كانت تمثل جزءا من القرية لا ينفصل . كانت نغمة من نغماتها ولونا من ألوانها .
تعود الناس أن يروا شعرها الابيض الاشعث وقدميها الحافيتين وأذيالها السوداء الكانسة .
كانت تمثل معينا للحديث لا ينضب . بل كانت تثير من الجدال ما لم تثره هندسة المسجد الجديد البشعة او تضاعف الاداءات البلدية
فى الدكاكين يتساءلون عن أسباب تغيبها يوم تنقطع عن المرور فينسبه احدهم الى مرض ويعلله آخر بدخول المارستان ويقول ثالث : قد تكون ألقت بنفسها فى بئر " فيرد غيره حانقا محتجا كأنما يعرف ما لا يعرفون أو يذكرهم بما نسوا : غير ممكن . ألم تحاول الانتحار مرارا بدون أن يستجيب عزرائيل لرغبتها ؟ ثم انه يستحيل أن تكون قد فعلت هذه المرة . فقد عدلت عن ذلك منذ أقنعت أن الاطفال لا يهبطون كما يهبط الكبار . نعم . قد تكون الآن في الفضاء . أما أن تكون فى بئر فذلك مستحيل . " فترتفع القهقهات ويصمت المتفلسف كاظما غيظه ثم يتمتم : سحقا لكم . أنتم تفسدون كل شى
فى البيوت كانت سلاحا تربويا لا يفل . تتبرم الامهات من ضجيج الصبية وعنادهم وتيأس من نجاعة اللين والشدة فتصيح صيحة ترتعد لها فرائصهم " هل تريدون أن أدعو المجنونة ؟ " فاذا عصا موسى تلتهم أفاعي الفراعنة الصغار واذا القلوب يكاد يسمع وجيفها .
فى الشارع كانت سيفا مصلتا على أعناق الغلمان . أولئك كانوا يعرفونها أكثر من سواهم . فقد كانت تشتت شملهم وتفسد عليهم ألعابهم ومبارياتهم حتى أنها نجحت فى ماخاب فيه أعوان الشرطة لدخولها كل الانهج والازقة واقتصارهم على الشارع الرئيسى . غير أنها كانت تكسر جرار الصبية حين تقع فى قبضتها بجوار الحنفيات . فكانت نذيرا لأولئك وبشيرا لهؤلاء
وقد ثار الصبيان أول أمرهم لافسادها ألعابهم وانتزاعها كرياتهم ثم ابتكروا لهم طريقة دفاعية تتمثل فى تنصيب خفير عند بدء كل مباراة لحمايتهم وحماية كرياتهم
وثار الكبار أول أمرهم لهلاك جرارهم ودلاهم ثم تعودوا الاستغناء عن خدمات الاطفال فى ملء الجرار
ماتت المجنونة
طلع الخبر على القرية مع طلوع الفجر . فوقع عليها وقوع الحصاة فى الغدير . فاذا الناس بين مصدق ومكذب . . واذا المعارك الكلامية ناشبة فى كل دكان وست . واذا المتفلسف وحده غير منحاز . يرفض الخبر لايمانه الراسخ بانشغال عزرائيل عنها من جهة ويرى فيه حلا لرغبتها فى اللحاق بعالم الارواح من جهة اخرى
وتناقلته الافواه فانتشر . وبلغ أسماع الاطفال فصاح أحدهم : يحيا الموت ! اليوم دورى فى الحراسة . لقد أفلت منه وسألعب فأجاب آخر " نعم . لكنك ستملأ الجرة " ثم التفت يمنة ويسرة وهمس : ان ماتت مجنونة فقد بقى مجانين " فتحلت على الشفاه الصغيرة ابتسامة منقوصة علقتها دواعي الريبة والحذر . فمن أدراهم أن الخبر ليس خدعة من الكبار الكذابين
ومما زاد فى نشر البلبلة والحيرة أنهم لم يسمعوا اعلانا عن موتها . فها ان المعلن عن الوفيات منكب على لعب الورق فى المقهى . سأله أحدهم فأجاب حانقا : لا أعلم " ثم زاد موبخا : انك افسدت على الحساب "
ولم يقطع البلبلة سوى حفار القبور لما عقد بزبائن المقهى ندوة اخبارية سرد فيها ما شاهده فجر هذا اليوم . لقد شرع فى عمله المعتاد . فحفر قبرا لساكن متوقع . فقد اعتاد أن يفعل ذلك ربحا للوقت وترغيبا للأحياء وتيسيرا لعمل عزرا ئيل الشاق . ثم قصد الطرف الآخر من الجبانة حيث ادخر كمية من الاطباق الحجرية . ولما مر بكوخ المجنونة أبى الا أن يزوره . فبدأ له أول الامر خاليا موحشا فى ذلك المكان الاهل بالسكان . ولما أمعن النظر في زواياه المظلمة رآها مسجاة يابسة . وقاطعه أحد الزبائن صارخا : قلت لك انه الشوط السابع " فاستعاد آخر : كيف رأيتها ؟ " فكرر الحفار : مسجاة يابسة " وزاد : لقد ماتت شاذة كما عاشت . خطر لها أن تموت يوم الاحد
وقد بحثت عن سيدى الامام فى مدرسته فقيل لى انه فى البستان يصطاد الحجل . وقصدت مركز الحرس الوطني فلم أجد الا واحدا قال انه اليوم غير مسؤول عن الاحياء فضلا عن الاموات . واتجهت الى منزل سى محمد المسؤول فى البلدية فأجابني إن للمشاكل حدودا هى حدود مكتبه . وخيرني بين أن ادفنها أو أعود لمقابلته غدا بقصر البلدية . وقد فضلت أن ادفنها قبل أن تفسد رائحتها فيتسمم الهواء وينزعج الموتى . ولست واثقا من أن رجال البلدية سيدفعون لى أجر الحفر والدفن . فهم يفضلون أن ينفقوا على منازل الدنيا كل شئ ولا يتركون شيئا لمنازل الآخرة تلك التى يقضون فيها من الاعوام أضعاف ما يقضون فى الأخرى . " ثم هدد ، أقسم لو أبوا الاعتراف بأجرى لاعرفنهم أى منقلب ينقبلون " فسخر أحدهم : هذا اذا ماتوا قبلك " وسأل آخر بين ضربتين من " الديمينو " : وصلاة الجنازة ؟ " فقال ثلة من الناس التقطتهم بباب المسجد عند خروجهم من صلاة العصر . أما قارئوا القرآن فقد ترحموا عليها واستغفروا لكنهم أبوا حضور الدفن بدون مقابل " فتم أحد الشيوخ : لقد نالوا بعد عقابهم . فهم لن يجدوا قارئا للقرآن عند موتهم سواء كان ذلك بمقابل أو بدونه . ثم ان من باع القرآن مقابل المال باع الثواب . أما هي فليست بحاجة الى قراءات تجلب اللعنات لقد ماتت شهيدة " فالتفت الحاضرون الى الشيخ والتعجب يقرن حواجبها وانفجر أحدهم ضاحكا : " شهيدة ؟ شهيدة انقلاب المخ واختلاط الاعصاب بلا شك " فقال الشيخ مصرا وكأنما يحدث نفسه : بلى . شهيدة
جمدت الاوراق بين أصابع اللاعبين ثم تخاذلت الاصابع واستقرت الاوراق على الموائد . وأحس اللاعبون بأن للشيخ حججا وأدلة فرشقوا الساخر العنيد بنظرات احتجاج وأقبلوا على الشيخ يجرون كراسيهم في احتشام . قال أحدهم : سيدي الشيخ لا تؤاخذه انه لا يعرف " فأجاب فى شىء من الضيق اعرف انه لا يعرف وأنى له أن يعرف . وقد وقعت الأمور ولما يولد " ثم قال متوجها بسؤاله الى ذلك الشاب الذي بدت عليه علائم الاستخذاء : هل تعرف المرحوم عبد الله شيخ القرية السابق ؟ " فطأطأ الشاب رأسه صامتا مهزوما عندئذ قال الشيخ :
" كان رحمه الله من خيرة سكان هذه القرية . موطنا للتقوى ومنبعا للخير لم يضر أحدا . جمع عددا من الخصال ذهبت معه . وكان لى أكثر من أخ . كان صديقا . تخرجنا على يد مؤدب واحد . وجمعنا العمل الواحد . فقد أسندت اليه المشيخة القبلية وأسندت الى المشيخة الجوفية . غير انى امتلكت
نصف ديني قبله . أذكر أنى كنت أحثه على الزواج فيمتنع مدعيا أن كل سنة من العزوبة تربحه طفلا . ومما زاد فى تشبثه بالعزوبة أن زوجتى . . سامحها الله - أنجبت منذ السنة الاولى توأمين . ايه . كم سخر منى آنذاك . لكن لا بد مما ليس منه بد . فتزوج في الاربعين . وزوجته أختا لى آليت على نفسي أن أزوجها اياه . لم ترفض ولم تتمرد كما تجرؤ بنات اليوم رغم انه كان من الممكن أن يكون لها ابا
" ومرت الشهور دون أن ينجبا أطفالا . ومرت السنون . وكتما الالم أول الامر ثم ضاقا به فزارا الاولياء والصالحين وحتى المشعوذين . بدا بالصباغ وابراهيم ثم ارتقيا الى البوضرى والطوزية والمديونى . لكن بدون جدوى وعرضت عليه أن يتبنى أحد أطفالي فأجاب : لن أنال الا ما كتب الله لى " ثم خطر بباله أن يقصد الطبيب فتم على يديه مالم يتم على أيدى الآخرين . فأنجب ولدا .
" لقد كان يوما مشهودا . أعلن على الملا أن باب بيته مفتوح للزائرين طيلة أسبوع . فكانت لرجال القرية أيام وكانت لنسائها ليال . وكان يكرر خلالها أن الفرحة الناقصة حزن ناقص ، وأن فرحة بلا طعام كنحل بلا عسل ففاضت البهجة على الوجوه واستقرت فى البطون . وما أن لحس الناس أصابعهم حتى علن المرحوم أنه قرر - شكرا لله - زيارة بيته وقبر رسوله عليه السلام
وأعلنت أختى عزمها على مصاحبة زوجها
" لقد تبدل أيما تبدل . لم يعد يطيق أن يفارق المنزل . ولم أكن أطيق البقاء بمنزلي . كان الزمان يزيده اقبالا ويزيدني نفورا حتى أنه جعل سقيفة منزله مقرا لعمله . وكنت أزوره بين الفينة والأخرى فلا أراه إلا وطفله فى حضنه ولا أسمع منه الا حديثا عنه . وكذلك أمه . كانا يعيشان فى فلكه . بل يعيشان فى خدمته . كنت كلما عاتبتهما على ذلك الافراط حدجانى بنظرات غاضبة وأجاب الاب فخورا : هذا ما قل ودل " وأجابت الام : انك لم تلده فأصمت على مضض
" كان بهو المنزل يضمنا للسمر فلا حديث الا عنه . عن الرضيع الذى تجرد فأصبح هو . هو وحسب
" دخلت المنزل مرة فرأيت أختى جالسة فى البهو متربعة على الارض تحت أشعة شمس محرقة وطفلها فى حضنها وشعرها الفاحم متهدل على وجهه
فزجرتها لذلك التدليل المفرط فردت وهي تغطى كامل جسده بشعرها : أود لو أصنع له من شعري غطاء " ، أمرتها : انهضى فأوقدى الكانون لنطبخ شايا في السقيفة " فضمت اليها طفلها ورفضت . نعم رفضت . جددت الامر حانقا فاصرت . كانت أول مرة ترفض لى فيها طلبا أو تعصى أمرا . وقالت بأي حق تأمرني وتصرخ ؟ "
ولما سألتها مدهوشا : ألست أختى ؟ " أجابت : كنت أختك لكنى اليوم أمه " فغادرت المنزل مهتاجا عاقدا العزم على أن أنفض يدى منها . ولما انقطعت عن زيارتها جاء زوجها لاسترضائى وألح قائلا ان الفرق بيني وبينه هو أن أبوته تركزت فى ولد واحد وأن أبوتى توزعت على أطفالى الثمانية حتى شحبت وضاعت . فنشأ فى نفسي ما يشبه الشفقة وعادت مياهنا الى مجاريها
" وجاء موعد سفر الحجيج " .
وصمت الشيخ برهة . فترك صمته فى المقهى دويا غير مسموع . لم لملم اطراف برنسه المتهرى واستأنف حديثه :
" فما كان أطولها ليلة . مازلت أتذكر جلستنا فى بهو المنزل . كنت قد جئت بزوحتى وأطفالها . فافترشوا الحصر وناموا كيفما اتفق . وحاولت زوجتى استدراج الحاجة لثرثرتها المعهودة فبدأت بالتهانى والتمنيات . لكنها قوبلت بعينين شاردتين . أما زوجها فلم يكن يكف عن التنهد والاستغفار كانا يتظاهران بتذكر أشياء أغفلاها فيتداولان دخول الغرفة . ولاحظت أنها كانت نفس الغرفة دائما ، غرفة الطفل الذى سيفارقانه
أحسست بما كان يدور فيهما من صراع . بين الطفل والبيت الحرام نشب نزاع تركهما مذهولين . حتى زوجتى الحمقاء أحست بذلك فصمت مثل هذا الصمت الهائج ساد البيت ليلة السفر . ولم تكن تقطعه سوى أسئلة عن مدة السفر وتوصيات وتوصيات
" قلت له قبل امتطاء الباخرة : كان عليك أن تؤخر الحج بضعة سنوات " فقال : خرج الوعد من حيث تخرج الروح " وقالت وفى وجهها شحوب وفي عينيها حمرة وابتهال : اني أمه ثم انى أختك " . كنت أعتبر بكاء الرجال عارا لكنى لم أستطع آنذاك الا أن أدير عنهما وجهى
" وسافرا . " وتركانى للعدو وحيدا . ليتنى لم أقبل تلك الامانة . فقد فعلت معه مالم
أكن أتصور أن أفعله لاولادى مجتمعين لم أستشر قط طبيبا فاستشرت . ولم ازر قط وليا فزرت الزوايا وأهديت الهدايا . لا من أجله ولا من أجل صهرى ولا حتى من أجل أختي ، بل من أجل أمه . بعت زياتينى وحلى زوجتى . نصحني الاطباء بأن لا أفعل من ذلك شيئا لكنى لم أكن أستطيع . قالوا انه محكوم عليه منذ البداية وانه ناقص التكوين لولادته المتأخرة . فرفضت وعاندت حتى انطفا
" فساءت حالى . كنت أتصور عيون الابوين ترقبني فأود لو تبتلعني الارض او أضحى بأبنائى فداء له . ومرت قبل عودة الحجيج أيام لست أتمنى أن يقضيها ألد أعدائى
" وعاد الحجيج . كانت طبول الناس تدق فى آذانهم وتدق فى دماغي . قضيت ليلتى مفكرا فيما سأقول لهما . وقلبت الامر على وجوهه حتى استقر عزمى على اعلامه فيعلمها بنفسه
" لكن رأيتها نازلة من الباخرة فأقبلت عليها والشوق يدفعنى اليها وأشياء تصدنى عنها حتى وصلت . بحثت عن زوجها يمنة ويسرة فأمسكت بيدى وقالت بصوت خافت لا يكاد يسمع : رحمه الله "
" ما أحسب أن أحدا منكم عاش موقفا كذلك الموقف . كنت فى دوامة . وكنت غارقا . سألتني عن حال طفلها فلم أجب . وزادت سرعة الدوامة وزددت غرقا . وساد بيننا صمت تمنيت لو ملأته أبشع الاصوات . وقد تكون وجدت لى عذرا بوقع خبرها على . فشدت على يدى شدا . نظرت الى وجهها فابتسمت ابتسامة ليس أشنع منها شئ . كنت أفضل أن تبكى . أن نصرخ وتولول . أن تندب خديها وتمزق شعرها وثيابها . لكنها قالت : ولدي سيهون على المصاب " . لقد بدت لى عيناها أوسع مما كانتا . شىء لا يطاق فأسدلت برنسي على وجهى وتظاهرت بالنوم حتى بلغنا المنزل . أذكر أنها كانت تقودني حتى رأت الباب فانطلقت كالسهم ودخلت . وأذكر أنها خرجت بعد لحظات وأنها لم تعد منذ ذلك اليوم . ورفضت العودة حتى الى بيتها وفضلت أن تبنى بيديها كوخا على قبر ولدها . وراحت ترجم بالحجارة كل من يدعوها بالحاجة . رحمها الله "
رفع الشاب العنيد رأسه متمتما : " ليتها عرفت أن الجنة تحت قدميها فلم تذهب للبحث عنها بعيدا "
فاستغفر له الشيخ واستأنف الآخرون ألعابهم .
