الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

دراسة وتحليل أقصوصة "رحلة الصيف"

Share

مجموعة مشموم الفل للبشير خريف هي مجموعة تضم خمس اقاصيص طويلة نوعا ما ، كان قد نشرها من قبل فى مجلة الفكر وهى : " خليفة الاقرع " رحله الصيف " ، "محفظة السمار " ، " النقرة مسدودة " المروض والثور " . وقد صدرت عن الدار التونسية للنشر سنة 1971 .

اما الاقصوصة التى سنتناولها بالدراسة ضمن هذه المجموعة فهي اقصوصة "رحلة الصيف " التى كانت قد نشرت فى مجلة الفكر لاول مرة فى مارس 1970 .

وهذه القصة هى فى الواقع نوع من "المعارضة" استعملنا هذا المصطلح الشعرى ، او اعادة كتابة لاقصوصة مصطفى الفارسي : "القنطرة هي الحياة" الصادرة سنة 1968 . وهو ما نبه اليه البشير خريف نفسه .

وملخص اقصوصة الفارسي هو ان الشيخ مفتاح وهو حمال يسكن بالجبل الاحمر ، قرر الإقامة مع عائلته على الشاطئ للاصطياف اذ اكترى هناك براكة وذلك تلبية لرغبة العجوز امه التى بقيت تنتظره بالجبل الاحمر حتى يعود فينقلها إلى البحر بينما انطلق هو يوصل بقية افراد العائلة الى الشاطئ كدفعة أولى ، ولكن الشرطة تواجهه بالمنع لان البراكة فى " الطياح " فيعود ادراجه مع افراد عائلته خائبا .

وقد اعاد البشير خريف كتابة هذه الاقصوصة وادخل عليها تحويرات هامة سواء على مستوى الاشخاص او على مستوى البناء او على مستوى اللغة . فاما على مستوى الاشخاص فقد غير البشير خريف اسماءهم ومنحهم ، على عادته،

اسماء تؤكد انتماءهم الى الفئات الشعبية المدقعة (مسعود بن خليفة الاعتر ، التر ، الفر ، ضية الخ..) كما اضاف شخصية جديدة هى شخصية " الفرسيق" خال مسعود الاعتر ، وادخال هذه الشخصية ادى الى التغيير فى بنية الاقصوصة اذ بينما كانت احداث "القنطرة هي الحياة" قد استغرقت يوما كاملا ابتدا بخروج العائلة فجرا الى الشاطئ وعودتهم غروبا الى الجبل الاحمر ، فان "رحلة الصيف" تتكون من ثلاث وحدات زمنية :

- الوحدة الاولى يشترك فيها مع اقصوصة الفارسي وتستغرق الرحلة ذهابا وايابا من الجبل الاحمر الى الشاطئ.

- واما الوحدة الثانية فسابقة زمنيا عن الاولى ولكنها روائيا تتخللها وهو ما يعرف بالتضمين ، وهى ترتكز على احداث سابقة عن الرحلة .

- بينما تكون الوحدة الثالثة وحدة منفصلة وتلى زمنيا الوحدة الاولى مع فراغ زمني يفصلهما وقد تركزت هذه الوحدة الزمنية على شخصية الفرسيق"

أما على المستوى اللغوي فان البشير خريف قد استعاض عن اللغة الفصيحة التى استعملها الفارسي في مختلف مستويات اقصوصته من سرد وحوار ذاتى بلغة فصحى مدرجة او دارجة مفصحة وهى من اختصاص البشير خريف في الحوار مما اكسب الاقصوصة اكثر واقعية حتى وان كانت هذه الواقعية مغرقة فى الشعوبية والاسلوب الخرافى مثلما هو شان اقاصيص هذه المجموعة بصفة وفى الستينات . والتى تعكس فى الواقع تصور مثقفى البرجوازية الصغيرة انذاك ، للشعب وللدور الذي يمكن ان يقوم به ، وتعبر عن خيبة امل هذه الفئة التى تعود باصولها الى الفئات الشعبية ، عندما رأت ان تلك الفئات التى ساهمت بقسط وافر في معركة الاستقلال قد حرمت من نتائجه ، من بين الآثار التى تعبر عن هذه الحقيقة " طرننو " للحمزاوى.

1) الزمن في هذه الاقصوصة :

تميز فى دراستنا "للزمن فى الادب الروائى والقصصى " بين ثلاثة مستويات :

أ) زمن الخلق : اى الزمن الذي انشأ فيه الكاتب عمله ، وهو هنا على الارجح يشترك مع زمن النشر لاول مرة اى بداية 1970 أو اواخر 1969 .

ب) الزمن الخارجي : اى الزمن الذي يقف عند طرفى العمل الروائى اى متى تبتدئ الاحداث ومتى تنتهى واذا تأملنا هذه الاقصوصة فاننا نلاحظ ان احداثها تنطلق في شهر " اوسو " وهو ما نفهمه من هذه الجملة " واشتدت الوغرة على الجدة فى تلك الايام من اوسو (ص 55) وتنقسم بوضوح الى فترتين تدوم الاولى يوما كاملا يبتدئ عند خروج الحمال بدفع العربة وعليها عائلته قاصدين الشاطئ ثم عودته الى الجبل الاحمر غروبا وقد صده الشرطى عن مقصده . ثم نجد فراغا زمنيا يستغرق بضعة أشهر ، وتستانف الاحداث فى ليلة من ليالي الشتاء وبالضبط فى الليالي السود ، وهكذا ثلج بلادنا ، رمزي يسمط ولا يرى " (ص 63) وقد بدات احداث هذه الفترة الثانية بعودة مسعود وفى جيبه نفقة " لا تشبع ولا تغنى من جوع " وانتهت بالعشاء وقول الراوي: وباتوا يآما ، قد قضوا ، حق ضيفهم وما غرموا غرما وقد غنموا غنما فالزمان الخارجي اذن قد استغرق يوما صيفيا وليلة شتوية ولكن فى اى سنة ؟

نجد فى القصة اشارتين تحددان لنا بكل وضوح هذه السنة والاشارة الاولى جاءت فى (ص 51) وهي هذا الحوار بين مسعود وخاله الفرسيق :

- " ياخي جاتكم لغادي التعاضضية - يا وخذي ؟ ما هو الى عضاته ينبه "

والاشارة الثانية وردت في (ص 68) "دخل الخال الفرسيق يبشرهم بعودة حوازتهم" وتحيلنا هاتان الاشارتان الى الربع الثالث من سنة 1969.

وهكذا نلاحظ ان الزمن الخارجى لهذه القصة يشترك مع تاريخ الخلق وهو اواخر 1969 ويكون بذلك زمنا موضوعيا مرتبطا بالزمن التاريخي.

ويكتسب تمديد هذا الزمن اهميته اذا وضعناه فى اطاره التاريخي اذ ان هذه السنة قد شهدت فيها البلاد احداثا تاريخية وهي الاسراع فى تعميم التجربة التعاضدية ثم القضاء على هذه التجربة وما تبع ذلك من تغييرات في الوضع الاقتصادى والسياسي بالبلاد . وقد كانت اشارة البشير خريف الى هذه الاحداث واضحة فى الجمل التى ذكرناها سابقا وهى تحدد موقف الكاتب من هذه التجربة اثر القضاء عليها وهو موقف واضح الرفض عبر عنه على لسان الفرسيق .

ج ) الزمن الداخلى : هو الزمن المرتبط بكل شخصية من شخصيات القصة ، واذا كان الزمن الموضوعي الخارجى هو زمن الحاضر ، فان الزمن الداخلى هو زمن الماضي ، المستحضر بواسطة الذاكرة ، والومضة الورائية ، وهو زمن المستقبل المعاش في الحلم بنوعية : حلم النوم وحلم اليقظة . ويتخلل هذا الزمن في "رحلة الصيف" كما لاحظنا سابقا ، الزمن الخارجي وذلك عن طريق : الذاكرة كقول الراوى : "منذ اسبوعين طرق خاله الفرسيق ودخل عليهم يمسك بيد العجوز وبالاخرى امتعته " ص 50 وهذه الوحدة المعنوية التى تدور حول نزوح الفرسيق وعجوزه هربا من التعاضد رغم ان الكاتب يقدمها لنا على لسان الراوى فانها تبدو فى الحقيقة كالذكرى تعبر بذهن مسعود وهو يدفع عربته نحو شاطئ رادس . وكذلك نفس الشئ بالنسبة الى الوحدة المعنوية التى تدور حول تشوق العجوز ام مسعود " الى البلد وفضائها وروحها " ص 55 فرغم ان الراوي هو الذي تولى روايتها فانها فى الحقيقة مجموعة خواطر تدور فى ذهن مسعود وهو فى طريقه الى الشاطئ اما الحلم حلم اليقظة فيساهم فى بناء الزمن الداخلى فى هذه القصة خاصة فى الوحدة المعنوية التى تبدأ من قوله : " ليال انقضت يتمتعون بالبحر وهم لا يزالون فى الجبل الاحمر " ص 50 الى قوله معبرا عن هواجس العجوز حول البحر " ولا يدنسه شئ وبه لوحة الذي ينفى اجابة العين " ص 57 وقد لعب العلم هنا الى جانب دق البندير في وحدة معنوية لاحقت وسيلة للانفلات من الزمن الواقعي بكل ما فى هذا الواقع من بؤس وتعاسة الانفلات منه والتسامى عليه كل من الحلول التى قدمها الكاتب لبطله حتى يواجه بها وضعه الاجتماعى وهو حل يتماشى كثيرا مع النزعة الشعبية في التصور البرجوازى الصغير المكلل بمشاعر العطف و "الانسانية والرمنطيقية " ان صح هذا التعبير (Populisme ) وقد ذكرت سابقا ان هذه النزعة قد طغت على الانتاج الادبى التونسى عقب الاستقلال خاصة فنجد قصصا تحمل عناوين لها دلالتها فى هذا السياق مثل " طرننو " للحمزاوى و "خليفة الاقرع" و "سعيد وبذرة الحلفاوين" لصالح القرمادى و " الفرزيط " للترياسى وغيرها . واحداث هذه القصص تدور كلها تقريبا فى الحياة الشعبية وخاصة منها الارباط مثل باب سويقة والحلفاوين وهو ما يقودنا إلى دراسات المكان فى " رحلة الصيف "

2) المكان فى " رحلة الصيف " :

ان المتفحص للادب القصصى التونسى فى كامل الفترة الفاصلة ما بين الاستقلال واواخر الستينات يلاحظ انها تدور جميعا فى تونس العاصمة وفي

الاحياء الشعبية منها خاصة بما يلاحظ ان معظم الاشخاص فى هذه القصص يتبعون حركة - مكانية متماثلة : فينطلقون من الريف ليستقروا فى حى من  الاحياء الشعبية العتيقة (الحلفاوين مثلا) او الحديثة (مثل الجبل الاحمر) ثم يلقون بانفسهم في خضم المدينة العصرية للقيام بشغل او للبحث عنه مع كل ما يتبع ذلك من شعور بالغربة والاغتراب فى شوارع المدينة الاوربية.

والأمثلة على ذلك عديدة نكتفي بذكر بعضها : فصالح بطل " تعيش وتربى الريش " للحمزاوى نزح من قرية من قرى الشمال الغربى واقام فى برج على الرايس قبل ان يدخل المدينة العصرية بحثا عن شغل وكذلك نزح " الشيخ مفتاح " فى قصة الفارسي من الجنوب واستقر بالجبل الاحمر ليشتغل حمالا فى المدينة ومثله كان يفعل اشخاص اقصوصة "رقصة الاشقيات" لعبد القادر بالحاج نصر .

ولم يخرج "مسعود بن خليفة الاعتر " عن مسيرة عشيرته من النازحين والحمالة فنجده قد نزح فى زمن سابق على بداية الاحداث ، من قرية من قرى الجنوب حيث " الصحراء ورملها " ثم استقر فى الجبل الاحمر فى " كوخ ضيق وسخ ، سقفه من قصدير ، تحط عليه الشمس بكلكلها فيحمى هواؤه ويتبخر ويغدو فرنا يضيق الصدر " ص 55 وكان ينتقل يوميا الى المدينة بحثا عن حمالة يحملها بمقابل ثم يعود الى قاعدة انطلاقه فالمدينة تمتص منه جهوده فى النهار ثم تلفظه عند الغروب الى هامشها بين امثاله ، فتلك هي مكانته الاجتماعية التى عليه ان يلزمها ولا يتعداها ولكنه يحاول ان يتجاوز حدود المكاتبة فيمن بالفشل ويعود من حيث اتى . ويتمثل ذلك فى الانتقال الى شاطئ رادس عبر شوارع المدينة - المركز ، التى تواجهه بعداوة ضاربة واغتراب كلى . وهذه المواجهة الحادة تعكس في الواقع مواجهة الهامش للمركز من ناحية ومواجهة الريف للمدينة من ناحية ثانية هى المواجهة التى صورها تصويرا بليغا عبد القادر بن الشيخ فى " ونصيبى من الافق " عندما هتف مؤذن المدينة بطابور النازحين المنتظرين على بابها : "لا يدخلن احدكم هذه البقاع الا بدعوة من ابرارها" ص 124.

ان المدينة لا تفتح قلبها للنازحين بل تدفعهم عنها فيرابطون على مداخل الطرق التى حملتهم من داخل البلاد مكونين بذلك مجتمع الهامش المتمثل فى الاحياء القصديرية فنحد برج على الرايس على طريق الوسط والجنوب ، ونجد الملاسين وما حولها عن طريق الشمال الغربى وخاصة جندوبة وباحة والكاف ،

كما نجد الحيل الاحمر على طريق بنزرت وقريبا من طريق الشمال الغربى . وهذه الاحياء الهامشية تمثل فيما بينها وحدة معمارية واجتماعية ينتقل بينها السكان بسهولة كما تعتبر نتاجا لقيطا مخضرما بين الريف والمدينة . غير ان هذه الاخيرة تقيم بينها وبين سكان تلك الاحياء اسوارا وحواجز فيقيمون على طرفها ويعملون فيها ولكنهم يظلون غرباء داخلها لا يحبونها ولا تحبهم حتى وصفها احد اشخاص اقصوصة (قبل وحانة) للطاهر عمران " بانها كومة قذرة من النفاق الاصفر ، فى احضانها جميع الحشرات.." ونراها في "ونصيبى من الافق" تعبق برائحة الزفت الكريهة فيعبرها النازح وهو " يحن الى فوح التراب ويلوك انفه عطر الارض يسقيها الماء الزلال".

واذا تاملنا في رحلة الصيف نجدها لا تخرج عن هذا السياق ، بل ان تنقل عائلة مسعود الاعتر بين المستويات المكانية التى اشرنا اليها :

الجبل الاحمر ـــــــ الشاطئ (عبر المدينة) ـــــــــ  الجبل الاحمر من جديد يتم عبر حلقة محكمة الحبك تامة الانغلاق ، فعودته الى الجبل الاحمر خائبا عند الغروب بكل ما يحمل من معاني الغربية والانقباض بعد ان انطلق منه فجرا مع مولد نهار جديد وفي ظنه انه سيعيش حياة جديدة ولو الى حين ، انما يمثل انغلاقا يعبر عن الحصار الذى تضربه المدينة او المركز على سكان الهامش يجترون فشلهم وخيبتهم ولا سبيل لهم للافلات من تعاسة هذا الواقع الا بالحلم . ويمكن ان نلخص هذه القضية فى عبارة المواجهة التى تمثل محورا اساسيا.

المواجهة في رحلة الصيف :

ان المواجهة بين مسعود الاعتر وعائلته من جهة والمدينة من جهة ثانية انما هى فى نفس الوقت مواجهة بين طبقتين اجتماعيتين ومواجهة بين حضارتين.

فمسعود الاعتر حمال وهذه اللفظة مشحونة بالدلالات اذ هي صيغة مبالغة من حمل وهي تشير الى الدور الحقيقي الذي يقوم به مجتمع الهامش فى الدورة الاقتصادية فهم الذين يدفعونها ويجعلون من كواهلهم ركيزة لها ولكنهم بالمقابل يهمشون سياسيا وترتاب منهم السلطة المركزية وتحاول ان تحصرهم في مكانة محددة وكانها تخاف ان يحطموا حواجز تلك المكانة ، وليس من الصدف ان نجد عددا كبيرا من ابطال القصاصين التونسيين يشتغلون بالحمالة (على سبيل المثال طرننو للحمزاوى ، رقصة الاشقياء لعبد القادر بالحاج نصر،

القنطرة هي الحياة للفارسي ، الحمال والبنات للمدني .. الخ) ويتجلى حصار السلطة المركزية لمجتمع الهامش من خلال تعرض رجال الشرطة لمسعود الاعتر اثناء عبوره لشوارع العاصمة ب " رحله " وخاصة عندما اقبل عليه احد اعوان البلدية بعلمه ان البراكة فى الطياح والاقامة بها ممنوعة ، ثم امره باخلاء المكان حالا قاضيا بذلك على تطلع هذه العائلة الى الخروج من المنزلة التى خصصت لهم والابتعاد عن الكوخ الضيق الوسخ الذى تحرقه الشمس فى الجبل الاحمر وارغمهم على العودة من حيث اتوا يجرون الخيبة.

واصراره وجلوده وطاساته وهو ما عبر عنه الكاتب بقوله " سقط المتاع " وهي عبارة تدل على القدم والعتاقة والبلى وترمز الى عالم من القيم اضحي في زمن غير زمانه وفي مكان غير مكانه ولكن اصحابه مازالوا يتشبثون به فتكون بذلك مأساتهم التى تتخذ طابع المهزلة . اما الحضارة الصناعية المستحدثة فتتمثل فى شوارع المدينة العصرية وخاصة فى ما تعج به من سيارات وحافلات وقاطرات كانت تهدد حياة مسعود وعائلته و " سقطمتاعهم " بكل ما يرمز اليه من قيم حضارية ، تروم سحقا بكل ما اوتيت من قوة آلية فكادت الطرللى تدوسهم لولا إن حبست فجاة . ولعل اخطر مواجهة بين الحضارتين تمثلت فى "وحلة" عربة مسعود في السكة الحديدية بباب عليوة حيث كاد القطار ان يقضي على العربة ومن فيها وبكل ما ترمز اليه . وتتوضح لنا رمزية هذه المواجهة عندما نقرأ هذه الفقرة التى يصف فيها الكاتب القطار من جهة ونظر عائلة مسعود فيقول:

"وحش غضبان من الحديد والنار . عين طافئة فى جبهته ينفخ من مناخيره العديدة وحركة اسنانه من الاسفل فى صرصرة وطقطقة وبكبكة وتشتشة. وشرر وبخار ولعاب تهدد بدقدقة الحجارة والناس يطوى السكة ويتعاظم نحوهم كالقضاء المبرم " ص 59.

كما ان هذه الفقرة تصور لنا ما يشعر به الريفيون امام حضارة المدينة من دهشة واستلاب وهو شعور عبر عنه " صالح " بطل " تعيش وتربى الريش" بقوله : "هذي بلاد غريبة" كما عبر عنه في " ونصيبى من الافق " سالم عندما "فتح فاه فى الشارع الطويل يلحس مالا نهاية له ، هاتفا : أب . أب . . أب " ص 146 ولذلك فان عائلة مسعود الاعتر تجتاز المدينة ممثلة نشازا صارخا مثيرة رد فعل عنيف تمثل فى تلك المشاجرة التى خاضها مسعود مع احد الحضارة

وفي اصطدام عربة اسعاف بالبرويطة فاوقعت جانبا مما عليها من ادباش وطاسات وجلود ودجاجة كاركة تفرتت فراخها ولاذ منها فرخ اسود بمصطبة عون المرور رامزا إلى كل ما كان يعتمل فى نفوس العشيرة من خوف امام هذه " الآفات " الآلية الزاحفة التى طحنت الحمال بطل أقصوصة الطاهر عمران " هل تنفرج الطريق ؟ " وذلك عندما داسته سيارة فاخرة .

وتتظاهر هذه المواجهة الحضارية على مستوى آخر فى رحلة الصيف " وذلك عندما يحدثنا الراوى عن العداوة بين مسعود " الحمال " و " التاكسيات " . لانها قطعت عليه سبيل رزقه اذ ان التاكسيات قد استوعبت جل عمل الحمالة وهذه الضغينة تصور القطيعة بين نمطين للانتاج : نمط عتيق اخذ فى التهمش والتقهقر . ونمط آلى زاحف فى عنف وقوة مزعزعا الهياكل الاجتماعية الاقتصادية القديمة فى مجتمع زراعي بصدد التحول .

ان مسعود بن خليفة الاعتر بطل مهزوم فاشل ، وفشله ينسحب على بقية اشخاص القصة من عائلته ، فقد فشل فى تحقيق وضع اجتماعي كريم نزح الى العاصمة من اجله . وفشل فى قضاء مدة على رشم الماء كالاعيان . وقد صور لنا الكاتب الخيبة والفشل اللذين كانا يتابعان هذه العائلة كغيرها من مجتمع الهامش فى هذه الجملة : " ووقعت الدلاعة وتفرشخت وتلوثت بالرمال . فاكتفى "التر" بلحسن اصابعه من مائها ، واكتفت العجوز بغمس اصابعها فى ماء البحر " بعد ان ظلت زمنا تحلم بقضاء مدة على رشم الماء بل لقد " تحايت من اجل ذلك واقسمت الا تموت الا بعد نهاية الصيف".

ان الفشل والخيبة يمثلان العمود الفقرى للواقع البائس الذي يعيشه مسعود وانداده من مجتمع الهامش والذى لخصه البشير خريف في قوله : "كوخ ، وثلاثة صغار ، وامهم ، وكلب وبطالة كثيرا ما تطغي على العمل " ص 54 ولكن هؤلاء الفاشلين يرفضون التسليم بفشلهم ويفتحون امامهم نافذة الحلم فاذا مسعود يحدث خاله " عن النعيم الذي يتخبط فيه " ويصور له الخيرات المكدسة فى هذه البلاد التى يدوم ربيعها اربعة فصول : فواكه وخضر وبسباس "كيف الجمار" الحليب والزبدة والجبن بالسخط " ويوم تكون الزوجة مرهقة لا تستطيع الطبخ فان الطباخ عنده كل ما يقول الفم واللسان : " يا لحم ، يا  دجاج ، يا حوت ، يا شمنكة ، يا دوارة ؟ شكاير فى القرانة اختار على كيفك " ص 53 بينما فى الواقع لا يتجاوز مردوده اليومي ثمن قليل من المقرونة والسكر والشاى ، ويتكفل دق البندير بالباقي من طعام ودواء للطفلة المريضة .

وهكذا يمكن ان نستخلص ان اشخاص "رحلة الصيف " كاندادهم من الاشخاص النازحين في القصة التونسية ، تطحنهم ثنائية مركبه هى : المركز - الهامش والمدينة - الريف والحلم - الواقع . فقد اجتثوا جذورهم من تربتها ولكنهم لم يتمكنوا من غرسها فى تربة المدينة ، فبقوا معلقين " كالقنطرة لا هي متزوجة ولا هي مطلقة" على حد تعبير مصطفى الفارسي حتى ان العجور ام مسعود كانت في شيخوختها وبعد سنوات طويلة من النزوح " تطلب العودة إلى البلد .. وتهجس بالصحراء " كما ان اخاها الفرسيق الذي نزح لما افتكوا منه حوازته قد سارع بالعودة للاستقرار بها حال العدول عن التعاضد واعادة حوازته اليه.

وقيل ان ننتهي من الحديث عن هذه الاقصوصة تشير الى تلك القطيعة التى يصورها الكاتب بين الفئة المثقفة وعامة الشعب . فبينما كان مسعود وعائلته فى ورطة بسبب " وحلة " البرويطة فى السكة واقتراب القطار منهم . " نزل من احدى السيارات رجل انيق ، ذو نظارات خضراء ، صافى التقاطيع دقيق الشفاء ، حازم الذقن ، له جبين فيلسوف ، فنان تخطى مرحله الشباب ولم يدخل الكهولة " ص 59.

وهو بذلك يمثل نقيضا بمظهره لمسعود ، وبدل ان يساعد هذا الرجل مسعود عل الخروج من مأزقه والافلات من الخطر ، انصرف يقدم له نصائح طويلة ويلقي على مسمعه خطابا فلسفيا مطولا حول مفهوم القنطرة ودورها ورمزيتها قائلا : " يلزم تحفروا الوديان وتجيبوا لها الماء بالذمة باش ترموا عليها القناطر .. القناطر هي عنوان البلدان المتحضرة .. من عدم الى عدم - معلقة ، لا هي متزوجة ولا هي مطلقة " ص 60 .

ان هذا الثقف فى واد و مسعود ورهطه فى واد اخر وقد عبرت العجوز عن القطيعة بقولها متأففة : آ مستعود وليدى قلة ايه بركة .. رانا تتخذنا " ص 61 وهذا الكلام الفلسفي التاملي حول القنطرة هو محور القصة الاصلية كما كتبها الفارسي في " القنطرة هي الحياة " ولكن على لسان البطل الحمال نفسه ، بينما جعلها خريف على لسان شخصية منفصلة ، وكانى بالبشير خريف ينقد بصفة غير مباشرة اسلوب الفارسي الذي كان ينطق الشيخ مفتاح بتاملات مثقفاتية فى لغة عربية فصيحة لا تمت الى واقعه بصلة ، ولعل هذا الموقف هو الذي دفع خريف إلى اعادة كتابة القصة من وجهة نظر اخرى . فقد نقل البشير خريف

تلك التاملات الفلسفية ذات اللغة النقية والاسلوب المحبوك الى حكاية من الحكايات الشعبية فاستعمل اسلوب الحكاية المتبع في الخرافات ولغتها حتى يقربها اكثر من الفئة الشعبية التى يكتب عنها . وهو ما يطرح قضية اخرى من  مقومات الفن الروائى وان كنت ساتعرض اليها بعجالة وهي قضية وجهات النظر او الرؤى أى الزاوية التى يقف فيها الراوى ليتحدث فيخبرنا بما يجول فى خاطر اشخاصه قبل ان ينطقوا بل ويعرف عنهم اكثر مما يعرفون هم عن انفسهم بحيث ينصب الراوي - الكاتب نفسه وصيا عليهم وناطقا عنهم فيسقط عليهم مشاغله وهمومه هو فاننا نجد البشير خريف يتبع فى اقصوصته نمط الرؤية من الخارج ، فيكتفى بوصفى ما يمكن ان نلاحظه من الخارج ولا يعرف الا ما كشف عنه الاشخاص انفسهم يفسح المجال لاشخاصه حتى يتكلموا ويسمعوا اصواتهم ويعبروا عن همومهم بانفسهم وبلغتهم وحتى عندما يستعمل الراوي ضمير الغائب وهو المهيمن على الاقصوصة فانه فى الواقع معادل لضمير المتكلم " انا " فهذا الغائب انما يجرده من ذات مسعود الاعتر ، فهو مسعود يتحدث عن نفسه الغائبة وليس الراوى واحسن دليل على ذلك الفقرة التى يصف فيها القطار والتى اشرنا اليها سابقا.

فالاختلاف فى وجهات النظر هذه بين الكاتبين تعكس تصورين ادبيين مختلفين بل ومتناقضين .

اشترك في نشرتنا البريدية