الى الاخ حسن عباس .
نعم طلبت اليك ايها الاخ ان تنقد فى مفتتح السنة الثانية من حياة مجلة الفكر(*) لا مقالا بعينه ولا حتى عددا بالذات وانما الاتجاه العام للمجلة فى هذه الفترة الدقيقة الممتازة من حياة الامة التونسية خاصة والمغرب العربى عامة حتى نضبط نحن المسؤولين عن هذا المشروع والقراء ايضا حظها من التوفيق فيما اضطلعت به من جسيم المسؤوليات فى دنيا الثقافة وعالم الفكر .
ذلك انا تحمسنا لهذا المشروع واقدمنا على انجازه ، رغم ما كنا نتوقعه من مصاعب وعقبات اثبتت التجربة انها لا تزال قائمة كؤودة لاعتقادنا الراسخ ان المثقفين اليوم مطالبون بعمل قد لا يقل خطورة وضرورة عن ذلك العمل العظيم الذي قام به زعماؤنا الابرار فى ميدان السياسة اذ خلصوا البلاد من قبضة الاستعمار وانتشلوها مما كان يهددها من تفسخ وانهيار وانقراض .
لقد دفعنا إلى بعث " الفكر " لنمكن رجال الفكر من تخليص تراثنا الثقافي مما علق به وعشش فيه من غريب النزعات واجنبى التيارات وخادع المظاهر وبالخصوص لنمكنهم من ايجاد تلك القواعد الروحية والفكرية الثابتة التى يقام عليها صرح الامم والتي دلت القرون تلو القرون على انه ما من امة فقدتها او زاغت عنها الا تاهت وتهافتت وذابت شخصيتها وباءت باحتقار الانسانية .
وقد اجتنينا منذ البداية خطرين كثيرا ما وقعت فى احدهما المجلات والمشاريع الادبية بصورة عامة .
الخطر الاول هو خطر الاطمئنان والراحة العقلية ، فنحن لم نضح باوقاتنا لنخلق مشروعا غايته نشر ما يمكن نشره و " امتاع " القراء بما يتفضل به علينا ... صندوق البريد مما قد لا يوجد بينه انسجام ولا يتبين معه اتجاه وتظهر منه وحدة فكانه الفسيفساء ... لقد رسمنا لانفسنا خطة من اول يوم ووضعنا هدفا وتحملنا رسالة لانا شعرنا بفراغ في حياتنا الفكرية ولان القلق اعترانا والتساؤل فى شؤون مصيرنا ألح علينا ، فنحن حينئذ شاعرون بما ينقصنا وشاعرون كذلك وبالذات بوجوب استكماله .
اما الخطر الثاني فهو التمذهب " القبلى " والتسليم ببعض الحقائق او المبادىء المقدسة ثم التصدى الى الدفاع عنها والتحمس لها فتنقلب المجلة فى هذه الصورة بوقا لفلسفة بعينها ولا يعدو الكاتب ان يكون كالجندى يحارب من أجل قضية قد لا يدرى هل هى " حق " فى حد ذاتها ولكنه آمن بها فطغت عاطفة الايمان على نور العقل فى بحثه وتثبته وتشككه ومعاناته للتمييز بين الحق والباطل والخير والشر والجميل والقبيح والنسبي والمطلق .
شعرنا بذينك الخطرين وحاولنا اجتابهما قدر المستطاع وعملنا في صمت طيلة سنه كاملة رغم المصاعب المادية والنفسية التى لا يعرفها الا من مارس هذا النوع من العمل واصطدم بواقع الناس والاشياء على ان اعضاء أسرة الفكر ادرى الناس بالبون الشاسع الذي لا يزال يفصل ما بلغته مجلة " الفكر " وما نرجوه جميعا ونسعى اليه لذا اردنا ان نحاسب انفسنا وننظر الى الوراء كى نعير ما انجز وما بقى انجازه .
من اجل كل ذلك - وفى نطاق تلك المشاغل - رجوت منك - ايها الاخ - ان تحكم على الفكر فى سنتها الاولى عسى ان تنير - وغيرك من القراء - ما يكون قد غاب عنا او غمض علينا ، لان تعلقنا " بالفكر " وتحمسنا له لم يبلغا حد الهوى او " المحبة الغالبة " كما يقول الفارابي وقد استجبت فاتسع صدرنا لجوابك ورحبنا به وقدرنا فيه الشجاعة والوضوح والرصانة التى كثيرا ما اعوزت النقاد عندنا .
وعلى انى كنت راغبا فى الرد على بعض ما جاء فى نقدك فقد امسكت عن ذلك وانتظرت رسائل القراء واراءهم حرصا مني على ايجاد " حوار " نزيه بين قراء المجلة لا تخفى فائدته فى هذا الميدان .
فلم نتصل الا برسالة الاستاذ محمد الصالح بن ابراهيم الذي حاول ان ينصف المجلة وان يتبين معالم هذا المذهب الجديد الذي ننشده .
فلا بد اليوم وقد مضي شهران على نشر كلمتك - من الرد ولا بد من توضيح الموقف .
لقد بدأت فقيمت المحلات الثقافية إلى صنفين كبيرين : صنف المجلات " البرجوازية اليمينية " التى تدين برأس المال وبالمحافظة على النظام الطبقى وتحترم الاديان السماوية ومن بينها - فى رأيك - مجلة " الاديب " البيروتية ومحلة " ايسبرى " الفرنسية ، وصنف المجلات " الوقورة " اليسارية التقدمية التى تصادمك " بالاحصائيات وجداول الارقام " والتي " لا ترى فى الحب سوى النسل وانتشار العمران ولا تتصور الادب الا ادبا ملتزما ... وتدين في الاقتصاد بالاقتصاد المسير وتعتنق اللائكية المطلقة وتعتبر الاديان السماوية مخدرات للشعوب وتعتنق في السياسة مقررات باندونغ والتعايش السلمي" ومن أشهر هذه المجلات - فى رأيك مجلة " الثقافة الوطنية " فى الشرق ومجلة " لابانسى " فى فرنسا ...
بقى بعد ذلك ان تتساءل عن الصنف الذى يمكن ان تنتسب اليه " الفكر " ترى هل هي يمينية أم يسارية ، رجعية متعفنة أم تقدمية نظيفة ؟ فكان منهجك لا النظر في محتوى المجلة بصفة عامة واستخلاص اتجاهها من مجموع ما ينشر على صفحاتها ومما لا ينشر ايضا ويجتنب عمدا بل التأمل فى افتتاحياتها وفيما تدل عليه من مواقف وتومئ اليه من اتجاه مذهب ويظهر ان " الفكر " استعصت عن الحد وضاقت عن كلا الصنفين فليست هى بالمجله اليمينية الرأسمالية ولا هي بالمجلة اليسارية الخادمة للتقدم ورفاهية الشعوب هي في منزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة اخص خصائصها بعد ذلك ادعاء خلاب النظريات وبراق المبادئ ثم الاغراق فى الغموض والهروب من المواقف الواضحة البينة ، وكانت الخاتمة تحمل من التفاؤل بمستقبل المجلة ومن حسن الظن باسرتها ما اراني مضطرا الى شكرك عليه ، الم تختم نقدك بقولك : " ولكن عهدى باسرة " الفكر " قد آثرت العظمة على السعادة " .
اريد بعد ذلك ان اصارحك باني اختلف معك في تقويم الاشياء اختلافا اخشى ان يكون جوهريا .
فليس من همى الآن ان اتناول المجلات الادبية بالبحث والمقارنة واتعرف الى ايها اقرب من التقدم وأدنى الى المثل العليا او ان انفي بعض التهم عن مجلة " اسبرى " مثلا تلك المجلة التى لا يقل ايمانها بالله عن ايمانها بالعدالة الاجتماعية والتي كان مديرها ومؤسسها " امانويل مونيي " مثالا فى الاستقامة العقلية والاخلاقية ومثالا فى الشجاعة والاخلاص الى المبادئ السامية رغم ما قاساه من مناف وسجون ايام الحرب العالمية الثانية مما ذهب بصحته واودى بحياته ، فاهل مكة ادرى بشعابها واسرة " اسبرى " اقدر على الدفاع واقوى على دفع الشبهة ... او ان ابحث عن الحدود التى تفصل واضح الفصل وابقاه " اليسارية " عن " اليمينية " والنزاعات التى قد توجد فى كلتيهما ...
وليس من همي كذلك ان انقد المنهج الذى سلكته للحكم على " الفكر " فقد اقتصرت على الافتتاحيات وما تساءلت هل يمكن استخلاص اتجاه عام من خلال المحتوى كما فعل مراسلنا الفاضل الاستاذ محمد صالح بن ابراهيم ، ولا ان انبهك الى ان شيئا مما اتصفت به المجلات الزائفة حقا من تزلف عظيم او تملق حاكم او اغراق فى الادب الباكى النائح او تكلف او ادعاء وتناقض لم ينشر قط وان في ذلك موقفا واضحا ووعيا لما يجب اجتنابه تمهيدا الى ما يجب الاقبال عليه والبحث عنه والتمسك به .
ليس همى كل ذلك بل غايتى ان اصارحك ان ما تراه ضعفا اعتبره انا قوة وضمانا للمستقبل ، فضعف المجلة ناشئ ، فى رأيك عن هروبها من الاختيار وترددها بين السبل التى تجدها امامها وانت تعتقد " انه لا مناص لها من ان تختار بين اسلوبى العيش والحكم والتفكير اللذين يقتسمان العالم في هذا النصف الثانى من القرن العشرين وهما بصورة اجمالية الاسلوب الروسي والاسلوب الامريكى ".
ضعف المجلة ناشئ ، فى زعمك " عن اقتصارها على ذكر الحرية والمساواة والعدالة دون توضيح الطريق الموصل اليها واكتفائها بترديد كلمة الديموقراطية دون بيان " الاسلوب " الذي به تتحقق الديمقراطية .
ويكفى لينقلب ضعف المجلة قوة ان نعتنق المذهب الشيوعي ، ولكن اى المذاهب الشيوعية هو ؟ مذهب تيتو ، ام مذهب شعب المجر ، ام مذهب الحزب الشيوعي بروسيا قبل وفاة ستالين او بعد وفاته ؟.. وان نختار اسلوب العيش والحكم والتفكير الروسي ، معنى ذلك انه يجب ان نطوي
مرحلة البحث والطلب طيا وان نؤمن بان الحب ليس الا النسل وانتشار العمران وان الادب ملتزم ؟ او لا يكون وان الفرد " كمشة مجهولة " امام المجتمع " الالة " وان الاقتصاد هو سر الحياة والمكيف لها وان نعتنق اللائكية المطلقة و " ندين " بان الاديان السماوية مخدرات للشعوب ... يجب ان نؤمن بكل ذلك وندعو له ونبشر به و " نجتره " اجترارا منتظرين الوحي من " موسكو " كلما جد جديد او حدث حادث ... بذلك يزول التردد وينقشع الغموض ونسمو من حضيض العاطفة الى سماء الفكر ...
انا لا ارى رأيك لان - اولا - لا اومن بانقسام العالم الى معسكرين بصورة نهائية اذ كل شئ ينبئنا اليوم بان الشعوب لا تحرص على شئ كما تحرص على استقلالها الفكرى والمحافظة على طرافتها الذاتية واخص خصائصها القومية وكل شئ يدلنا على ان امة من الامم ليست خيرا فقط ولا شرا فقط ، وعلى انها خاضعة - جميعا - للتطور مطيعة للتاريخ ودليل ذلك انه يوجد فى ما يسمى بالمعسكر الرأسمالى احزاب وكتل تؤمن بالعدالة الاجتماعية وتدين بالاشتراكية وتذهب الى ابعد حدود التضحية من اجل افكارها . انظر مثلا الى بطولة الاستاذ " مندوز " المدرس بجامعة " سترازبور " بفرنسا وما ناله من عذاب وسجن من اجل دفاعه عن الحرية والكرامة البشرية المهانتين فى الجزائر - كما يوجد فى المعسكر الشيوعي شعوب وافراد لا يبخلون بحياتهم ليقاوموا الاجنبى ولو كان روسيا بل انظر الى شعب المجر ... ولا يفرطون فى حقهم فى الحرية كفهم ذلك ما كلفهم .
ولا ارى هذا الرأى لاني اشفق على امتى من التقليد ولا اريد لها ان تلبس ما لم يقد على قدها ولا ان تعتنق غير ما تنتجه قرائح ابنائها وينبثق عن التربة المباركة التى انبتت امثال ابن خلدون ...
ثم انى اخالف هذا الرأى لاني اومن بالفكر في اسمى معانيه وانبل غاياته الفكر لا يشرف الا اذا " حل " فى الواقع وتسلط عليه واقتحمه وجها لوجه وعالجه حتى فجر اسراره وراضه حتى اذعن وتمذهب ، الا انه وقد قام بدوره وغالب الواقع فغلبه لا يفتر ولا يتعطل نشاطه بل هو يتجاوز المحدود ويتحدى المكانية والزمانية فاذا بوجوه جديدة للواقع فلا يلبث الفكر ان تعود اليه صولته ويكون الخلق متجددا .
وقد تقول : - ويكون قولك حقا - ان هذا المذهب لم نوجده بعد وان الواقع التونسى لم تتفجر اسراره الى اليوم ، وليس فى هذا ما يضيرنا او يشوب
نبل العمل الذى اعتزمنا ، اذ نحن لا نخلق الا ما نستطيع خلقه ، وليس فى سنة يمكن تلافى ما اهمله الاسبقون وحجبه صدا عصور الانحطاط وعهد التواكل والتخاذل ، انما الجهد والسعى والمثابرة معيار وسر النجاح ولا اظن ان التفاؤل يكون وهما اذا كانت الثقة فى النفس وكان الاخلاص فى العمل وكان الصدق فى تبين الحق وتعرف الخير وتحسس الجمال .
على ضوء ما سبق يزول ذلك الغموض الذي بدا لك فى افتتاحيات " الفكر " لان معناها هو ان هذا المذهب التونسي او المغربى الذى ننشده مهما كان فهو لن يكون الا خادما للانسان حافظا لحرمته ضامنا لحقوقه المقدسة فى الحرية والعدالة الاجتماعية ، وهذه المبادئ تصبح بمثابة " الموضوعات " فى الهندسة تقام على صرحها فلسفة برمتها كما اقام " اقليدس " هندسة برمتها على صرح موضوعاته الست .
الا يتبين لك بعد هذا انه يمكننا حينئذ ان نشارك الامم مرفوعى الرؤوس موفورى الكرامة لانا نكون قد اتينا بزادنا واضفنا الى تراث البشرية الخالد قسطنا المتواضع ؟ الا يتبين لك بعد هذا انه يمكننا أن نتعايش مع غيرنا من الامم مسالمين متحابين ؛ ألا يتبين لك ان فوزنا بمذهب تونسى او مغربى صميم لا يناقض تعلقنا بمقررات " باندونغ " التى تعلقت بها شعوب اخرى كثيرة لم " تختر " الاسلوب الروسى فى الحياة (اندونيسيا الهند ...)
لا شك ان " عهد الابراج العاجية " قد تولى بلا رجوع وانه اصبح من المتحتم على المثقف والاديب والفنان ان تشمل شواغلهم لا ميدانهم الضيق فحسب بل مختلف ميادين نشاط الانسان من سياسة واقتصاد واجتماع وتربية ... وان يتخذوا فى خصوصها جميعا موقفا صريحا ، ولا شك ايضا ان ساعة الاختيار قد دقت و " هي ساعة امتحان ومحنة " ولكننا اخترنا بعد ، نعم لقد اخترنا الا نذوب في غيرنا والا نعتنق مذاهب جعلت لبيئة غير البيئة التونسية واستنبطت من معطيات غير معطيات الواقع التونسي - ولو اكتفينا بتقليد الغير وترديد ما تنشره المجلات الاجنبية لوفرنا على انفسنا الاتعاب ولزالت حيرتنا واصبنا السعادة ، لكننا اخترنا تسليط الفكر على واقعنا واعمال النظر في مشاكلنا القومية والاعتماد على أنفسنا من أجل الظفر بمذهب تونسى صميم يكسب اعمالنا واقوالنا معنى ... لاننا بالضبط آثرنا العظمة على السعادة .
