع كهذا ان تتجلى الفاجعة فى اطار جماعى حين يعمد الشاعر الى تصوير عاطفة قومه فى كثير من الشمول ، كأن يقول مكتئبا على مصير القيروان :
حزنت لها كور العراق بأسرها
وقرى الشآم ومصر والخرسان
وتزعزعت لمصابها وتنكدت
أسفا بلاد الهند والسندان
فالعاطفة هنا تتسع لتلف برحابها امة العرب وسائر مسلمى الارض . .
ومن هنا قل حظ القصيدة من الذاتية وازداد من الجماعية ، وبالتالى لم يعد المجال هنا مجال النواح وذرف الدموع . ولعله كان من الاطرف لقصيدة ابن رشيق ان يحاول الشاعر التفلت من فلك الاعراف الشعرية التى تؤثر التعميم واقتضاب الوصف ، كأن يعمد الى الاقتراب من وصف الجزئيات وتصوير اللقطات التى تمتح من طبيعة الاحداث التى جرت دون سواها ، اى ان يجنح الى شئ من الذاتية ومن التخصيص ومن التفصيل ، واذ ذاك يغدو فى نجوة من ذلك التشابه الذى يكاد يطبع اكثر المراثى فى زوال المماليك بهذا الطابع ويبعد عنها سمة التمايز .
ومن هنا ، لعل أجمل ابيات ابن رشيق ، فى رأينا ، ما كان اوفرها خصوصية واحفلها ذاتية ، حين جنح الشاعر الى تصوير تجربته الفردية ومعاناته الذاتية تجاه مدينته المنكوبة ، القيروان :
أترى الليالى بعدما صنعت بنا
تقضى لنا بتواصل وتدان
وتعيد ارض القيروان كعهدها
فيما مضى من سالف الازمان
حلب - سورية
