الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

خواطر حول الثقافة والأدب

Share

الثقافة من مادة " ثقف " وفيها معني الحذق والاحاطة والخبرة والفطنة ويقول ابن السكيت "رجل ثقف لقف" إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به " ومن وضامين المادة الظفر فيقال " ثقف الرجل أى ظفر به " وفي القران العزيز "واقتلوهم حيث ثقفتموهم " ومن المادة ايضا " الثقاف" وهي حديدة تكون مع القواس والرماح يقوم بها الشئ المعوج . وقال ابو حنيفة : " الثقاف حشبة  قوية قدر الذراع في طرفها خرق يتسع للقوس وتدخل فيه على شحوبتها ويغمر منها حيث البتغي أن يغمز حتى تصير الى ما يراد منها " . ومما سبق نسنتج أن مادة " ثقف " تحتوى أيضا على معنى التقويم ومعنى تحويل الشئ أو المرء الى ما يراد منه .

فكل هذه المعاني التى أوردها ابن منظور فى لسان العرب تثبت أن في الثقافة والتثقيف معنى التكوين الهادف أو التسوية الهادفه ومعنى الطموح الى بلوغ ما يراد من الشئ اذا كان قوسا أورمحا أو سيفا وبلوغ  ما يراد من المرء من حذق وفطنة وخبرة واطلاع ليدرك الهدف المنشود وما هدف الانسان الا يناعته وتفتق عبقريته وتحقيق مكموناته الذاتية ليصلح فى الارض .

وما من شك أن هذه المعاني نفسها نجدها فى لفظة : (Culture) الفرنسية وفي ما شابها من لغات أوربية اخرى كالايطالية والانجليزية : وفي اللفظة معني الفلاحة : فالانسان فى هذه الرؤية كأرض تستوجب عناية من حراثة وتدمين وسقي وتطهير مما فسد من الاعشاب وتهوته إلى غير ذلك من الأعمال التى تستهدف تمكين الأرض من استكمال قواها وتوفير ما يستوجبه  المغروس فيها ليستغلط ويستوى على سوقه ويثمر فيعجب الغارس ويفيد من الناس .

فالثقافة زراعة أو فلاحة حقلها الانسان فهى فلاحة الانسان تعمل الى الوصول به إلى البناعة والفلاح لصالح الفرد ولصالح المجموعة حلقات متتالية مطردة

الاتساع من العائلة الضيقة الى البشرية قاطبة من البيت الصغير الى كامل المعمورة ذلك أن ثمار الثقافة مشاعة تتجاوز فوائدها حدود الوطن والأقاليم  ولا توقفها حدود القارة ولا يستأثر بها عصر ولا جيل ، تلك هى الثقافة الحق وليست تلك التى قد يرتديها بعضهم زينة يتباهون بها فى المناسبات الحافلة لدى الخاصة والعامة بل هي عمل دائب وايمان بجدوى ذلك العمل الدائب وهي عمل هادف فهى الايمان بالانسان وبإمكاناته الكامنة تترقب عملا وغذاء لتبرز كما تبرز النبتة من بطن الأرض وكما يبرز الطائر الصغير من البيضة وكما تتحرر الفراشة من الشرنقة ما أن توفرت الظروف الملائمة من رطوبة وحرارة وماء وأسمدة وغيرها من أشكال العناية والتثقيف .

الثقافة نضال ميدانه الانسان لتحقيق مردود الانسان للانسان فبالثقافة الحق يتجاوز الانسان مستوى الاستهلاك أو ما يسمونه بالاقتصاد التخريب نحو مستوى الانتاج حيث يثمر ويستفيد المجتمع بثماره وبالثقافة نساهم فى صناعة "اليوم" في سبك الحاضر وبها نتمكن من تصور الغد والتخطيط له حتى نطمئن عليه ونطمئن له  فالمسرح والفنون التشكيلية والدراسات على مختلف مستواياتها ومهما تعددت ميادينها والأدب كلها أشكال ثقافية تسخر لصالح الانسان ليكون إنسانا ينعم  بانسانيته بعيدا عن الخوف خوف المجهول خوف القوات المعادية خوف الظلام  وما يندس فى الظلام بعيدا عن الذل والهوان بعيدا عن التعصب الأعمى ذلك الذى يجعل الانسان ذئبا يفترس أخاه الانسان ونفسه راضية مطمئنة وكثيرا  ما يفترس الانسان تحت راية الحقيقة وما أروع كلمة الحقيقة بمعنى الروعة وبمعنى الروع بمعنى الجمال وبمعنى الرعب فكأنها الجمال الفتاك وكأنها الروعة المريعة أما الثقافة الحق فهي الواقع المحاط به وهي وقوف المرء عند حدوده مع إدراك لامكاناته وهى التواضع والايمان وقدرة على التجدد .

ولاشك أن الأدب من أهم القطاعات الثقافية أو قل : إنه غذاء يقبل عليه الانسان من ورائه يسعى الى إدراك انسانيته ليتحقق كانسان . لم يتفق الباحثون حول مشكلة أصل اللفظة على أن لسان العرب لابن منظور يوحى بأنها فى الأصل تعنى الدعوة وتكون تلك الدعوة إلى طعام صنع أو لعرس وتكون الدعوة إلى طريقة فى العيش أو الى اسلوب فى الحياة أو إلى مبادئ أخلاقية  تربوية تكون دينية وتكون مدنية تخص الفرد كفرد وتخص الفرد في المجموعة  وتخص المجموعة كمجموعة وتخص المجموعة ومواقفها إزاء الفرد . والملاحظ أنها مهما تعددت جوانبها أو قل : مهما تعددت أبعادها وتعددت جبهاتها فهى تتجه  دائما إلى الانسان فردا ومجتمعا . إن المعاني التى وردت فى لسان العرب لمادة

" أدب " أقرها الباحث الفرنسي داود كوهين David Cohen فى " معجم الأصول السامية " الذي يسهر على تأليفه منذ سنوات عديدة وقد صدر منه  جزءان الجزء الأول خاص بالأصول التى فاؤها ألف ويحتوى الجزء الثاني على   الأصول التى فاؤها باء .

وفيما يتعلق بمادة " أدب " يشير داود كوهين الى تواجدها فى اللسان الكنعاني واللسان اليمني القديم وكذلك فى اللسان الحبشى ويرجع أن في مادة " دأب " نجد فى الواقع مادة " أدب " مع قلب داخل الهيكل الحرفى والقلب من هذا النوع مالوف فى اللغات السامية وكذلك فى صلب اللغة الواحدة .

ولا يفوتني أن أشير الى ما كتبه المؤرخ العراقي طه باقر فى تقديمه إلى ملحمة جلجامش حيث قال : " جاءت قصائد شعرية تتصدرها الكلمة السومرية (أدب) المضاهية للكلمة العربية ( أدب) على أنه لا يمكننا البت فى العلاقة  الاشتقاقية ما بين الكلمتين" .. وذكر طه باقر كذلك أن " عنوان أدب المفاخرة   أو المناظرة فى السومرية : " أدمن دك كا " وهي عبارة طريفة تتألف من العلامة  المسمارية التى تكتب بها كلمة رجل مكررة ورأس إحداهما يلامس رأس الأخرى ومن العلامة " د ك" التى تعنى تكلم أو قال " فهل كلمة أدب وجدت في لغات وادى الرافدين ؟ لا نستطيع البت فى ذلك لعدم اختصاصنا فى هذه  اللغات وكم العرب فى حاجة إلى معرفة هذه اللغات!؟

ولقد حاولت بدورى معالجة هذه القضية اللغوية وسرعان ما تبين فى أنها ذات أبعاد كبيرة متشعبة خطيرة ولا يمكن البت فيها الا بعد تحقيق ضاف يلاحق الكلمة ومشتقاتها في مختلف مجالات اللغة العربية بل ومجالات اللغات السامية العديدة المختلفة الشفوية منها والمكتوبة فاذا أخذنا قطاع اللغة العربية توجبت ملاحقة كلمة " أدب " ومشتقاتها وكل ما قد ينتسب اليها فى الشعر الجاهلي وفي القرآن والحديث النبوى وفى كل منتوج اللغة العربية فبعد ذلك التحقيق أى جمع المواد والشهادات المختلفة المصدر والزمن يمكن النظر فيها والخروج بنتيجة يعسر تقييمها مسبقا لاشك أن بحثا من هذا القبيل جدير بالعناية على انه يتطلب وقتا وجهدا قد يتوفران عند الذى يروم تقديم أطروحة أو عند الذى أوقف عمله على الدراسات الأدبية اللغوية الدسمة المفيدة والدسامة الحقيقية لا تعوق الاستيعاب ولا تزعج المقبلين عليها .

القضية تستوجب إذا عناء وصبرا وتستوجب الاختصاص مع توفر الوقت ولعلى أحجمت عن ذلك العمل لعدم توفر بعض هذه الشروط لدى ، على أن ذلك

لم يصدني على تقديم افتراض جسور قد يبدو كنسيح العنكبوت جميل التركيب والتنسيق هش الكيان لا يستطيع الصمود ، فمعذرة إن تجاسرت على تقديمه  لأن أملا يحدوني لوجود ما قد يدعومه ويفرضه كحقيقة لغوية ثابتة .

يعتمد هذا الافتراض على أساس ذي بعدين بعد حضاري أو قل انثروبولوجى وبعد لغوى بحث . انطلقت من واقع الأدب وأهدافه وما من شك أن الأدب يستهدف الانسان كفرد وكمجتمعات فهو من الانسان وإلى الانسان أمله أن يكون الانسان قادرا على استكمال انسانيته وتعويض ما قد تلتهمه الحياة اليومية من انسانية الانسان فالأدب آدمى بجبلته وآدم مثله الأعلى ، وذلك هو البعد الحضارى أو الانثروبولوجى .

اما البعد اللغوي البحث فلقد لمسته فى القرابة الهيكلية والصوتية بين " أدب " و " أدم " مع العلم أن كثيرا ما تتحول الباء ميما والميم باء والأمثلة في ذلك عديدة أذكر بعضها ففي القرآن : مكة وردت بكة .

وقبل أن يشيع اسم مجردة كان اسم النهر بجردة وما الحلمة في ثدى المرأة إلا اسم مشتق من مادة " حلب " الى غير ذلك من الأمثلة وليست هذه الظاهرة الصوتية من خصائص لغة العرب بل نجدها فى لغات أخرى سامية كانت او هندية أوربية كاليونانية .

وعلى ضوء ما سبق جعلت افتراضا لا غير أن " أدب " تعنى الانسان وجعلت من أدب مادة تعود الى " أدم " مع تحول الميم باء لكنني لا أقدم ذلك حقيقة ثابتة  ولا يخفى على ما يستوجبه الأفتراض من وسائل التدعيم ومهما يكن من أمر  فالقضية تبقى مفتوحة ويبقى باب الاجتهاد مفتوحا . ولكن ماذا عن الأدب التونسى المعاصر ؟ لا شك أنه يعالج قضايا الانسان قضايا الآدم التونسي " وفيه تيارات عديدة يستشفها القارىء فى مختلف أشكاله كالقصة والشعر  والرواية والدراسة على اختلاف أنواعها . وكثيرا ما يدور الحوار بين الأدباء حول حاضر هذا الأدب التونسي ومصيره ومسؤوليته تجاه الفرد وتجاه المجتمع ويدور الحوار حول الطريق الدافعة إلى الفلاح : فهل هي فى معاصرة التيارات والأهواء الأجنبية التى تأتينا وتثرينا عن طريق الحرف والصورة ؟ وكثيرا  ما تستمع لبعضهم يقولون إن هذه القصة او الرواية لا تتماشى مع التيارات المحبوبة فى الأقطار الأوربية لدى كبار الأدباء في فرنسا أو فى الولايات المتحدة

فهل فلاح الأدب التونسى فى معاصرة تلك التيارات وتبنيها وفرضها على المجتمع وهل هو فى اشكال وتقنيات ومنهجيات أقرها أخرون يعيشون فى مجتمعات أفرزتهم وساهموا فى نحت ملامحها ؟ هل الفلاح والفاعلية فى معاصرة  الآخرين دون ما اعتبار للظروف والملابسات التى أفرزت تلك الأشكال وفرضت تلك التقنيات وحببت تلك المنهجيات ؟ لا أعتقد ذلك ! أقولها بتواضع وإيمان

إن المعاصرة والفلاح والفاعلية ليست فى رأيي أن يقال في أديب : إنه يعاصر تيارات الأدب الحديث في العالم متشبعا بأشكال العالم المتقدم وأغراضه وتقنياته  الأدبية بل أن يقال فيه : إنه يعيش المشاكل التى يعانيها المجتمع الذي ينتمي إليه مع اعتبار كل المعطيات الداخلية والخارجية مع اعتبار العناصر المولودة فى الداخل ومن الداخل أى تلك التى تكون نتيجة تطور داخلى ذاتى واعتبار العناصر التى ترد على المجتمع التونسي برا وبحرا وجوا بالحرف والصورة والبضاعة .

يعالج الأدب التونسي اليوم بعض القضايا المصيرية بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع بين التوق نحو عالم الآلهة والجاذبية التى تشده أو تهوى به إلى عالم  الشياطين وتجعله من " المساقط الدنيئة " حسب تعبير أبى حيان التوحيدى .  فالقصة والقصيدة والرواية ما انفكت تتناول بعض القضايا الأزلية كالحب والحرية والعبودية والجمال والقبح والخير والشر والحياة والموت لكن الأدب التونسي مازال بعيدا عن العديد من ساحات المعركة اليومية ومنها المصنع ومنها الورشة ومنها المتجر ومنها المكتب وفيها العامل وصاحب المصنع والرئيس المدير العام وصاحب البنك والذين يعملون فى البنك من رجال ونساء وما تحتوى طينتهم عليه من مطامح وآمال عريضة وقنوط ، فعلى الأدب أن يعيش " معركة  التنمية " أن يصورها لنا تصويرا من العمق فماذا عن العامل فى الورشة وماذا  عن الطالب في جامعة فتية تتخبط بين الطموح وتواضع الامكانات المتوفرة فى المحيط الجامعي والاجتماعي وماذا عن لقاء المرأة بالرجل فى كل مواطن العمل والتكوين واليناعة ؟

تحررت المرأة وأصبحت تشارك الرجل مختلف ثنايا الحياة ويعيش المجتمع التونسي تطورا فى ظاهره وفى باطنه لقد تغير وجه المدينة  بالبيت الجميل والطريق المعبدة المستقيمة وبعمارات لا تستجيب للتقاليد  وبنايات فوضوية متحدية كل تخطيط والأكواخ تنتصب وكأنها الثاليل في وجه جميل : الجمال والقبح يلتقيان ، الثراء والفقر يلتقيان ، فماذا عن هذا اللقاء

الرهيب ؟ تلك فى رأيى بعض مصادر الالهام والوحى . وما الأدب الا وحي يوحى به الواقع الذي يعيشه الأديب فى مجتمعه متجانسا معه كما يكون التجانس بين المتحابين .

واذا تمكن الأديب من ذلك الزواج الروحى وأفلح في وعي مجتمعه وواكب قضاياه وتسلل فى ثناياه المتشعبة تمكن من الاسهام فى كسب معركة اللغة وليست من أيسر المعارك . يقول الذين يضعون الكتب المدرسية للأطفال وتلاميذ  المعاهد : إنهم لا يجدون فى الأدب التونسي ما يساعد على معرفة المحيط كما نعيشه اليوم بقطع النظر عن بعض الألواح التقليدية وعادات تتوارى وتنقرض وإن وجدت بعض المؤلفات أو قل : إن طرقت بعض المؤلفات بعض جوانب  المحيط رأيتها واهية لا تتنزل في صلب المحيط ، ولا تصفه وصفا دقيقا مثيرا  فهل من وصف دقيق للسفينة أو لمصنع تركيب السيارات بسوسة أو لبيت  الاستقبال فى احدى الفنادق الرابضة على السواحل التونسية بالحمامات أو  بسوسة أو بالمنستير أو بالجنوب الشرقي ؟ أعتقد أنه لا بد من ولوج هذه العوالم  إذا أراد الأدب التفاعل مع المحيط والمجتمع وإن لم يكن ذلك يبقى الأدب فى واد  والمجتمع فى واد قد يلتقيان وقد لا يلتقيان مع العلم أن الأدب لا يكون إلا  باسهامه فى نحت المجتمع وبتفاعله معه .

ومن الأصالة أن يكون الأديب وليد المجتمع ووالده .

اشترك في نشرتنا البريدية