الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

حيرة ..!

Share

غادرت المكتب منهكا وامتطيت سيارتى أشق شرايين المدينة المهتاجة ، وأنا أرنو الى وجهين يطلان فى أفق خيالي يستحثان قدومى .

دست على المحفاز فطارت السيارة تسابق الريح . لمحت لافتة عن يمينى . اشارة مرور مستديرة الشكل . رأيت ابنى يبرز من خلالها ويهتف نحوى : " ابى لا تسرع . نحن فى انتظارك " . هدأت من السرعة . رغبات ابنى أوامر . صرت أسير أوامره مذ أنار بدوره عشنا بعد سبع سنوات عجاف .

سنون مضت وأنا أجتر حكايات الزمن البالى

- طلقها . طلقها . - حرام يا أمى . - بل حلال . حلال بغيض ولكنه حلال .

كلفت بها منذ أن رأيتها . كانت قد جاوزت العشرين عاما بقليل ولم تكن على قدر من الجمال ولكنى أحببتها لما لمست فيها من خلق عظيم . بادلتنى نفس الشعور غير ان ذلك لم يكن كافيا . فقد مانع أهلها فى تزويجها اياى . لا اقتران بغير أحد ابناء العشيرة .

كانت طلقة المحيا تكاد الابتسامة لا تفارق ثغرها رغم ما كانت تكابد من مرارة الحرمان . كلما عدت من العمل فى آخر النهار وجدتها تنتظرنى لترتمى فى احضانى ترتشف الحب الراقد فى اجفانى وتنبرى تخفف وطأة اليوم الثقيل .

" طلقها .. الارض الجدباء لا تخصب ولو غمرها طوفان نوح " .

ونظر الينا البارىء بعين رحمته الواسعة فوهبنا صبيا دعوت الله ان يكون لى بعده سندا فى هذه الحياة . ملأ البيت بهجة وحبورا ووطد صلتى الوثقى بزوجتى وقمع جرائر الهمز واللمز .

أوقفت السيارة وهرعت الى باب الدار فالفيته موصدا على غير عادته . ضغطت على الجرس ولكن دون جدوى . أدرت مفتاحى وفتحت الباب فارتمى على بعنف يكاد يخنقنى .. سكون مطبق كسكون المعبد المهجور .

سند ! رجاء !

فلم أسمع غير صوتى يقرع الجدران ثم يربض امام رجلى لاهثا يعبق بالجزع والحيرة .

طرقت بابا أوثق رتاجه وبقيت انتظر .

انفرج عن امرأة مسنة مترهلة الجسم سوداء الملبس . حدقت فى بعينين تشعان لظى ثم بصقت فى وجهى وأوصدت الباب بعنف كاد يجتثنى من الارض .

كنت أعلم انها تكن لى من الحقد والضغينة مذ تزوجت ابنتها ، ما لا يمكن أن يمحوه الدهر ولكنها كانت تسعى جهدها لعدم كشف جلية أغوارها فتتظاهر بالترحاب وتهش وتبش .

ارتسمت على ثغرى ابتسامة وأخذت أروح جيئة وذهابا امام المنزل مطأطأ الرأس ثم انفجرت ضاحكا .

انصرفت الى دار صديقة لها حميمة ، الوحيدة التى ظلت رجاء على علاقة بها حتى بعد زواجنا وتعتبرها صديقة صدق تصافى وتخادن .

أطلت من وراء الباب الموارب امرأة واضحة الجبين قاتمة الشعر جميلة القد . ولما رأتنى أسرعت الى الباب توصده وعيناها تقدحان نحوى شررا ملهابا . لم استطع تحمل هذه الصفعة الثانية وتحول جزعى الى موجة غضب عارمة وانهلت على الباب أضربه بكلتا يدى . فلم اشعر الا ورجم صغيرة تتساقط من السماء على رأسى . التفتت فاذا صبية يتقاذفوننى بالحجارة ثم يلتفون حولى ويهزجون بأغان أثارت فى نفسى الضحك . ولكن شيخا نهرهم فلاذوا بالفرار .

سلمت على أبى وأمى وسألتهما عن زوجتى وابنى . استمر أبى يتصفح جريدته وقد تدلت نظارته على مارن أنفه . أما أمى فاستدارت قليلا وألقت على نظرة حانية وعادت الى الماكنة تخيط رداء .

حتى أبواى ! أمكتوب على ألا أظفر اليوم بجواب !؟

زعقت حتى خلت أن الجدران ارتجت . بل ارتجت فعلا وشاهدت أبى يلقى جريدته ويحاول حفظ توازنه . يتمايل .. يترنح .. يريد التمسك بى .. رأيت أمى قابعة الى ما كنتها .. الماكنة تتراقص .. تكاد تقع أرضا .. بل هى ترتفع وتنخفض .. البيت كله يتحرك .. انه الزلزال .. البيت يدور ويلفنى . الزلزال تحتد شدته .. يدور بسرعة فائقة كأجنحة المروحة .. رأيت أبى وأمى يدوران مع أجنحة المروحة .. سيبتلعهما الزلزال .. يسرعان الى .. يحاولان التشبث بى .. أيديهما تمتد نحوى .. الزلزال يفغر فاه كتنين .. بل هو تنين .. شدقاه يمتدان بين السقف والارض .. حلقه ظلام .. الظلام يأسرهما .. يزحف نحوى .. يكتسحنى .. استغيث : " سند ! رجاء ! سند ! سند ! " صراخ حاد يثقب سمعى .. يدان عصبيتان تنقضان على المقود .. يدان صغيرتان تلتفان حول عنقي وضباب ضباب ضباب تنزلق نحوه المركبة الحمراء .

انفتحت عيناى فى غرفة ضيقة وبقيت مقلتاى تجولان فى العتمة ، نهضت متثاقلا أحاول جمع شتات فكرى . وفجأة بدا بفتحة الباب رجل لم أتبين ملامحه ولكنه كان منفوش الشعر مضطرب اللباس خلق المظهر . حفرت فى متاهات ذاكرتى فلم أجد لنفسى علاقة بمثله فكل من خالطت قوم محترمون شديدو الاعتناء بهيئتهم .

ظل جامدا أمامى يرقبنى وأرقبه ثم ضقت ذرعا بهذا الصمت الثقيل المخيم على الحجرة فخطوت نحوه لاتعرف عليه وأعرف حاجته . ولعل نفس الافكار خامرته فقد تقدم بضع خطوات منى يتفرس وجهى ويحدق فى كأنه يريد أن يعلم هويتى . فاذا عينان غائرتان فى وجه مستطيل قد غزاه الشعر من كل جانب تنظران الى بامتعاض وقرف واذا جسم نحيل تكسوه بدلة رثة قد نسى الماء والصابون السبيل اليها . - حر حرات - ز -

طرق سمعى صوت خارج الغرفة :

" قاتل الله الخمر " .

انه صوت أمي يرتفع متذمرا

دفعت الرجل لأخرج لمقابلتها فلم يبرح مكانه بل بدا متحفزا للوثوب على . خيل الى انى أعرفه . شحاذ بالجلاز ؟ أم فداوى بسوق العصر ؟ أم من أولئك الهائمين على وجه الارض بغير هدى ؟ لست أدرى على وجه التحديد . ولكن بريق عينيه يذكرنى بشخص ما . أعلق بصرى بوجهه . أتحسس ذقنى فاذا أحراش شوك . يفتر فمى عن ابتسامة . أضحك . أقهقهه . أقهقهه بصوت عال . ولما سكت أتانى أبى وأمى :

- الخمر هى سبب بلائه . - بل السرعة .

أسرعت الى والدتي والدمع يبلل صفحة خدها ، تمسك بيدى وتساعدنى على الجلوس . أما والدى فبدأ غارقا فى تأملاته وقد أراح رأسه الاشيب على كفه .

سألت أمى : " أين رجاء وسند ؟ " فأجهشت بالبكاء . اعترتنى موجة من الضحك . فقد ذكرتنى والدتى وهى تبكى باحدى الممثلات الهزليات .

- فيم بكاؤك يا أماه ؟ - لا تمعن فى تعذيبنا يا ولدى .

التفت الى أبى فقال بعد زفرة طويلة :

- تلك ايام سوداء ولت فلا تحرك نصلا فى جروح لم تلتئم .. وهل تلتئم ؟ ثم رأيته يدير وجهه نحو الجدار الذى ازدان بصورته أيام فتوته وشبابه ويخرج منديلا .

نظرت الى أمى فاذا بها تذرف الدمع بصمت هى الاخرى .

مشهد يوحى بلوحة عجيبة . أبوان يذرفان الدمع بحرارة . يسيل دمعهما حتى يمتزج وتمتزج أحزانهما بل يمتزج وجهاهما فيبدو الوشم فى ذقن أبى ووجنتيه ويطول شارب معقوف كمقود دراجة فوق ثغر أمى .

- أين مفاتيح السيارة ؟

هرع والداى يثنيانى عن عزمى وقد سحب القلق على وجهيهما ستائره

- لقد جن الظلام والطقس بارد وقد تنفلت السحب الدهماء الى امطار غزيرة .

- أنسيت السيارة يا أبى ؟ تقرب البعيد ، وتبعد القريب .

وغادرت البيت مترنما بهذا المقطع وهما يقتفيان اثرى حتى ادركت الشارع حيث تركت السيارة .

- أين سيارتى ؟ - اية سيارة ؟ - سيارتى الحمراء الجديدة

لقد أوقفتها هنا فى هذا المكان . لا شك ان والدى حولها الى مكان آخر ليحول دون ذهابى ولكنى سأذهب . سأذهب للبحث عن عزيزى فى احياء المدينة وشعاب الجبال ومتاهات الفيافى . ولن يمنعنى من ذلك أحد . لن يمنعني أحد .

- هيا بنا ندخل يا ولدى لقد بدأ المطر ينزل

- ليهطل المطر وليقصف الرعد ولتعو الرياح فلن يمنعنى أحد من البحث عن رجائى وسندى لن يمنعنى أحد . أنا اعرف أنهما قريبان . أحس بذلك انهما يناديانى . أصواتهما تصل الى اعماقى .. تجذبنى اليهما . أنا قادم . انا قادم أنا عائد اليكما من العمل كالعادة لاضمكما وأشعر بدفء حنانكما . أنا قادم لقد أبطأت .

وسرت نحوهما غير عابىء بما كان يردده أبواى تحت المطر وهما يرقبانى .

- الخمر سبب كل بلائه . - بل السرعة .

اشترك في نشرتنا البريدية