اى رسام بارع يستطيع بريشته ان يصلح من خطوط الواقع ؟ . . او ان يضيف اليه الوانا تغير من منظره . . .
وأى بحور الاحلام والخيال لا شواطئ لها . . حتى لا ترسو سفننا في ميناء الواقع . . . .
انا مغلل تحيط بى قضبان الواقع . . مسكين انا . . هيمان متشبت بخيوط الاوهام والغيب اتغني بأناشيد الحرية والانطلاق ولا حرية ولا انطلاق ما دمت مرتبطا بالواقع . . دون ان أجزم انه الواقع . .
وماذا جعله واقعا ؟ هل يمحن ان لا يكون هدا هو الواقع ؟ لست ادرى . . ان كل شىء اوهام . .
طوى دفتر مذكراته . . ومسكه بكلتا يديه . . ودمعتان غريبتان . . تدبان فى خديه دبيب تائه . . فى بيداء قاحلة . . لا يستطيع الاستسلام الى الموت . . . ولا مواصلة دبيبه . . ثم اشعل سيجارة وحاول ان يستمر فى الكتابة بعد ان فتح الدفتر من جديد . . لكن ريق قلمه جف فابي المسير . ووقف كالمشدوه يتأمل الحروف التى خطها . . وكأنها غريبة عنه . . لم يرها ولم يمر عليها بعد . . فناجاه : " تحرك يا قلمي ولا تسكن . . فان الدماء التى تنزف منك لا تنضب لانها دمائى انا . . ومن كبدى . . وبدون جدوى . يناجية . . فالواقع فرض عليه الا يسير . . والا يتحرك . . فراح يعيد قراءة ما كتبه بعد ان قلب عدة اوراق الى الوراء :
- حام حولى ورفرف طائر الحب . . فاستمعت الى نشيده الساحر . . دون أية مقاومة منى او نفور . . - بل - لقد فرحت بمقدمه . . وتغنيت معه وشدوت . . . .
غاب عني الطائر وبعدت الحانه عن اذني . . لكن بقيت تنبعث من قلبي . .
هى بريئة . . وانا ايضا برئ . .
لكن سواد عينيها . . لولاه لما اندفعت اتبع خطاها كل يوم من المكتب . . . الى النهج الذى تقطن فيه . . من بعيد لكى لا ترانى . . او تشعر بوجودى . . وعن كثب لئلا تنفر . .
كانت هى تنهمك فى الحديث مع زميلاتها . . وكنت انا انهمك . . فى عبادة سواد عينيها . .
ومرت أيام وأنا كذلك اسبح فى السعادة الى ان احسست بصراع فى نفسي وتضاءلت امام ضميرى . . وشعرت بالنقص .
لقد بدا رسم الواقع وترأى . يتجسم من خلال السعادة . . واذا بى اشتم رائحة الشقاء . . فانطويت . . فى بيتى أطارد الحان الطائر الغائب المتوارى . . لكن عبثا احاول لقد تبينت انها ممزوجة بالحان جديدة لم افهم منها . . الا :
الحب بحر لن تعبره الا سفينة الواقع فكان على ان احطم سفينة الخيال والاوهام . . وان امتطى سفينة الواقع ! والا حطمتنى الامواج وبددتنى ، فلم اعد افكر فى تتبعها . . - بل - فى خطة اجدر . . .
ان صديقى " حبيب " المصور وزميلى فى المسكن . . ابرع ربان يستطيع ان يقود بى سفينة الواقع . . لانه لا يضيع صغيرة ولا كبيرة من بنات تونس . . الا احصاها . . فلماذا لا استنجد به . . وانا المهدد . . صحت وارتميت عليه . .
انها هى . . أجل هى . . يا اخى الحبيب ، اذن انت تعرفها ؟ ما اسمها . .
نظر الى حبيب . . وانا احتضن صورتها بعد ان وجدتها بين الصور التى فى حقيبته . . فقال :
- هل كلمتها ؟ . هل اقتربت منها ؟ فاجبته وعيناى معلقتان بعينيها فى الصورة - لا ! لا ! ، ان القصة لا تتجاوز ما ذكرت لك الا بانى لا استطيع التخلص من هذا الشعور . . الجارف . . انى سأغرق فى الموج يا . . .
فقاطعنى والحيرة تبدو عليه : - انت يا فاتح . لقد عهدتك . .
ذلك هو السر . . انا نفسى لا ادرى . . الخلاصة انى غريق استغيث واستنجد . . بربك ما اسمها ؟
- زهيدة . . - زهيدة . . زهيدة . . سأسميها " زى " وكفانى اسما . . فاني اخشى . . ان اقول " زاهدة " لا قدر الله . . من الآن فصاعدا سيكون اسمها زى . .
- اسمع يا فاتح . . اكتب لها رسالة . . صب فيها كل فنك . . ثم . . - آه . . الفن لقد احسست به يتوارى عنى . . لانه يتصادم مع الواقع لم اعد فنانا منذ اخذت فى تحطيم سفينة الخيال والاوهام . . ان الفن مجرد اوهام لسد فراغ يحبس به الانسان . .
- فاتح دعنى اتمم حديثى . . الم اقل لك انك فنان . . دون ان تدرى . . اذكر لها مهنتك واطلب منها ان تعطيك بعض كتاباتها . .
انهى حبيب كلامه قائلا : يجب ان يصل اليها جوابك غدا . . ثم اعطانى عنوانها وخرج .
فشعرت بالامواج تتلاشى . . وسفينة الواقع تتهادى بي . . ونسيم الراحة والاطمئنان . . يداعب قلبى . . بعد ان القيت بالجواب في صندوق البريد . .
لقد احسست بالسفينة تقترب من الشاطئ . . وبالشاطئ يقترب من سفينتى . . وبنفسى نشيطا ابحث عن عمل اسديه فراغ وقتي . . وصرت لا أومن بالاوهام . . وأهزأ بماضى . . وبمن يتشبت بالاوهام . ومتعطشا الى لمس شئ . . بيدى . . لا بلا وعي . . ولاشعورى .
زارني النوم تلك الليلة واستسلمت له . . كما كنت استسلم للهواجس والاحلام . . معللا ذلك بانه الفن . . وبينا كنت نائما اذا بى امام رجل كبير السن كثيف اللحية يبدو عليه الوقار والجلال . . يسألني :
هل تريد جناحين تطير بهما . . ام فأسا تحفر بها الارض . . اجبته على الفور ومن غير فهم لما يقصد
انى لا أومن بغير الارض . . لانى المسها واسير عليها . . . واني مهما سبحت فى الفضاء سأكل واعود الى الارض .
فقهقه الرجل وطار في السماء قائلا : انك محاط بأسلاك الواقع استيقظت أتساءل . . ماهو الواقع ؟ ومن صنعه . ؟ ولماذا يعوقنا عما
نلمس . . ويدفعنا الى نتائج نقتطفها من الغيب . ؟ يعوقنا عن وطء الارض ويدفعنا لاحتضان الفضاء . .
ان هذا الا واقع مزيف وانتظرت حبيبا كثيرا . . جدا . . حتى نفذ صبرى . . لكن هل الواقع هو الذي يجعلنى انتظر . . ام هى الاوهام . . لقد تشابها على . . ولم اعد افرق بينهما . .
أنا انتظر فقط . . الساعة الآن الثانية مساء . . وانا ما زلت متمسكا بالصبر . . كلا . . بالعجز . . انى تشككت ايضا حتى فى الصبر . . فلو كنت قادرا على العثور على حبيب لذهبت اليه . . لكن سأتوهم الصبر . . او سيحتم على الواقع الصبر . . مثل الآلاف المعذبة . . بعضهم الطوى . . والظلم . . وهم يستمعون الى وعاظ يشرحون لهم مزايا الصبر : . لكى يصبروا على ما لديهم
مدت زهيدة . . كلا " زى " يدها الى حقيبة حبيب لتنظر فى الصور التى فيها كعادتها كلما زارهم . . فابدى حبيب حرصه على الذهاب . . لان لديه اشغالا كثيرة . . ومواعيد مرتبط بها . . لكنها الححت . . فما عليه الا ان يمتثل . . جلب اثناهما صورة شاب . . فسالته كعادتها . .
- من هذا يا حبيب يبدو انه ممثل او مطرب ؟ . فقال لها - كلا انه شاعر - من هو ، انه صغير . فأجابها : لكنه فنأن يا زهيدة . . انه شاعر رقيق . . من اعز اصدقائى
- قل لى ما اسمه ؟ اخشى عليه منك ابتسمت " زى " قائلة - دائما تمزح يا حبيب - انه صديقى فاتح . .
بذلت " زى " كل ما فى وسعها لتخفى دهشتها . . ثم اعادت الصور كلها الى الحقيبة الا صورتى انا . . لقد اخفتها عنى - كما قال حبيب - ثم ودعته
ان السفينة تقترب من الشاطئ . . صورتى الآن عندها وصورتها عندى . . أهذا واقع ام احلام ؟ ابهذه السرعة ؟
ان السعادة تداعبنى وأداعبها . . فلقد كنت اتجنب ان تراني - ثم اصبحت اسعى فى لقائها ، ما اكثر وجوه الواقع . . انا لا أو من بهذا الواقع المتناقض ابدا - . لكن الالحان تنبعث من قلبي
الحب بحر لن تعبره الا سفينة الواقع ، الحان تبعث فى نفسى العزيمة والتضحية والايمان لكنها تجعلنى فى صراع نفسانى . . ابحث عن حقيقا الواقع . . وعن اصوله . . فلا اجد الا الغموض والابهام . . لا يمكن ان تستقر عليهما الانسانية . . لان مصير الغموض والايهام . . الانجلاء والاتضاح . .
ولكن كيف هو واقع اذن ؟ وهل اطلق عليه هذا الاسم متمردون على الانسانية . . بطلاسم ؟
لم تسرق " زى " من حبيب صورتي الا لأنها . . سأقترب يوميا من عينيها الساحرتين . . وأناجيها . . زى . . يا زى
كنت اسير على الارض لكن لا اشعر انى اطؤها بقدمى حينما كنت ذاهبا الى زهيدة . . لا ، الى زى بعد ان كررت قراءة رسالتها مرات . . لقد كنت آنذاك قطعة من السعادة . . التى طالما شغلت بالبحث عنها . . فزى التى كنت اختفى عنها تحت الجدران حتى لا ترانى . . سألتقى بها بعد قليل . . وفي المقهى امام كل الناس . . شىء لا يكاد العقل يصدقه . . لكن يثبته الواقع .
ما اطول المسافة . . حتى يتخيل لى انى لا اصل " باب البحر " الا بعد يومين او ثلاثة . . ليتنى ارتضيت بالاجنحة التى اراد ان يسلمها لى رسول المنام . . ليتثن لم اقل له انى لا اومن بشئ عدا الارض . . اذن لكنت الآن احتضن الفضاء واشقه نحوها . . عوض ان اسير على الارض ولا اشعر بلمسها .
اه .!.
لست ادرى كيف وصلت ؟ ان الواقع يفعل كل شئ . . سواء آمنت به أم تشككت . . فها انا الآن انتظرها ولقد حان موعدنا . . ستأتي الى حالما تصل . . لان صورتى معها ، اما انا فسواد عينيها لن انساه ابد الدهر . ولن يضيع منى ولو تدمج فى الفردوس مع حور العين .
ما أسعدني . .
بل أبى استطيع أسعاد غيرى . . لأنى قطعة من السعادة مبعثرة فى مقهى . . .
دخلت زى تنظر حولها . . تبحث عني وكنت في زاوية اخترتها لبعدها عن الاعين . . فلم استطع ان اشير لها بيدى . . الحق انى عاجز . . او خائف . .
انها تطوف بعينيها . . حول المقاعد . . دعها حتى ترانى تذكرت ان صورتى التى معها مر عليها عام منذ " تصورتها " ، وخشيت ألا تعرفنى
يا الله . انها رأتني ، لكن لم تطل النظر فى . . شىء عجاب . . كان على ان افعل شيئا فقد طال وقوفها التقطت اذناى اللحن المنبعث من قلبي . . " الحب بحر لن تعبره الا سفينة الواقع " . . فاسترجعت عزيممتى . . ورفعت يدى مشير اليها باصبعين . .
اثمن شئ تحصلت عليه فى حياتى ابتسامة زى عندما راتنى . . ما أجملها . . وما اسعدنى . . وما أشد غموض واقعنا . .
اقبلت نحوى " زى " واقبلت معها حياتى المثالية . . التى ضيعت عمرى فى انتظارها . . وفى البحث عن كنهها . . فنهضت مادا يدى لأصافحها . واصافح الشاب الذى معها - وشعرت وهي تقدمه الى قائلة :
رؤوف ابن خالتى وخطيبي شعرت بالالحان التى كانت تبعث من قلبى . . تحولت الى دخان . وبقلب العازف يشوى فى زمهير
