لا اظنني فى حاجة الى الوقوف كثيرا عند كلمة تربية ، اذ كلنا يعلم انها تستهدف الانسان منطلقا وغاية وانها اصبحت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية خاصة اهم فرع من فروغ النشاط فى العالم ، من خلالها يسعى الساسة الى نحت ملامح الانسان الذي يريدون ، ايمانا بانه اساس الحضارة ودعامة الحياة والمحرك الدافع لعجلة التطور ، ومن ثم اصبحت التربية اكثر من أى وقت مضى فى حركية دائمة واصبحت تتسم بإرادة التغير والتغيير مواكبة للحياة فى زحفها ومسايرة لعجلة الزمان فى انطلاقها ، بل أضحت اعادة النظر فى التربية شرطا اساسيا للتطور والنمو واصبح المربون وقد استقرت الحيرة فى نفوس بعضهم مكان الاطمئنان الى الاوضاع الموروثة والرضى بها - اصبحوا لا يخفون مشاكلهم ولا يتجاهلونها بل يبرزون مظاهر الضعف لديهم ويجنحون الى ضرب من النقد الذاتى الشجاع يصل بهم احيانا إلى حد التمزق واطلاق صيحة الفزع معترفين بازمة التربية وافلاسها
ولئن كان هذا شأن التربية فى الشعوب المتقدمة فان الشأن فى الشعوب المتخلفه اشد تعقيدا ، واكثر غموضا واشق معالجة ، ذلك ان هذه الشعوب - ومنها شعبنا العربى قد قاست منذ قرون آفة الجهل والضعف والانحلال والتواكل والتناحر حتى ذهبت ريحها وتوالت عليها الغزوات وحثم على صدرها المستعمر يخنق انفاسها ويبتز خيراتها ويستنزف قواها ويمسخ روحها وذلك بالقضاء على شخصيتها وطمس حضارتها وتعطيل لغتها والتشكيك في قيمها وتجميد تفكيرها وزرع الشعور بالحقارة فى نفوس ابنائها وان هذه الشعوب وان تخلص جلها من الاستعمار السياسي فانها ما زالت مشدوهة امام وضع غائم متشعب ، وما زالت نهبا لتيارات مختلفة تتجاذبها ، فلا تجد بينها توازنها فتتارجح بين اغراءاتها وكثيرا ما تنقطع بها الطريق فتتبه ولا تجد السبيل الاقوم لاسترجاع الذات ونحت الكيان من جديد
ولعل اكثر المسالك خطرا ، واشدها تداخلا ، واقساها اختيارا ما كان متعلقا منها بمجال التربية لان ذلك يقتضى ايمانا بالذات وتشبثا بالحياة وتجردا فى الحكم وبصرا بمقتضيات التطور ، وحسن تمييز بين الامور ، واقامة جدلية دائمة بين التراث والمعاصرة بين القديم والجديد ، بين التشبث بالماضى والتفتح على المستقبل ، بين الانتساب الى هوية والفناء فى الغير بين الخيال والحقيقة ، وبين الممكن وما هو ضرب من الوهم والايهام
ان اول ما يواجه الشعوب التى استقلت حديثا هو تحديد موقفها من انماط التربية المتعددة فى العالم ، هل تنكمش على نفسها وتتقوقع فى رقعتها بدعوى " الدفاع " عن الذات وعن الهوية الثقافية ومقومات الشخصية أعني موقف الدفع و " الرفض " لكل دخيل وجديد فى وقت تقلصت فيه المسافات وتغيرت مفاهيم الزمان والمكان واصبحت البشرية جمعاء وكانها تعيش على كوكب الكترونى يتسامع فيه البشر ويتراءون ويتطلع بعضهم الى بعض وكانما حكم عليهم القضاء بوحدة المصير .
ام هل تقف هذه الشعوب بدعوى التقدمية والتفتح موقف " التبعية " " والاستهلاك " وتقبل ما يرد عليها تقبل الخانع الراضى حتى لكان كيانها مجرى هواء لا يصده اى حاجز أو جدار !
ان التربية في حقيقة الامر ، شأنها شأن الثقافة ، فتح مستمر ، وغزو دائم وتوق الى الافضل وحركية لا تعرف القرار ولا سيما فى عالم متحول يهز اركانه اعصار عنيف ، يقوض ما تآلف عليه الناس من مفاهيم ، ويدعو بصف حادة الى مراجعة جذرية للاسس ذاتها التى انبنت عليها انماط من الحضارة . ولكن كيف تقع هذه المراجعة وعلى اى اساس ؟
ان هذه المراجعة لا يمكن ان تصيب هدفها وان تخرج المجتمع من حالة الاستلاب التى خلقها الاستعمار وعصور الانحطاط سواء على الصعيد السياسي او الاقتصادى او الاجتماعي او الثقافى او التربوى الا اذا هي اعتمدت الواقع فاستقرأته ، وحللت ابعاده ، وحاولت معالجته معالجة طريفة تعكس هموم الشعب وقضاياه ، متخلصة من " خبرة " بعض " الخبراء " وجاذبية الالف والرتابة ! معتمدة قبل كل شئ على المربين وذلك بتحسيسهم بكامل ما يواجههم الى تحمل نصيبهم من المسؤولية فى انجاح مسيرة الشعب وخلق اجيال واعية ، صالحة ، قادرة على ان تواكب الحياة بما يزرع فيها من ايمان ويغذي لديها من ارادة التغيير والبناء والخلق والابداع .
فليست الحكمة فى ان نستورد تجارب الغير ونلصقها على واقعنا الصاقا . لان ذلك لا يجدى فتيلا بل الحكمة فى ان نعرف ما نريد وان نقدر حدودنا وامكاناتنا وان نقد من انفسنا الحل الملائم لواقعنا ، المستجيب لرغباتنا ، المتماشى مع طموحاتنا .
وفى هذا المجال فانى استسمحكم فى ان احدثكم عن تجربة قمنا بها بتونس فى مستوى التعليم الابتدائى لا على سبيل الاشادة بها والتنويه رغم ايجابياتها ، بل على سبيل المثال الحي الذي اقدمنا عليه دون التجاء الى خبرة " الخبراء " الاجانب بائعى الحكمة ومصنفي الادوية " لكل " الادواء " ! .
لقد راهنا منذ ان استقلت بلادنا على الانسان ، وعملنا على الرفع من منزلته ايمانا منا بأنه اساس التنمية وركيزتها ، ففتحنا المدارس امام الناشئة وبذلنا من انفسنا ما تجاوز طافتنا ، ناهيك ان اكثر من ثلث ميزانيتنا خصصناه للتربية وان اكثر من خمس السكان يؤمون المدرسة ، وهذه عملية وان كانت ايجابية فى صميمها تستجيب لرغبات شعبنا فهي لا تخلو من المزالق ذلك ان ما يخشى فى مثل هذه الحال انما هو ظاهرة التسرب وما ينتج عنها من ضياع وظاهرة الانقطاع دون الانتقال الى التعليم الثانوى الذي لا يمكن له ابدا ان يستوعب كل تلاميذ التعليم الابتدائى ومعنى ذلك ان التعليم من هذه الزاوية يمكن ان يخلق اجيالا على هامش المجتمع منبتين عن محيطهم ليست لهم الدربة الكافية للاندماج فى بيئتهم ولا القدرة على ان يصبحوا عناصر حية فيها ، يؤثرون فى تطويرها وتنميتها تأثيرا ايجابيا فعالا بل قد يصبحون اداة تعطيل وشغب وعنصرا خطيرا من عناصر التخلف وهذا فى حقيقة الامر ليس واقع تونس فحسب بل هو واقع العالم الثالث برمته وحتى العالم المتقدم احيانا
وامام هذا الوضع وتلافيا لكل السلبيات اقبلنا على تجربة طريفة اقحمنا فيها المربين ومديرى المدارس ودفعناهم الى روح المبادرة وايجاد الحلول الملائمة بالنسبة لكل مدرسة على حدة .
وقد تمثلت هذه التجربة : أولا : في بعث تدريب على العمل اليدوى يبتدئ من السنتين الخامسة والسادسة فى شكل تربية يدوية عامة هدفنا من ورائها الى تبصير التلميذ بنبل العمل اليدوى ، واكسابه سلوكا يجعله قادرا على ان يخلق ويصنع
بالفكر والساعد . والى تزويده بمبادئ في التكوين العملي ترغبة فى النشاط اليدوى وتهيئة تربويا لمتطلبات مجتمع متطور اقتصاديا واجتماعيا -
ثانيا : فى بعث سنتين سابعة وثامنة يتواصل فيهما التدريب على العمل اليدوى فى شكل تكوين عملي مختص يحسس للمهن ويعد لاقتحام الحياة العملية وقد لاحظنا بفضل ذلك تغييرا جذريا فى عقلية الاطفال وسلوكهم حيث اننا شاهدنا تلاميذ لمدارس ابتدائية يتكفلون بمدارسهم ويقومون بأعمال عدة لتطويرها من ذلك التسييج والتزيين والاعتناء بالحديقة المدرسية ، وصنع الوسائل التعليمية وشاهدنا تلاميذ آخرين يكلفون بتجارب في التصرف المالي والتمويل الذاتى للمدرسة ، وذلك ببيع ما يصنعونه وما تنتجه حديقتهم من خضر وغلال كما شاهدنا مدارس تساهم فى احياء اراض مهملة او فى ادخال زراعات جديدة بالمنطقة لا عهد لها بها من قبل . وقد شاهدنا مدارس اخرى تدخل تقنيات حديثة بالمنطقة او الجهة مثل تربية النحل بالطرق العصرية واستعمال البيوت المكيفة ، والمساهمة فى بعض الحرف كصناعة " الشوامي لاستخراج الزيت ، وشباك الصيد والزربية الى غير ذلك من الحرف والمهن
وقد تطور هذا العمل تطورا قويما اذ اصبح تلاميذ السنتين السابعة والثامنة يتعاطون انشطة متعددة من فلاحية وصناعية ، وصناعات تقليدية وانشطة اجتماعية وميكانيكية .
وقد كانت هذه التجربة مشجعة جدا ، اذ مكنت المربين من ان يعوا الابعاد التربوية للمدرسة الابتدائية ويدركوا ان باستطاعة المدرسة اليوم ان توفر اكثر مما كانت توفره بالامس لتلاميذها ، وهكذا اقبلوا جادين على تحقيق تراشح فعال بين المدرسة ومحيطها ، وربطوا التربية بالتكوين والتنمية ومن ثم فان الجميع قد ادرك ضرورة التعاون البناء بين المربين والسلط المحلية والجهوية لانجاز مشاريع التكوين على عين المكان ، وقد كشفت هذه التجربة عن روح التعاون لدى اصحاب المؤسسات والحرفيين الذين قبلوا المساهمة فى تكوين الشبان في مؤسساتهم وذلك الى جانب ما تقوم به وزارة التربية من تفريغ لعدد غير قليل من المعلمين لتدريبهم واعطائهم تعليما مختصا يمكنهم بالتالي ان يؤدوا رسالتهم على الوجه الاكمل . واملنا من وراء ذلك ان نجعل السنتين السابعة والثامنة تنصهران في صلب المدرسة الابتدائية فتكونان معها هيكلا جديدا يمكن ان يجسم فكرة التعليم الاساسي ، الهادف الى تحويل المدرسة الابتدائية مؤسسة تنموية ، ثقافيا ، واجتماعيا ، واقتصاديا
والى جعلها متفتحة على المحيط ، متفاعلة معه ، تعي مشاغله وتستجيب الى حاجات تطوره ، اى الى جعل المدرسة توجه التلميذ فى نهاية دراسته الى مياكل تكوين اخرى او الى مؤسسات اقتصادية ومهنية ولا تلفظه او ترمي به فى معمعة الوجود بدون سلاح
هذه عينة فقط ، سمحت لنفسي بان اسوقها اليكم على سبيل الذكر لا الحصر مما نقبل عليه فى خوضنا معركة الخروج من التخلف ، وقد اردناها ناابعة من صميم وجودنا ، ملائمة لاحتياجات مجتمعنا ومتطلباته الاقتصادية من جهة ، ولرغبات المتعلمين وقابليتهم من جهة اخرى واخرجنا بها المربين مما ألفوه من خوض دائم في جزئيات البرامج وعدد الحصص التى نزنها وزنا ثم نعيد وزنها ونعود اليها فنقيسها باللحظة والدقيقة دون ان نتفطن أحيانا إلى التحول الذي يهز المجتمع والقضايا التى تواجه البشرية
ولا أظنني مغاليا إذا قلت : إن محتوى تعليمنا هو الذي يكيف سلوكنا ويكسسبنا ما به نكون او لا تكون لان المحتوى يتجه الى شعور المرء وتفكيره فيصوغهما صوغا ويصهرهما صهرا حسب نماذج مدروسة واهداف مرسومة وغايات محدودة لذلك حرص المستعمر على شحن المحتوى بآرائه وافكاره وتراثه ودس فى ذلك كل ما من شأنه ان يقتلع الفرد من واقعه ويبعده عن ذاته ويزرع فى نفسه بذور الشك والانحلال والتواكل ، ايمانا منه بان احتلال الروح انما هو خير تمهيد لاحتلال الارض والسيطرة على الاقتصاد . ان شر هزيمة تصيب الشعوب انما هى الهزيمة الروحية التى كان من نتائجها بالامس ان تقلصت حضارتنا بعد اشراق ، وذهبت ريحنا بعد قوة ، ونرى من نتائجها اليوم طغيان الصهيونية ومن مظاهرها تواطؤ بعض من يدعى الانتساب الى الفكر من كتاب مصر مع العدو مثال ذلك الدكتور حسين فوزى الذى لم يستنكف من القاء محاضرات فى جامعة اسرائيلية بل لم يتورع عن الاشارة فى مؤتمر صحفى عقده فى حيفا الى ان المصريين يدركون انهم ليسوا عربا وقد زاد عن ذلك بان عبر لمندوب الاذاعة الاسرائيلية قائلا: " اننى لسعيد جدا بأن ارى ما حققته اسرائيل فى مدة وجيزة من الحضارة الاوربية الاميريكية على هذه الارض " . ان هذه لعمرى قمة المأساة وهى تمثل ابشع هزيمة روحية وحضارية يمكن ان يصاب بها انسان
ولعل ما يلفت النظر في هذا المجال ، اصرار بعض الشعوب المتخلفة على تقليد الغرب المسمى بالرأسمالي او المنعوت بالاشتراكى تقليدا اعمى انطلاقا من كون الغرب قد بلغ اوج الحضارة وادرك اسمى مدارج العرفان فى حين ان جل بلدان اوربا اصبحت اليوم تشعر شعورا حادا بالهوة السحيقة التى تفصلها عن امريكا وحضارتها الالكترونية
فحذار اذن من الشعور بالحقارة ، وحذار من التقزم امام الغير ولنكن حر يصين على مراجعة محتوى تعليمنا مراجعة تمكن ابناءنا من ان يدركوا هويتهم وان يؤمنوا برسالتهم فى هذا الوجود ، وان يقبلوا على خوض تجربتهم الانسانية بكل حزم وجد ، وذلك بالاقلاع عن العقلية الاسطورية والعقلية التلقينية التى تجعلنا نجنح الى التفكير فى الفردوس المفقود ، اكثر من تفكيرنا فى الفردوس الموعود ، وكذلك بالاحجام عن العقلية المتحجرة التى نؤمن بتفوق السلف ، وقصور الخلف ، فينبغي الا ننظر الى التاريخ نظرة قداسة تجعلنا نقبل على شؤوننا اقبالا فيه من الحنين الى الماضي ما يجعلنا ننسج لانفسنا من انفسنا صورة خيالية لا نستبين ملامحها ولا ندرك كنهها ولكننا نخلص اليها ونتعشقها ونضفي عليها ما شئنا من حرارة عاطفتنا ، وفيض وجداننا ، على انها خير مثال لاصالتنا ، فى حين ان الاصالة انما تعني الاخلاص لخير ما في الماضي من عناصر ذاتيتنا ومجالات ابتكاراتنا مما يمكن ان يقوم جسرا بين ماض تليد ومستقبل مجيد
ومن ثم كان لا بد من تخليص تراثنا من القيم الانهزامية وما علق بها من خضوع وقناعة واستسلام لمفهوم خاطئ للقضاء والقدر وذلك باحياء القيم الايجابية والتنويه بشرف العمل ، واعتباره على تعدد انواعه العملية والفكرية والاجتماعية " ركيزة للتربية وجانبا رئيسيا فى محتواها وأساليبها ، مذكرين بما كان للاسلام من حض على اتقان العمل ودعوة الى التكافل والتعاون فى ادائه بما يضمن الاعتزاز بالكرامة والحرية ونخوة الشعور بالمسؤولية
لقد قلت فى أول كلمتى : انى لا أرى فائدة فى الوقوف كثيرا عند كلمة تربية ومع ذلك فانه لا مندوحة لى من ان اقف عند بعض جوانبها ومدلولاتها انني لو عدت الى كتب اللغة لوجدت : ربا رباء وربوا المال : زاد ونما
ولوجدت : ربى الولد تربية : غذاه وجعله يربو فالتربية لها اذن من هذه الناحية بعد فردى ، فهى تستهدف أول ما تستهدف الفرد اذ تهذبه وتنشئه وتنمى خير ما فيه اعدادا لنمط اجتماعي معين ، ومن هنا بعدها الاجتماعى . إذ ان الفرد مدعو الى ان يعيش فى مجتمع ما ، له خصائصه وقيمه ومطامحه ، يتعامل ويتفاعل معه تأثرا وتأثيرا الى جانب بعدها الانسانى تأكيدا لمكانة الانسان فى نظام المجتمع وفي نظام الوجود عامة ، واشارة الى وحدة الجنس البشرى وضرورة المساواة بين شعوبه أملا فى احلال الاخوة الانسانية بين افراده والى بعدها القومى اذ ان التربية هي اساسا ذات انتماء قومي وهي مدعوة الى أن تستوعب المقومات الحضارية القومية فى صفاء جوهرها ونصاعة روحها سعيا الى تطويرها وتحقيق اهدافها وتمكين المواطن من ان يكون وفيا لشخصيته القومية فى نقائها وصفاء معدنها
ان للتربية اذن اهمية كبرى وان لها لمعاني كثيرة فهي التى تتوقع حاضر رجل الغد ، أعني انها هى التى تقدر مصير تلاميذ اليوم ، وان الخطر كل الخطر في ان نجنح فقط وبصفة آلية الى صنع رجل المستقبل حسب النمط الموجود فى الحاضر ، فالتربية ينبغى لها ان تتجنب القطيعة بين المدرسة والمجتمع ، والا خلقنا اناسا على هامش الحياة لا يقوون على فهمها أو تحمل اعبائها ، بله التأثير فى مجرى احداثها .
وقد قال الشاعر الفرنسي فاليرى Valery فى هذا الصدد " ان أى تعليم يقتضى نظرة مستقبلية وتصورا ما للكائنات التى ستعيش هذا المستقبل " .
ومن ثمة كان لا بد من تجاوز كل العقبات وذلك بإقامة جدلية دائمة بين المربى ( بكسر الباء ) والمربى وفتح حوار نزيه بين الاستاذ وتلميذه أى بين الاجيال المتعاقبة وهو ما يفضى بنا الى ابداء هذه الخواطر حول النظام التربوى .
ان اى نظام تربوى ، فى كل عصر وفي كل مصر ، انما يسعى الى القيام بعملية نقل وتبليغ لجملة من القيم ، هي التى تشد المجتمع الى نفسه وتضمن دوامه ومناعته وما به يشعر ان له مصيرا ، وان من اهم وظائف التربية التكرار والاعادة اى نقل التراث العلمي والثقافي من السلف الى الخلف ولكن هذا كثيرا ما يؤدى بالمؤسسة التربوية الى الانغلاق على نفسها والانطواء على ذاتها واللجوء الى هذه النظرة " القرارية " او " السكونية " التى تصل الى حد
الجمود والتى من مظاهرها الابقاء على اوضاع اجتماعية بعينها بما تنطوى عليه من تفاوت اجتماعى ، وايجاد نمط شبيه بما كان عليه المجتمع فى السابق بنقائصه ومخلفاته ومن هنا هذا النقد اللاذع الموجه للمؤسسة التربوية والذى نطالعة فى الصحف الغربية وحتى فى بعض الصحف العربية
ولذلك فان على التربية ان تقوم - الى جانب وظيفتها المتمثلة فى اعداد الافراد للتلاؤم مع المقتضيات الاجتماعية ، عليها ان تقوم بوظيفة تجديدية تهدف من ورائها الى تعديل الذاكرة الجماعية وتجديد المفاهيم التى هى مدعوة الى نقلها وتبليغها . ان القيم متشابكة آخذ بعضها برقاب بعض وانه لضرب من الوهم ان يفصل بين ما هو سياسي يتعلق بالحرية والديمقراطية مثلا وبين ما هو اخلاقي وديني لان كل القيم انما ترتكز على فلسفة سياسية واخلاقية ق شيدت هى نفسها على نظرة ما ورائية
فالتربية اذن ، وان كانت وظيفتها الاولى المحافظة على الوضع فان وظيفتها الثانية هي ان تجدد وتثرى ما تقدمه الى الاجيال الصاعدة
ولكن هذا الاثراء وهذا التجديد اذا هو قلب سلم القيم وغيره بسرعة فانه يؤول الى ازمة ، وهكذا يجد النظام التربوى نفسه فى حالة انحراف ، فلا يستطيع ان يتلاءم بسرعة ويسر
اننا لو القينا نظرة على الغرب ، لوجدنا ان البلاد الشيوعية تعيش فى نظام مغلق ، ولو ارجعنا البصر الى البلاد الرأسمالية - ما يسمى بالعالم الحر الذي نعرفه أكثر من غيره ونعتبره كنموذج يسعى الكثيرون الى تقليده - لرأينا ان العالم الغربى اصبح يشك فى قيمه وان الاشياء تتغير فيه بسرعة مذهلة ، وان الاجيال الجديدة قلقة مرتبكة تتصور انها قادرة على ان تعيد خلق كل شىء وان تعيد النظر فى كل شئ ، لا من قرن الى قرن بل من عقد الى عقد وهكذا فان المذاهب الايديولوجية تتوالى وتتسابق فى سرعة متزايدة مما يجردها من ان تؤخذ بجد .
ورجال الاصلاح التربوى لم يعد لديهم الوقت الكافي الذي يسمح لهم بأن ببتكروا أو يتبينوا الاشياء على حقيقتها أو يكون لهم تصور جدى للعالم يمكنهم من أن يقيموا من خلاله اصلاحا جذريا للبيداغوجيا او الهيكل المدرسي
ان الشعوذة لتطغي في اوربا من الآن فصاعدا ( منذ سنة 1950 ) ، يغطيها صخب الكلمات وضجيج البشر وهذا ليس ادعاء منى بل هكذا قال السيد بولاق Beullac الوزير الفرنسي للتربية منذ اشهر قليلة.
ان استفحال الازمة الاخلاقية ، وتقلص سلطة الاساتذة واحتداد الصراع السياسي وتعدد " الملل والنحل " قد افضت كلها الى وضع متأزم منهار لعل ابرز هناته تتمثل :
- فى انحدار المستوى - وفي ضعف ثقة المجتمع فى الجامعة وفي النظام التربوى - وفي عقلية بعض الخبراء الذين نقبل عليهم ونحتضنهم ونستروح بآرائهم فيدسون سمومهم ومعتقداتهم وانحرافاتهم فيما يلقنون به تلاميذنا في دروسهم .
- وفي تكوين ابنائنا الذين يتتلمذون على هؤلاء الخبراء تكوينا لا يخلو من آفة التمزق والشك والضياع .
ان العالم المتقدم يواجه حاليا ازمة تربوية حادة ، وصراعا يشتد يوما فيوما وضروبا عديدة من التمرد وتناقضات شتى تهدد بالخراب وان علينا ان نعتبر بذلك فى بلداننا والا نمر حتما بما مر به غيرنا من تجارب تقليدا أو سذاجة وانهبارا
ولتسمحوا لي بأن اقدم اليكم عينة " من هذه الازمة متمثلة فى اعترافات استاذ فاضت كاسه وضاق صدره ، فانطلق لسانه ، عسى ان يكون لنا فى فى ذلك عبرة وموعظة
لقد نشرت صحيفة France - Dimanche الباريسية المؤرخة فى 28 نوفمبر 1976 في زاوية " رأى حر " مقالا للاستاذ اردان Ardant مدرس القانون الخاص بجامعة نانتير Nanterre الباريسية جاء فى جملة ما جاء فيه : " لماذا اصبح المدرسون والطلبة يهجرون Nanterre ؟ سبب ذلك انه لم يبق فى المستطاع القيام بعمل جدى منتظم بهذه المؤسسة .
ان جامعة Nanterre قد ظلت في كل ربيع منذ عشر سنوات مسرحا لاضراب يراه البعض اجتماعيا ويراه الآخرون فلكلوريا وهو يستغرق اسبوعين او ثلاثة ويسمح للطلبة هواة الاجتماعات العامة ، الحامية الوطيس من اشفاء غليلهم ويمكن سواهم من الذهاب بامان وسلام الى محطات الرياضات الشتائية .
وبالرغم عن القصر الذى كان يعرو - من جراء ذلك - السنة الجامعية لم تكن الحالة منذرة بالويل . . الا ان الامر قد تفاقم منذ سنتين ، حيث أضحت ظروف العمل اعسر فأعسر
ويواصل الاستاذ Ardant قائلا : اباشر التدريس منذ عشرين عاما وقد تغيرت هذه المهنة واصبحت مضنية . كنا نلقي دروسنا مرتدين كساء رجال العدالة وكان الطلبة يقفون عند دخولنا المدرج
اما الآن فقد انقرض كل ذلك ، فلم يعد يقف احد عند دخول الاستاذ بل انك تجد من الطلبة من يطالع صحيفته اليومية .
ويضيف : " مدارج جامعة Nanterre عبارة عن ساحة العجائب ، ورواقه المركزى عبارة عن سوق جدرانه مغشاة من اعلاها الى اسفلها بلافتات تحمل شعارات وصورا ثورية ونداءات سخيفة ، وبين هذه الجدران جمع من بائعى الفطائر وعصير الليمون والثياب القديمة يصخبون فى جو خانق من الروائح المختلفة وقد انتصبوا بهذا الرواق دون الحصول على اى ترخيص
اما اثاث الجامعة فهو على حالة يرثى لها ويقول السيد Ardant انه وقع تهشيم ما تقدر قيمته بالملايين ذلك انه كلما توتر الجو بالجامعة عمد الطلبة الى تكسير الكراسي والمكاتب لاستعمالها كأسلحة هجوم " .
هذا بعض ما جاء فى مقال الاستاذ Ardant وغير هذا كثير.. وما اسهل العدوى فى هذا الميدان.. ومن الحق ان نقول : ان هذا لا تختص به فرنسا وحدها بل ان مثله يجرى فى جل انحاء العالم بما فى ذلك عدد كبير من الدول العربية
ولم تقف مظاهر الازمة عند النظام التربوى والاساتذة والطلبة بل اضيفت اليها صدمة هى أشد هولا وأكثر ازعاجا تمثلت فى طغيان الوسائل السمعية البصرية . ان هذا التحول يمس دعامة الرسالة التربوية ذاتها ويهز اركان المدرسة كمؤسسة - وان محتوى التعليم لم يعد وحده محل نظر بل وقع تجاوز ذلك الى شكله ، أترى : كتابة وقراءة ، ام استماع ومشاهدة ؟
ان الوسائل السمعية البصرية قد بددت الثقافة وذرتها فأصبحت هكذا ذرات بددا بدون حد ادنى من التماسك والانسجام . وهكذا تفقد الثقافة ما كان
لها من نفوذ . لقد اصبح المبدعون معزولين واضحت افكارهم شعاعا لا تلتحم فى نظريات حقيقية قادرة على ان تتجمع بصفة دائمة فى الذاكرة الجماعية وتفوز برضى واسع .
ان تسلسل الكلمة والصورة فى الوسائل السمعية والبصرية تقتضى ان توجه المعلومات جملة واحدة لجمهور واسع ومستويات مختلفة ولذلك تبقى سطحية وبدون ترابط عضوى يجمع بينها ، وان تفاقم ما يبث على أمواج الاثير من حيث الكم ، يضعف الكيف ويكون على حسابه .
لقد أضحى شبابنا نهبا لكل انواع الاعلام من سينما واسطوانات ، واذاعة مرئية ومسموعة واضحوا لا يطالعون كثيرا . واذا الكتاب ، هذا الذي قال عنه الجاحظ :
" نعم الذخر والعقدة ، ونعم الجليس والعدة ، ونعم النشرة والنزهة ، ونعم الانيس لساعة الوحدة ، ان نظرت فيه ، اطال امتاعك ، وشحذ طباعك وبسط لسانك ، وعمر صدرك ، يطيعك بالليل ، طاعته بالنهار " إذا الكتاب يجد نفسه فى موضع ادنى . . ومن يدرى لعل اشرطة فيديو Video تزيح الكتاب عن عرشه تخلف المكتبات فى يوم من الايام؟
ان كل هذا يزعزع البشر وخاصة المربين منهم ويقض مضاجعهم ويوتر اعصابهم فاذا هم لا يقوون على الظفر بتماسكهم ولا يقر لهم قرار .
فالبناء الكلاسيكى للثقافة كأنما قد انهار تحت وطأة الوسائل السمعية البصرية المعاصرة واعادة النظر كليا وبصفة دائمة فى الاشياء وتغيرت المواقف حسب النماذج المتغيرة والمسلطة دوليا وخاصة من قبل الولايات المتحدة واذا الناس فى اوربا وغيرها من البلدان يلهثون وراء الانماط الجديدة ، والنماذج المستحدثة البراقة ، ويتسابقون وراء اغرائها وجاذبيتها ( والسباق جميل فى حد ذاته . . إذا كان سباقا .. للجوفينف Jogging يخرجنا عن وقار قاضى البصرة الذى تحدث عنه الجاحظ ! ولكن ذلك ليس دائما صحيحا بكل أسف ) .
هذا ما يقوله المسؤولون عن التربية فى أوربا فما عسانا نقول ، نحن الذين سيطر علينا الاستعمار ، وعرف بعضنا منه وجهه الاستيطانى البغيض مثلما كان الشأن فى شمالى افريقيا ؟
وهل أنا فى حاجة الى ان اذكركم بما قاسيناه فى تونس مثلا ؟ لقد كان التعليم لدينا فى عهد الاستعمار " كثوب ضم سبعين رقعة " ففي التعليم الابتدائى كانت هناك
- مدارس فرنسية ( للذكور او للبنات او مختلطة ) - مدارس فرنسية - عربية للذكور - مدارس فرنسية - عربية للبنات - مدارس قرآنية عصرية - كتاتيب.
وكذلك كان الامر بالنسبة للتعليم الثانوى الذى كنا نجد فيه : - معاهد ذات صبغة ومناهج فرنسية بحتة - معاهد سمى تعليمها صادقيا أو تونسيا وفيها جمع بين الفرنسية والعربية - ومعاهد زيتونية جارية فى مناهجها وطرقها على المذاهب التقليدية الموروثة.
لقد كانت اللغة العربية تعتبر ثانوية أو تعلم بعنوان لغة من اللغات الاجنبية وكان عدد الساعات المخصصة لها حتى سنة 1949 ، لا تتجاوز 9 ساعات من مجموع 30 ساعة في الاسبوع - أما عدد ساعات العربية فى التعليم الثانوى فلم يكن أحسن حظا بل كانت لغتنا تعامل كلغة أجنبية فى معظم المعاهد وزيادة على ذلك فان برامج التعليم كانت عارية من كل ما له اتصال بالروح القومية فلا يدرس تاريخ البلاد التونسية ولا تاريخ الامة العربية والاسلامية ولا جغرافيتها ، وان تعرض الاستاذ لها أحيانا فانما يتعرض اليها كما يتعرض الى أى اقليم اجنبى ..
أما عن حظ التونسيين من التعليم فيكفي ان تعلموا ان عدد الاطفال الذين بلغوا سن الدراسة سنة 1949 كان يقدر ب 000 775 طفلا لم يذهب منهم الى المدرسة أكثر من 95000 طفلا أى بنسبة % 12 - وان عدد الاطفال البالغين سن الدراسة سنة 1953 كان يقدر ب 008500 طفلا لم يذهب منهم الى المدرسة اكثر من 124071 - ولم يتجاوز سنة 1953 عدد التلاميذ فى المعاهد الثانوية 6682 تلميذا من ثلاثة ملايين من التونسيين تقريبا فى ذلك الوقت فى حين بلغ عدد التلاميذ الفرنسيين 5661 من مجموع 14500 فرنسى مقي بتونس .
لقد كان من نتيجة هذا الوضع الاستعمارى أن طغت الامية والتخلف وظهرت عقليات مختلفة ناجمة عن اختلاف فى التكوين.. منها الفرنسى -
ومنها " الفرنكو - عربي " ومنها الزيتونى . . وقد نتج عن ذلك مركبات عديدة من شعور بالنقص وانسلاخ عن الذات وانبهار بثقافة المستعمر وحضارته وتقليده تقليدا أعمى ذهب ببعضهم الى التنكر لهويته ودينه . ووضع ثقتهم فى الاجانب ( الخواجة ) أكثر من وضع ثقتهم فى بنى جنسهم ..
وكان ما كان من صمود الشعب التونسي ووقوفه أمام موجة تجنيس البلاد وتنصيرها وذلك بفضل زعامة الرئيس الحبيب بورقيبة ومقاومته وجهاده وتوجيهه البصير للشعب التونسى كى يصمد فى وجه المستعمر العنيد ويضحى بكل شئ فى سبيل تخليص تونس من الاستعمار أى من الذوبان والفناء
ان التربية أساس التنمية ، لم يعد يدور بخلد أى كان انه يمكن الفصل بينها وبين الحضارة والنمو ذلك ان الانسان هو الاول والآخر فى هذا القضية وهو اما أن يكون عنصر حياة وانماء ، او عنصر تقويض وافساد . فيه تكمن عناصر الخلق وفى أعماقه نجد أسباب التخلف لذا كان لا بد من ان نأخذ بيده ، ونرفع من مستواه ونمكنه من ان يبدع ويتحرر ويخرج من التخلف ، وهل من سبيل الى ذلك اقوم أو انجع من نشر التعليم وتعميمه
لقد بذلنا فى هذا المجال ، بتونس ، جهدا تمثل فى استيعابنا بالسنة الاولى من التعليم الابتدائى 159.234 تلميذا وتلميذة أعني حوالي 85 % مر البالغين سن الدراسة أى السادسة من عمرهم . وبلغ عدد التلاميذ بالمدارس الابتدائية وحدها فى هذه السنة 1.02300000 . تلميذا .
أما فيما يخص النفقات فقد بلغت ميزانية التصرف 33,74 % من الميزانية العامة للدولة
لقد تبين مما اسلفنا أن مشاكل التربية ليست مرتبطة فقط بالتزايد الكمي أو بالقطيعة البيداغوجية بل هي مرتبطة بأزمات اجتماعية وحضارية ومن ثم جاءت ضرورة اصلاح النظام التربوى .
واذا كانت هذه ضرورة يقتضيها تطور الحياة ومواكبة العصر ومتطلبات المجتمع فان اول ما يتبادر الى الذهن هو كيف نصلح ؟ سؤال يفضى بنا الى سؤال آخر لا مندوحة من القائه ، وهو ماذا يطلب الى التربية ؟ انني سوف لا ادخل فى سرد النظريات ولا فى تفاصيل ما جاءت به ، فان كتب التربية نعج بذلك ولكنى سأقتصر على الاشارة والتلميح .
ان التربية مثلما سبق لى أن اشرت اليه تهدف قبل كل شئ الى تكوين لفرد تكوينا ينم كل امكانياته ويفتح آفاقه ويجعله مؤمنا بذاته مدركا لواجباته معتزا بانتمائه شاعرا بكرامته قادرا على أن يندمج فى مجتمعه وأن يكون عنصرا صالحا فيه يشارك في النهوض به وتحقيق اماله وحفظ كيانه . وان التربية اذ تتجه الى الفرد انما تتجه فى واقع لامر الى الجماعة - أى الى المجتمع - اذ هي التى تحافظ على قيمه وتعمل على تقدمه وازدهاره وتزوده بما يسمح له بمواكبة الحضارة والمشاركة فى بنائها والتأثير فيها . وهي التى تعطيه أسباب المناعة التى تجعله قوى البنيان متين الاركان لا تؤثر فيه صروف الحدثان
ومن ثم كانت رسالة التربية ثقيلة واكتسي المحتوى الذى تقدمه الى الناشئة اهمية كبرى اذ بالاضافة إلى ما ينبغى ان تحافظ عليه التربية من قيم فان الجدوى تقضى أن تكون هناك موازاة بين التكوين والتشغيل والا افرزت التربية جماعة من العاطلين الذين يكونون فيها نهبا للتمزق والضياع وهو شر ما يبتلي به مجتمع وان ملاءمة النظام التربوى لمقتضيات التنمية يحتم هو ايضا الاقبال على العلوم الصحيحة والتفتح على الثقافة العصرية بما فيها من تقنيات ، حتى نلحق بركب الحضارة التكنلوجية وهذا نفسه يدعونا الى تعلم اللغات الاجنبية وحذقها والنقل منها واليها ، وبذلك نطل على العالم ونربط أسبابنا بأسبابه وتكون فى مقدمة الامم الراقية المتفتحة نبنى كما كانت أوائلنا تبنى . انه لم يبق مجال لعزل المدرسة عن المجتمع وجعلها منكمشه على نفسها تعيش فى برجها العاجي فالمدرسة مؤسسة اجتماعية . ينبغي لها ان تكون متفتحة على المحيط أخذا وعطاء وان تكون متفاعلا معه تفاعلا عضويا متينا يأخذ بعين الاعتبار تطور ميادين الحياة ، لقد آن أن نكف عن اعتبار التعليم الابتدائى مجرد جسر يعبر للالتحاق بالتعليم الثانوى واعتبار الاخفاق فى الالتحاق بالتعليم الثانوى خيبة فى الدراسة الاساسية وفشلا في الحياة وآن أن نعيد للتعليم الابتدائى بعده التربوى باقحام تكوين عملي ضمن برامجه ، يتخذ فى المنطلق صبغة التربية اليدوية ويتواصل في صبغة تكوين عملي مدمج ، ويتوج بتدريب مهنى مساير لحاجياتنا القومية . وهو ما أقبلنا عليه في تونس ببعثنا للسنتين السابعة والثامنة اللتين سبقت الاشارة اليهما
وآن كذلك أن نركز فى تعليمنا الثانوى على تدريس العلوم الصحيحة وعلى التعليم التقني بجميع فروعه المستجيبة لحاجيات الحياة المعاصرة فى مجتمع متقدم .
اذا سلمنا بضرورة اصلاح النظام التربوى فانه يحق لنا أن نتساءل عن كيفية هذا الاصلاح وعن الفلسفة التى ينبغى ان يقوم عليها أى العقلية التى ينبغى أن تقودنا فى ذلك .
ان أول ما ينبغى ان نتحلى به ونحن نقبل على ذلك هو ان تكون ثقتنا في انفسنا قوية ، راسخة صادرة عن ايماننا بما نفعل ، وبالدور الذي نصبو الى القيام به فى هذا الوجود . وأن ننطلق من معرفة واقعنا معرفة جيدة أساسها نجرد فى الحكم ، ونظر بصير ، وغوص عن الحقائق ، وقدرة على التحليل والتمييز ، ونقد ذاتى يبعدنا عن التأويل وانتحال الاعذار ، والزيف .
ألم يقل الفيلسوف الانجليزى ( Bacon بيكون) فى القرن السابع عشر " اننا لا نتحكم فى الطبيعة الا بالخضوع لنواميسها ؟ "
ولنكن حذرين من التقليد فالتقليد عقم ، سواء كان تشبثا سلبيا بالماضي من حيث هو ماض ، أو تقليدا للغير ، صادرا عن انبهار واعجاب فكم من خبير أجنبى نلتجئ اليه فاذا هو يحمل عيوب قومه ويجر هموم شعبه ، ويتقدم الينا بما لا يتلاءم وواقعنا ويتماشى وبيئتنا وكم من خبير نغل قلبه وساءت نيته فقدم الينا " السم فى الدسم " من " تمليس ايديولوجى وتشكيك فى النفس وفرض نظريات تمهد الى احلال امبريالية ثقافية أو امبريالية اقتصادية ومن هنا جاءت مرة اخرى اهمية المحتوى الذي ينبغى أن بعتمد أول ما يعتمد على " الاصالة " . . التى هى فى بعض معانيها جملة القيم الاساسية والرؤى والمفاهيم التى تربطنا بماضينا ، من تراث وعقيدة وانتساب الى العروبة والاسلام بل هى التمسك بخير ما فى الماضي من اصول تدل على عراقتنا وذاتيتنا وعبقريتنا وما يتماشى وروح العلم والابداع والابتكار والتجديد ، ولا تستغربوا الآن ان انا أثرت جانبا من التربية أراه أساسيا ويراه بعض الناس هامشيا أو ثانويا بل ويعتبره بعض من حكمت عليهم الحياة بالجمود ، ضربا من اللهو واضاعة الوقت وقد عنيت بذلك التربية البدنية وما ادراك ما التربية البدنية فتوة ، ونشاط ، وحيوية ، واعتدال وانضباط ، واقدام ، وتحد ، وعزم ، وسباق على الخير ، وصبر على الجهد واقبال على العمل الجماعى ، وتحكم فى ردود الفعل ، وجمع بين سلامة الجسم والروح ونفحة من نفحات الجهد الخلاق ، ، فاذا انت اقبلت عليها فقد تخلصت من قيودك وتطهرت من أدرانك وعلوت وصفوت ودفعت عن النفس
وسواسها واخذت من الحياة اشراقها وأبعدت عنك كل دواعي الانحلال والتبرم والتشاؤم واليأس ذلك ان الجسم اذا هو اعتل وهزل وانهدم مرضت العاطفة واحلولكت الدنيا واشتد السخط وكثر البكاء وتعدد التشكى واسترسل الانين . وهل ما نسمعه . ونقرؤه احيانا من شعر باك مائع منحل وأدب انهزامى ضائم متشائم ، سوى صدى لاجسام مريض منهوكة منحولة - قد تآكلتها العلة ، فانفجرت عجزا واستسلاما . . وحنينا الى الفناء فى حين أن نخوة الفتوة والاعتداد بالنفس هي التى كانت أنطقت ، فيمن أنطقت ، طرفة بن العبد
اذا القوم قالوا من فتى خلت اننى عنيت فلم اكسل ولم اتبلد
ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وان تبغنى فى حلقة القوم تلقني وان تلتمسني في الحوانيت تصطد
وأنطقت عمرو بن كلثوم :
نطاعن ما تراخي الناس عنا ونضرب بالسياف اذا غشينا
وانطقت أبا الطيب
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ألا ليت بعض نقادنا للادب يقبلون يوما على شعرنا الباكى المتشائم . ويعودون الى ادبنا المائع الغائم فيعيدوا النظر فيه تحليلا ودرسا وتقييما وربطا بينه وبين الحالة الصحية واللياقة البدنية للشاعر او الاديب انهم لو فعلوا ذلك لانقلبت مفاهيم كثيرة وانكشفت اسرار عديدة ولبدرت الصلة المتينة بين الحالة النفسية والحالة الصحية للشاعر وما كان من تأثير هذه فى تلك . ومعلوم أن غلاة البكائين من النقاد فى القرن 19 من أوربا وفى الثلث الاول من القرن 20 عندنا كانوا يعتبرون من شروط الشاعر الرومنطيقى الحق شحوب الوجه ونحول الجسم وفتور الحركة
ولا يذهبن فى ظن بعضهم ان التحريض على بذل الجهد عملية رجعية مؤذية بدعوى ان التربية ترمي الى تمكين الطفل من التفتح ، فى تلقائية واريحية ، اذ نحن نعتقد ان هذا زعم خاطئ وتفص من المسؤولية ، فبالعكس ان بذل الجهد يولد المسرة ويعطى الشعور بالقوة والظفر . وان فكرة الاذى التى يدعى بعضهم انها تلحق المتعلم اذا ما طولب ببذل الجهد ودعي الى
الانضباط انما هى فكرة موروثة عن ضرب من ( التحليل النفسى الفرويدى ) لم يقع " هضمه " .
اننا لكثرة ما نتحدث عن التلقائية والتفتح الحر نعد اجيالا منخولة ، تشكو الكآبة وتلقي على الغير تبعة فشلها فى حل مشاكلها الحياتية .
نعم ان هناك ازمة حضارة - متمثلة فى العالم العربى بالخصوص فى ضرب من التناقضات والتخلف والانبهار بالغرب ، وحيرة المدرسة أمام الزحف العلمي والتكنولوجى ، وطغيان الوسائل السمعية البصرية ،و ما تقاسيه الثقافة من أزمات . ولكن ذلك يعنى الوقوف موقف اليأس والاستسلام أو التفرج الذي يلتجيء اليه المحايدون ، بل ينبغي ان تكون لنا رؤية واضحة للأشياء وعزم راسخ على التحرك والعمل اذ المهم ان نعرف ما نريد ونؤمن به ونعمل على الوصول اليه.
ولا بد من أن ننبه هنا الى الدور الذى ينبغى ان يقوم به الاولياء أنفسهم فكما ان على أولى الامر فى الحكومة والدولة مسؤولية تاريخية فى توفير اسباب التعليم وارساء قواعد تربية صحيحة ، فان على الاباء تبعة كبرى فى تكوين ابنائهم وتنشئتهم ومراقبتهم وتوجيههم ، ورسالة ثقيلة ان هم لم يضطلعوا بها يكونون كمن القى الحبل على الغارب . . وولى القهقرى .. واستقال وان ما نلاحظه اليوم من تقلص سلطة الآباء والمربين أصبح ينذر بالخطر والانهيار حتى لكأن " افلاطون " قد عناهم حين قال منذ حوالي خمسمائة والفي سنة : " إذا اعتاد الاباء ان يتركوا ابناءهم على عواهنهم وأصبح الاولاد لا يقيمون لاقوال والديهم وزنا ، واضحى المعلم يرتعد أمام تلاميذه مفضلا التزلف اليهم وصار الشبان فى نهاية الامر يحتقرون القوانين لانهم لايقبلون الخضوع لاى شىء من انسان فوقهم .. اذا كان ذلك فقد أزفت الازفة وكانت بداية .. الاستبداد بكل وضوح وبلا منازع ".
انه لا يمكن ان نتحدث عن التربية دون أن نتحدث عن المربى وعن الدور الهام الذى يقوم به
انه المسؤول عن تهذيب تلميذه وتكوينه اخلاقيا وجماليا ومدنيا وهو المسؤول عن تنمية سجاياه ومداركه وهو الذي يساعده على التأليف بين جميع ما يتلقاه من معلومات وأخبار ولا سيما عن طريق وسائل الاعلام للنظر
فيها وصهرها والانتفاع بها وهو يقوم بما تطالب به المدرسة من توفيق بين الحفاظ على خير ما فى الماضي وتجديد نابع عن الجهود الذاتية ، متميز بالابتكار والابداع ، ملائم لتغير الحياة وأحوالها فى الزمان والمكان ، سعيا وراء الجمع بين المتفرقات والربط بين المعلومات وصوغها فى قالب يتسم بالانسجام ووحدة المعرفة
ان المربى ليس فقط منشطا مثلما يدعى ذلك غوغائيو التربية - اذ للتربية أيضا ، كما للسياسة والادب ، غوغائيوها - فالاطفال فى حاجة الى مرب بالمعنى الكامل ، وكدت اقول الى مؤدب بالمعنى القرآنى (أدبني ربي ، فأحسن تأديبي ) مرب لا يتوارى عن مسؤوليته ، اذ الطفل ، هذا الذى خصصنا على الصعيد العالمي سنة 1979 للاحتفاء به ، ينبغي الا يكون ملاذا لكلام الكبار أو فردوسا مفقودا يجدون فيه عزاءهم من قساوة الدنيا . فالمجهود المطلوب لا تجسمه البيداغوجيا التى تعتمد التشجيع والعون او تلك التى تدعي ضربا من المعاصرة ( او الزيادة التربوية ) فى حين انها لا تعدو فى نهاية الام ان تكون فرارا ناتجا عن الخيبة والرتابة
التربية ينبغي ان تكون مجددة ومتبنية فى ذات الحين مزايا الجهد المبذول والعمل ، ومواصلة التعلم بصفة منهجية
والمربي ، أولى فضائله أن يكون قدوة وأن يكون له من الاشعاع والنفوذ الادبي ما يجعل منه مثالا يحتذى ومن ثم أهمية تكوين المعلم بيداغوجيا - لا محالة - ولا سيما اخلاقيا وانسانيا ، وضرورة تحسيسه بكل القضايا التربوية اذ ما من اصلاح أو تجديد بيداغوجى الا وينبغى أن يشارك في ويكون محوره .
ان التجديد البيداغوجى ينبغى ان يهدف الى خلق توازن : بين القطيعة مع الماضى والتعلق بخير ما فى الماضى بين الاصالة فى مفهومها السامى ، والتفتح فى مفهومه الايجابى بين التكوين الادبى والاخلاقى ، والتكوين العلمى والتقنى بين الجهد الفردى والجهد الجماعى. بين الامتثال للاصول ومعنى الاستقلال الذاتى والاعتزاز بالشخصية. بين التضامن ، وصدق الرؤية وروح المبادرة والفكر المميز بين التلاؤم فى الحياة الاجتماعية وتفتح الشخصية
ان وضع التربية فى العالم الثالث وفى عالمنا العربى وضع متشعب . عسير يقتضى تكتيل الجهود وتسخير كل الطاقات لمواجهته وتغييره . فالتواكل ما زال منيخا بكلكله على شعوبنا والتخلف بكل الوانه ومظاهره ما زال قائما فى بلادنا واذهاننا ، والامية ما زالت متفشية فى صفوف شعوبنا تقف حجر عثرة فى سبيل تحررنا وتقدمنا وانطلاقنا فلقد جاء فى التقرير الذي القاه السيد احمد المختار مبو المدير العام لمنظمة اليونسكو فى الدورة الاخيرة للمؤتمر العام أنه بالرغم عن كون تلاميذ التعليم الابتدائى فى البلاد النامية قد تضاعف من سنة 1960 الى سنة 1975 وتضاعف تلاميذ التعليم الثانوى ثلاث مرات فى نفس المدة ، فى حين تضاعف عدد الطلبة فى الفترة نفسها أربع مرات ونصف ، . بالرغم من ذلك ومن هذا التقدم الواعي في ميدان التربية ، فان ما يناهز ثلث سكان سكان العالم أى 742 مليون من البشر سنة 1970 يقاسون آفة الامية وان هذا العدد سيبلغ سنة 1980 - اذا ما استمر السير على ما هو عليه - 814 مليون أميا . أى بزيادة 72 مليون فى عشر سنوات . في حين ان الاطفال البالغين سن الدراسة والمحرومين من نعمة الدرس فى العالم يقدر سنة 1980 ب 130 مليون طفل.
ان اخر الاحصاءات تشير الى ان نسبة الامية فى العالم العربى وحده تبلغ % 50 وتبلغ فى العالم الثالث % 73 . . فانظروا كيف نعانى وتعاني البشرية من ويلات الجهل والتخلف .
فعلينا اذن ، اذا نحن أخلصنا حقيقة فى عزمنا على تغيير هذا الوضع وتخليص امتنا من آفة التخلف والرفع من منزلة الانسان العربى ان نكثف جهودنا ونحزم امورنا ونخطط لمستقبلنا وان للتربية فى هذا المجال دورا أساسيا فى نحت أجيال عربية سليمة تتكلم " لغة " واحدة ، وتشعر شعورا واحدا وتعمل بصدق على استرجاع مجدنا التليد وتحقيق المناعة الحضار للامة العربية وان هذا ليقتضى تحركا ثابتا يكون صادرا عن ارادة سياسية مشتركة تهدف الى احكام خطة تعليمية واضحة وسياسة تربوية قومية نتفق عليها غاية ومضمونا على ان تستجيب لجملة من المبادىء الاساسية التى لا محيد عنها والتى من أهمها :
استجلاء ملامح الشباب العربى الذى نريد ان نعمل على تنشئته وفقا لقيمنا الحضارية المشتركة .
- تحقيق الاستقلال الذهنى لشبابنا ، والعمل على تغذيته بمحتويات تربوية مطهرة من التلوث العقائدى ، فيتم بذلك تحرير العقول ويتوفر ضمان السلامة للثقافة الاصيلة.
- تحقيق الديمقراطية الشاملة فى التعليم وتمكين شبابنا من حظوظ متعادلة فى الرقى بحيث تنطلق فى حياة شعوبنا حركية اجتماعية واسع نمكن الطاقات الخلاقة من البروز والاشعاع .
- عدم التعجل والتساهل فى اعداد الشباب ضمانا لمستوى عال . وتأهيلا لاطارات ذوى كفاءات علمية وتقنية صادقة
- تمكين شبابنا من التضلع فى العلوم الصحيحة واللغات الحية ربطا لحاضرنا بماضينا ووفاء لاجدادنا الذين كانوا أسياد العالم بما انتهوا اليه من تضلع فى العلم والمعرفة
تشجيع شبابنا على الابتكار والخلق حتى نخرج من وضعية المستهلك ونتحرر من التبعية - اعطاء التربية البدنية حظها في مدارسنا حتى نكون اجيالا سليمة جسما وروحا . . ونزرع نخوة الفتوة فى الشباب .
فيالها من مشاكل ، ويالها من أحلام ويالها من مشاريع تنتظر الانجاز والاقدام ! ان المهمة لتبدو شاقة ، وان الطريق لتبدو طويلة فكم من قيود ! وكم من أثقال ! وكم من عادات ! وكم من رواسب ! وكم من مثبطات !
ولكن أليس من شأن الانسان أن يكافح ويجاهد ، وينجز ويبدع ، ويتحدى ويتخطى ، ويلائم ويتلائم ويوازن ويراجع ؟ أليس من شأنه اذا هو تعلقت همته بما وراء العرش لناله ؟ أليس من شأنه أن يكون خليفة الله فى أرضه توقا وطموحا ونهوضا بنفسه وبقومه وبالانسانية جمعاء ؟ ثم أليس من شأن المربى الحق أن ينفذ الى الاعماق فيصنع المعجزات ؟ .
