في بيت المقدس هناك جدار ياتيه اليهود كل جمعة ويبثونه من الحزن _ اسفا على انهيار القدس في سالف العصور _ ما يدمى القلوب ويقرح العيون ، وسموه بذلك جدار البكاء ( 1 ) .
وفي تونس ، وكأن هناك جدارا للبكاء على الادب التونسي ، يطلع علينا من حين لآخر من يبكي ادينا ويصرخ ويستصرخ ، وفي قلبه حسرات وفي حلقه عبرات وفي عينه دمعة واسميهم لذلك » البكائين « . ذلك ان الذين لم يسعوا فى خدمة الادب التونسي ، عن قصد او عن غير قصد ، اصناف كشف السيد محمد مزالي النقاب عن صنفين منهم في السنة الماضية : وهما المتمشرقون والمتمغربون وصنف ثالث لا يقل سلبية عن هذين يجدر الكشف عنه ومداواته وهو صنف البكائين .
فالمتمشرقون هم الذين يغضون من الادب التونسي عن قصد واقتناع ويتغنون بادب المشارقة وادبائهم فقط . والمتمغربون هم الذين انكروا أصالة كل أدب تونسي وتمسكوا بالادب الغربى واعرضوا عن الاعتراف لتونس بوجود ادباء حقيقيين . اما البكاؤون فهم الذين أحبوا تونس ورغبوا فى ان يكون لها أدب ولكنهم لم يتبعوا انتاج ادبائها وغفلوا عن دررهم وقصروا فى اشاعة الحسن وبالغوا في التحقير من السئ ومضوا يبكون الحظ ويندبونه .
والاجدر بهؤلاء _ اكثر من غيرهم _ وهم المخلصون لتونس ، الذائدون عنها المتحمسون لها ان يكون لهم ازاء الادب التونسى موقف آخر شبيه بالموقف السياسي الذى وقفه الحزب الحر الدستورى التونسى منذ اكثر من ثلاثين سنة بقيادة الحبيب بورقيبة ، والحال ان الامة التونسية فى ذلك الوقت كانت مفككة الاوصال ، باهتة الشخصية ، مقيدة بقيود الظلم والقهر ، مهددة بالمسخ ، فهل اعلن الياس وبكاها كما بكتها حقيقة شرذمة كانت عديدة آنذاك ؟ لا بل هو ابرز مواطن القوة ونفخ فيها من روحه وكتلها ووضع لها خطة كانت هي الناجحة .
فلماذا لا يكون لنا نفس الموقف وقد فتحت الطريق وزال كل كبت واصبحت للقلم حريته وللادب حظوته وللراى مكانته ؟
لماذا لا نجمع الكلمة ونلم شتات تراثنا الادابى المبعثر فى المجلات والجرائد ونعرف به ونبرز محاسنه ونزينها ؟
لماذا لا نخرج بالادب التونسى الى العالم كما خرجنا بالعبقرية السياسية التونسية وكافحنا من اجل ان يكون لها وزنها ونجحنا ؟
فلو قدر مثلا لابى القاسم الشابى والطاهر الحداد ان يجدا حظوة فى حياتهما ومن بعدهما الدوعاجي والعريبي وغيرهما ونشرت مؤلفاتهم وترجم وعزف بها واتسعت سوق قرائهم لكان انتاجهم اغزر مما نعرف ولسما بانسانيته الى مستوى الادب العالمي وشق الطريق الى الادب التونسى الحديث . اما ونحن مازلنا فى خطواتنا الاولى فى ميدان التعريف بادبنا _ حتى ان اصدقاءنا ( 1 ) عندما يكتبون عنا يقتصرون على ذكر المصاعب ويعددون الشعر والقصاصين ويعجبون بالنخبة التونسية التى التقوا بها ثم يقفون عند هذا الحد وهم معذورون لانه ليس بين ايديهم شي ء من انتاجنا اللهم الا النزر القليل - فمن واجبنا ان نقف وقفة جديرة بان تشيع بين الناس ما عندنا من أدب أصيل .
من واجبنا ان لا نقتصر على طبع الانتاج ، والدار التونسية للنشر ناشطة فى هذا الميدان ، ولا تقصر جهودنا على التوزيع فقط ، بل يحق لنا ان نقوم بخطة منظمة لنقد ما ينشر وترجمته وابراز محاسنه والدعوة له فى صحف العالم . لان ذلك يحفز الهمم الصادقة من النقاد فى الغرب والشرق على زيادة التعرف كما يحض الاقلام الشابة على المعاناة اكثر وعلى نشدان الاصالة والبحث عن الذي يميزهم عن غيرهم من ادباء العالم . اما اذا نحن انكرنا ما عندنا وحقرنا من شانه قتلنا المواهب وحبطنا العزائم ودفعنا كل من له قدرة على الكتابة على الانطواء والاحتفاظ بما عنده لنفسه .
فلو القننا نظرة الى العصور التى ازدهر فيها الادب سواء فى الغرب او الشرق فى القديم او الحديث لوجدنا ان كل فترة من هذه الفترات لا بد ان يكون من ورائها سلطان يرعى الآداب او مؤسسة تشجعها او قراء يتلهفون إليها ، او جرائد ومجلات تحث وتتعقب الاديب .
وبعد هذا اليس من الأحسن ان نقول ان الدوعاجى فى ميدان القصة القصيرة والرواية بالفصحى او الدارجة قد سما إلى مرتبة الادباء الانسانيين فى دقة الوصف وعمق الفكرة وبراعة الفن والنفاذ الى دخائل النفوس والبحث ،
فى دعابة ومرح نادرين ، عن ماساة البشرية . هل قرات له » أم حواء « القصة التى سجل فيها خروج ادم وحواء من الجنة ؟ وهل تبينت الفقرة الاخيرة من فصل نهاية اعزب ( 1 ) اذ يقول :
» اجهشت بالبكاء ؟ وكالعادة القت براسها على صدر آدم ، وانحصرت فيه حتى كادت تدخل في ضلعته المعوجة . فلان لها قلبه ، وجعل يلحس دمعها عن حفونها والدمع يغلبه ويفيض على وجنتيها فيلحسه عن وجنتها الملتهبة بلسانه . وقد نزل على وجنتها الاخرى دمعة كبيرة ثم سقطت على شفتيها القرمزيتين فمسح هاته الدمعة بشفتيه ومع انه قد تطعم ملوحة هذا الماء فقد استعذبه . وما التصقت الاربع شفاه حتى احس ان المسكينة حواء قد ارتخت بن يديه . وكانت هاته اول قبلة وآخر قبلة فى الجنة« .
اليس فى هذا النفس الادبي الاصيل ما يغرى على الاطلاع والاستزادة من ادب الدوعاجي ؟ اليس هو جدير بان ينقل الى لغات اخرى ؟ ثم هل قرات له » راعي النجوم « وتاكدت من عمق التحليل عنده ؟ اقرأ مثلا :
هى : لم كذبتنى هو : لاعجبك . هو : الناس تعجب حتى بالثروة الضائعة وباصحابها الذين اضاعوها . هي : ولم أطلعتني على الحقيقة . هو : لاني ذو ضمير هي : وأين هو الضمير هو : في ٠٠ ثم لاني لا احسن الكذب . اود ان اعجبك كما اعجبني أنا هذا النور
هى : لكنك لست بنور . . . ثم انت لا تعجبني الا اذا تركت التطلع لرؤية النور ورعاية النجوم . أنا اريدك وقحا قليل الحياء ، صفيقا تتطلع الى جسدى بنظراتك الملتهبة . حتى تحمر وجنتاي غيظا منك وخجلا من نفسي . ارعني أنا . هو : لا و ٠ . . واذا . . اضعتك سأغتاظ انا بدورى . هى : ولو . . . ليس لى أهل فلا تخش مطالبة هو : تطالبني بك نفسي هى : اجحدها . هو : الا اذا وعدتني ان لا تضيعينى هى : أنا لا استطيع ان لا أضيع . . مالك صامت . . الخ
واسمح لى ايها القارئ الكريم ان امضى معك فى هذا الاختيار وأدلك على أحمد المختار الوزير شاعر الحب والحنان والرحمة . فهل انصت الى أبياته هذه وقد اكلت الحيرة والشك عقله ؟
» ومضى حيران ، أعمي ،
كيف لا يدرى مأبه
فهو فلك ، قد طغى الاع
عصار وانتاب عبابه
أين . . . أين العقل هل ير
جو ، من الحق ، اقترابه « (1)
ثم يجد سبيله عندما يقول :
" فاجعل الحب اياه - ه
ذا . . . الى الحق قرابه
كل من حولك ظمآ
ن يرجاك شرابه
لا تخف ان ينهل الكا
س ، ويشتف الصبابه
فرحيق الحب لا يف
ني ، فدع عنك احتسابه
وثمال الحب أشفا
٥ ، لمن ذاق حبابه ( 2 )
وهل اهتديت الى هذه النغمة التى يكاد يرجعها فى كل قصيدة ،
انما العقل وحده في الحياة جهنم ...
لحن شعري قصيدة عن حياتي تترجم
هو انشودتى التى صاغها القلب والدم
هو بالحب ناطق وهو للحب ملهم
او الى هذا اللحن :
" ومضى الشاعر فى دنياه ، يشدو يترنم
مؤمنا بالحب ، لا شي ء سوى الحب يعظم
هذه الجنة دنيا ة ، وفيها يتنعم
. . . هذه الجنة سلم أمل الحب المعظم
الا يدفعك ، ايها القارئ الكديم ، هذا النزر القليل من شعر الوزير الى البحث عن درره ، وقد نشرت له مجموعة منذ سنوات وهو جاهد في طبع مجموعة اخرى فى هذه الأيام .
واذا اردت فافتح معى ديوان الشاعر احمد اللغمانى وتفطن الى قدرته على تقييد العاطفة الحارفة واخضاعها الى العقل والمنطق ثم توقف امام » البرج « لتقرا :
كان" برج" هناك في ملتقى البيــــــــ ـــــد غريبا بين الفلا معزولا
لفه القفر فهو ضرب من القفـــــــــ ـــــــر وأن كان عامرا ماهولا
. . ايقظته من نومه فئة سيـــــــــ ـــــــــقت إليه وكبلت تكبيلا
أيها البرج . أن تفرست فيهم وفحصت الوجوه فحصا طويلا
فتذكر . واطو الثلاثين للما ضي ، وحلل اشباحه تحليلا
ثم قل لى أما رأيت فتي اســـــــ ــــــمر في القوم ربعة ونحيلا
دق حسما ، واشتد عزما وقلبا
وسما منزعا وعف ميوولا
وسطا قوة ، وحلق مجدا
وصفا نظرة ، ورايا اصيلا
ما تخطى الشباب لكنها الأي
ام قد حملته عبئا ثقيلا
فهل تملك نفسك على ان تحس فى آخر القصيدة ببطولة هذا القائد وحنكته قدرته على تذليل الصعاب ؟ ألا تتوجه الى الشاعر معى لتهنئه لهذا اللون الجديد من الشعر الذى تمتزج فيه العاطفة بالعقل وينسجم من خلاله الاحساس الرقيق مع الاعتدال والاتزان
واخيرا فان مرافقتي فى هذا الطريق لعلها تطول ومن الحكمة ان نقف فى هذه المرة عند هذا الحد ونكتفي بهذا القدر من الادباء الذين لو اعتنينا بهم ، وغيرهم كثير ، لحق لنا ان نعتز بهم ، ونباهى بادبهم . ثم انى ساضطر الى ان اسكت ولا اتعرض الى ادب الشباب وفيه ما يبشر بالخير العظيم فلا اكتفى بذكر محمد المصمولى وقدرته عل الكتابة ورياض المرزوقى ورقه شعره ومحمود بلعيد وروحه القصصية ( *) .
اليس هذا الاتجاه في ممارسة ادبنا وادبائنا اليق بنا واجدر من البكاء عليه والتحقير من شانه ؟
