ما الذى أقوله فى شعر ابن الرومي بعد أن اشبعه امثال العقاد والمازني بحثا ؟ وما الذي يستطيع ان يقول فيه اي شخص بعد ان الفت فى شعره وحياته كتب وتناوله كبار ادباء العربية بالتحليل فى نفسيته وشخصيته ومنشأ اطواره الغريبة ؟
انما لكل مفكر - مهما كبر او ضؤل - حظ من راي يتكون لديه بعد طول القراءة والاستقصاء وهو لفكرته سواء اكانت صائبة أو خاطئة متعصب جد التعصب ، وهذا التعصب يخول له عرضها على جمهور القراء والأدباء وعلى من هم اطول منه بابا فى عالم التفكير وطرق عرضه . وعلى هذه الدعامة أتقدم إلى جمهور القراء بهذا الرأي .
كلنا نسخر وكلنا نستهزئ ولكن قليل منا يستخف ، نسخر ونستهزئ لأننا نروح عن انفسنا كما يقول علماء النفس لأن السخر والاستهزاء لا ينشان عن نقص فى طبيعة النفس ، انما يصدران عن كبت العواطف ، ليشبعا شهوة التشفي او النأر . اننا قد نكره رجلا ولا نستطيع عليه ، فنقسو عليه اشد القسوة ونعامله اردأ معاملة . . لكن اين ؟ ! . . فى خيالنا فقط لنروح
عن عقلنا الباطن الذي تحال اليه كل القضايا البطئية التنفيذ . بخلاف ذلك المستخف فانه يشعر فى قرارة نفسه بنقص ما ، فينتقص كل احد ليتساوى معه فى نقصه ولذلك يشعر المستخف بفرح وجذل عندما يشاهد انسانا ما يهوي من ذروة الفضيلة إلى درك الرذيلة طبعا ومن غير قصد . وعلة ذلك النقص النفسي التركيب الذي جبلت عليه تلك الشخصية . وليس الانسان العادى يتجاوز الاستهزاء إلى السخف ابدا . هذه مقدمة لابد منها لتفهم سر استخفاف ابن الرومي واسرافه فيه - فى نظري طبعا .
كان فى تطير ابن الرومى نوع من الاستخفاف بالناس لأنهم يسببون له الضر والبلاء ويجلبون له الشؤم والمصائب ، وهو يستخف بالناس من حيث لا يشعرون ، يستخف بأعدائه وهاجيه وأسلوبه فى الهجاء ليس كاسلوب الشعراء الاخرين فهم يهجون الرجل من حيث شكله وخلقه ونفسيته لا اكثر ولا اقل لكن ابن الرومي يهجو الرجل من حيث هو انسان ، فهو يترفع من ان يشترك مع الناس فى نسبتهم إلى أبيهم آدم :
ولم يكن هذا أسلوب أحد من الشعراء فى الهجاء ، فهجاء المتنبي فى كافور هجو شخص صادر عن سخط عادى بصورة عادية ، وقد يكون هجو المتنبي الذع واسخر وهجو جرير والفرزدق ابشع واهتك ، لكن هجو ابن الرومي اسخط مسرفا في السخط إلى حد يستحيل فيه الى الاستخفاف المر بالمهجو
وهو حين يهو لا يقف عندما يقف عنده الهجاؤون انما يتعداهم إلى القدح فى نسب المهحو وحسبه وهو لا يتوانى ايضا ان يفضل عليه الحيوانات جمعاء ولم يكن هجاؤه لزيد أو لعمرو أو لفلان فحسب انما كان للناس طرا .
فكان نتيجة ذلك أن اضطر الناس إلى كرهه والنيل منه وغمط حقوقه ، فخملوا ذكره وقدموا عليه من الشعراء من هم دونه ، فابتعد هو بدوره عن الناس ساخطا متبرما ، وفضل الانفراد والعزلة على الاجتماع والاختلاط بالناس
ومن هنا كان منشأ تطيره الغريب ، لكن كان هذا الابتعاد والتطير سر نبوغه وعبقريته لانه انشأ مدرسة فريدة من نوعها لم يسبق لها مثيل فى الشعر العربى هى مدرسة الافتنان بالمناظر الجذابة واستيحاء مفاتنها
