كل يمشى مطرقا . ظلام فى رأسه ، وظلام فى قلبه ، وظلام فى عينيه . . الارصفة المبللة تمتد أمامه متعبة وتتوارى فى تلو وفتور وراء منعرجات الشوارع المقفرة ، والرياح ... رياح تشرين الباردة ، لا تزال تسرى فى مفاصلة بدبيب بردها القارس وتلسع أطرافه وصدره العارى ، بضراوة غاشمة . لقد خسر المعركة هذه المرة وخرج من حلبة الصراع ممزق الثياب ، مهزوما ، يائسا ، يتحسس فى رأسه جرحا غائرا وعيناه مرفأ لدمعات معلقة لا تفيض ولا تغيض . لماذا تنسحب هكذا فجأة كان من واجبك أن تقاوم ، أن تصمد لحظات على الأقل ، فلطمة على خدك ، أو ضربة بعصى على مؤخرتك لا تقتلك لا محالة ... لا بد أن جو الخلاف قد ازداد توترا وإلا لما خرج فى هذا الظلام تائها ، شريدا تجاه شوارع المدينة تملأ الافكار السوداء رأسه المحموم وتتسابق العبرات فوق وجهه الشاحب . لماذا هو لا ينور ؟ لماذا لا ينفجر أمام هذه العاصفة ؟ لماذا يطرق رأسه دائما وينسحب من الميدان .. أليس له الحق أن يدافع عن نفسه ولم لا .؟ . سيثور ... سيثور إذن ، وستكون لخطة محكمة هذه المرة ، فى المطبخ سكين حادة طويلة ، وفى الغرفة الاخرى بندقية صيد ذات فوهتين ولكن من يدرى .. ربما سيندم يوما ... ربما سيشعر بفراغ سحيق فى حياته الجديدة ومن قال .؟. ربما كان هو على خطأ وكانوا هم على صواب . وعلقت حبات غليظة من الدموع بأركان أجفانه المبللة ، فأسنند رأسه الى الجدار يبكى ثم أداره بتثاقل الى الوراء ليتأمل القرية القابعة في ضباب الظلام وهى تمتد هادئة نائمة تحت سوق الجبال يكتنفها الضباب ، ويخيم عليها سكون رهيب كمقبرة قديمة لا نصيب لها فى الحياة . . لقد برم فيها بالحب الذى ذاق طعمه مرا وبدأ يشعر بضيق الحياة على وتيرة واحدة ، وسلسلة الايام المتشابهة الرتيبة فى كنف الهدوء والوجوم ... لكم كان يتألم فى قرارة نفسه ، ويشعر بأنه خليق بالرثاء الشديد ، لاقامته فى هذه القرية الواجمة ، حيث لا أنيس له سوى ضجيج الاطفال وصراخهم ، ونعق الغربان السود ، وهى تحلق فى الفضاء بأجنحتها الهزيلة وتقف بالساعات الطوال ساهمة واجمة فوق الطلول الجرداء تبكى الدفء فى زمن الربيع ... لقد كان يحسد هؤلاء الذين يعيشون الحياة
بشكلها الآخر ... لا يمضغون القلق ولا تعتصرهم السآمة ... يقضون الليالى فى المسارح والحفلات الراقصة ، ويدخنون السجائر الرفيعة بزهو وخيلاء ، وكان ينظر الى نفسه ليرى فيها شابا قرويا ساذجا تملأ البلاهة قلبة وترتسم علامات الغباوة على وجهه الريفى الطويل كان يشعر تماما كأنه امرأة لا يلعب الورق ، ولا يدخن السجائر ، ولا يجيد حتى لعبة (( الديمينو )) البسيطة ... آه ما زال يذكر جيدا كيف دوت عاصفة من الضحك المتواصل وازداد الاصدقاء مجونا وسخرية وهم يلعبون الورق ويدخنون بتيه وغرور متضاحكين من تساؤلاته البلهاء : ما هو (( الرى )) مامعنى (( السبعة الحية )) وما هى (( الموجيرا )) ومن هو (( الكوال )) . وأحس بقطرات المطر تنزل ثقيلة باردة فوق وجهه وصدره العارى فانتابته قشعريرة هزت أوصاله بعنف شديد واكتست ملامحه وجوما ساجيا أضفى عليها شيئا من التجهم والعبوس فأطرق برأسه يبكى ثم استسلم لتيارات الحزن المتلاطمة مغمغما بكلمات بائسة فى وجه الظلام ، وانقشع الضلال فجأة وبرزت أمام عينيه صورة أبيه ثم اندفعت كلماته الى مسمعه حادة قوية كالقنابل :
* صابر أين ذهبت الليلة البارحة ؟ - الليلة البارحة .؟.. كنت نائما فى غرفتى يا أبى ... * حذار من المراوغة والدوران ... قلت لك أين كنت .؟. - ........................ * تكلم ... تكلم ... أيها الوغد ... أين كنت ؟
وتسمرت فى مكانى فاندفع مزيد من الدم الى وجهى واعترانى وجوم خدر نفسى ... ترانى ماذا أقول ؟ وماذا سأقول لأبى ؟ وقد أنذرنى مرارا وحذرنى ألف مرة من كتابه هذه الرسائل ، وبدأت أتخبط فى شتى الأكاذيب وأعتصر ذهنى بحثا عن وسيلة أبرر بها موقفى على أننى لم أجد بدا من الاصرار بأنى لم أغادر المنزل البتة ، ونفذ صبر أبى هذه المرة وثارت ثائرته فانجر مدمدما فى وجهى بكلمات ساخطة .. : أنا أعرف كل شئ ، سترى ... سترى أين كنت ؟ والتفت الى أخى وهو صامت فى ركن من أركان البيت واستدعاه مستفسرا إياه عن سر غيابى الليلة البارحة فأجابه الآخر بضعف متدثر فى قوة : (( أين كان ؟ أعرف يا أبى )) وصرخ أبى فى وجهه : (( سترى .. يا ولد الحرام حتى أنت تدنست
مثل سيدك )) وأشار الى أختى ، فأقبلت مسرعة من المطبخ بعد أن أطفات موقد الغاز ... أختى (( حياة )) تحب أبى كثيرا وتعودت أن تكون دائما معه صريحة وحين سألها عن سر غيابى تراجعت الى الوراء خجلا ثم رمقتنى بنظرة عاتبة تقطر أسى ومرارة وصرخت فى وجهى بعينيها الصامتين كأنها تقول لى : لم يعد بكفينى أن أقف بقلب موقف المتفرجة إن قلبى الآن لا يتفرح ... لا يسكت عن العبث والفجور فى منزلنا ... إنما يحترق ، يثور ، يتمزق .. الغلطة .. غلطتى أنا ... كان من واجبى أن أحيط أبى وأمى علما بما حدث من الليلة الاولى ... والتفتت إلى أبى حائرة مترددة فاعتراها شحوب واكتسى وجهها خجلا أضفى عليها شيئا من الجاذبية فأطرقت برأسها هنيهة ثم اندفعت كلماتها صريحة جهورية تشق الصمت : لقد رأيتهما الليلة البارحة فى الحديقة يتضاحكان ، وكنت كل مرة حين أضبطهما هكذا تبادرنى باسمة بالتحية والسلام ثم تبرر موقفها كالعادة : بنيتى مريضة جئت أبحث عن (( صابر )) ليكتب لى رسالة الى زوجى وصدقتها بادىء ذى بدء غير أن الليلة البارحة كانت كفيلة بأن ... وأظلمت الدنيا أمام عينى ، واشتعلت النار فى رأسى فنظرت الى أختى نظرة سقيم يرى الحياة من وراء نقاب الموت ثم اندلع غضبى شواظا من النار ... ولم أدر ما حدث كانت هى ملقاة على الارض وأنا منكفئ على وجهى قرب الجدار والدم يقطر من رأسى ، والكلمات تنهال على ضارية فاتكة من كل صوب وحدب ... وشعرت بحرقة الألم الطاغى تعصر قلبى وتملكتنى رغبة مجنونة فى الانفجار ، ولكنى سرعان ما ملكت زمام نفسى ، فنفضت يدى من غبار المعركة وخرجت من القرية تجاه المدينة ممزق الثياب ، محزونا تائها تصطفق الدموع فى أحداقى وفوق صدرى تجثم أثقال لا يقوى الزمن على حملها أو احتمالها . الشوارع تمتد أمامى مقفرة ، وخطواتى ما زالت تـ تـ تـ ـا بـ ع ثقيلة ... ثقيلة متداعية فوق الرصيف الممتد تحت أضواء الفوانيس الكهربائية الشاحبة ، وحبات المطر الغليظة ما فتئت تنحدر باردة قارسة فوق وجهى وصدرى العارى ولكنى كنت أمشى لا مباليا ، مشتبكا مع نفسى فى صراع دام مرير أريد أن أنقى دمى من أدران الرذيلة وأفصل نفسى عن ذلك الذئب الذى يعوى فى أعماقى ... آه هذه الخطوات المتعثرة اليوم ، كانت بالامس تشق طريقها نحو المغامرة ، ثائرة متحفزة للوثوب تذوق لاول مرة لذة التعثر فى سبيل القلب ، وتقف مترددة على أبواب العالم الآخر ، عالم المرأة الرائع على حد قولهم ... كانت تعترضنى ككل ليلة ، طلقة المحيا ، باسمة ، جميلة فنجلس معا على السرير وترتمى البنية الصغيرة بين أحضانى تأكل الحلوى
وتدفن وجهها الصغير فى فجوة عنقى وهى تكاد تطير فرحا ، كأنها تسأل من أين جاء هذا الحنان ؟ أو كأنها تبحث فى قلبى عن شئ اسمه الحنان الأبوى وتفتش فى ملامح وجهى المتعبة عن وجه أبيها المغترب فى (( باريس )) مدينة الضباب ، وتتملص من ذراعى ثم ترتمى بين أحضان أمها تسألها بصوت رقيق بللته الدموع : أمى .. أمى لماذا لا ينام (( بابا )) قربنا ... آه كم اشتقت اليك يا (( بابا )) أنت جميل يا (( بابا )) .. وتصرخ باكية : أريد (( بابا )) .. أريد (( بابا )) أريد أن أنام فى أحضانك يا (( بابا )) وتتعلق بذراعى من جديد ، وتسند رأسها الصغير الى صدرى ثم تطوق عنقى بيديها الصغيرتين وتغمض عينيها لتنام . وخرج ليلتها إنسان آخر من أعماقى ، وأحسست أن كل شئ فى قد تغير ، شئ كالدم الحار بدأ يندفع فى أعماقى ، خواطر جديدة بدأت تخترق رأسى ... وتيار من القوة كالشمس ، كالكهرباء ، كالربيع ، يزلزل كيانى ويجتاح أعماقى ، ولكنى كنت أكتمه وأبعد نفسى عنه : لا ... لا ... هذا هراء ... هذا جنون ... لن أحاول أنا أن أخدع امرأة فتحت لى باب منزلها حتى وإن تاقت نفسها إلى ٠٠ لا ٠٠ لا ٠٠ لن أدنس أنا حرمة غيرى هذا جنون . . هذا جنون . وتركتها متمددة على السرير تضع ساق على ساق وتترنم بهدوء مع صوت المذياع كأنها تكلمنى بلغتها المفضلة . . . لغة الصمت ثم تسللت خارجا من المنزل أشكو فى صمت شكوى النفس للنفس ، وأحمل فى أعماقى شخصية ناسك متعبد . . . وتبعتنى متعثرة الخطوات هذه المرة وعلى شفتيها كالعادة ظمأ شديد وفى عينيها شوق متوهج يوحى بألف رغبة ، ولكنى سرعان ما أوليتها ظهرى ، وتملصت من يديها ، ثم دفعتها بعيدا عنى منفجرا فى وجهها بصوت باك وتراجعت الى الوراء عائدة ، ولكن عند الباب تعثرت قدماها فى شىء لا أدريه هل هى رغبتها ؟ هل كان فى الارض ما يوقع فعلا ؟ وأسرعت نحوها ، ولكن الألم كان قاسيا ... فصرخت ، فاحتضتها لأساعدها على القيام . وشعرت بدفء صدرى ، وفشلت فى الوقوف ، فامتدت يداها تطوق صدرى وتضغطه ، ولامست أنفاسها الساخنة وجهى ، ولم أدر ما حدث ... كانت عضلاتى أنا الآخر تطوقها وشفتاى فوق شفتيها ، وانطفأ المصباح من هبة ريح ، وعم الظلام ، وتمردت رغباتى و ... و ... و ... . وقمت أتحسس طريقى فى الظلام ، أترنح كمن أصيب بجرح بليغ فى صدره ، وأسأل نفسى بدهشة عارمة وعجب شديد كأنى لا أصدق : أهذا هو الحب ؟.. هذه هى المرأة ؟.. أهذا هو الزواج ؟.. آه كنت أتصور أن الحب أسمى من الجسد وأن المرأة روح مقدسة لا مثيل لها .
وصف قطار منتصف الليل فجأة ودخل المحطة عربة تجر عربة تجر عربة تجر عربة تجر ... فانتفضت انتفاضة شديدة كأنى أصحو بغتة من تخيلاتى لأجد نفسى أذرع الشوارع ، تائها ، ظلام فى رأسى ، وظلام فى قلبى ، وظلام فى عينى ، وورائى ترتفع ثائرة مكنسة أمى ، وقبضة أبى الحادة ونظرات أختى اللاهبة وأمامى البرد ، والجوع ، والمطر .
* الصديق : الهادى بن عجينة الخالدى . طالب بباريس . مدنا بمقال لا بأس به فى الجملة رغم اقحامه بعض النظريات الجديدة من دون أن تكون له القدرة على السيطرة عليها بيد أننا نشجعه بنشر هذه الفقرات منه : (( خلق الثقافة ، وثقافة الخلق )) .
. . . فالصلة الوثيقة بين المجتمع والتربية ، وترابطهما الجدلى تترك وضع الفرد يمر عبر مصلحة المجتمع الذى يفرض بنظامه التربوى ثقافته مع هدف صقلها لاعداد افراده وتحضيرهم للمهام الآتية والمقبلة .
فالتربية بمعناها الشاسع والضيق تستهدف تغيير الفرد لادخال تغييرات فى المجتمع ، فانحصارها فى تعليم المهارات واعطاء تخصصات فقط بخيل بتهيئة جيل جديد للتطور الاجتماعى ، فان حتمية تطوير كل التجهيزات ، وتوفير التعليم المجانى ومحو الأمية ، والنشاطات التربوية على كل المستويات والتوجيه المهنى يطور الوعى الكافى على مقدرة التغير والنهوض بالمجتمع .
فالتربية بشقيها النظرى والعلمى لا تحافظ على الاستمرارية الثقافية فقط بل تجعل من أهدافها الاولى بناء شخصية الفرد بأبعادها المختلفة . فعليها إذن وهذا أكيد أن تلتحم بالحياة اليومية التحاما جذريا . ولا ننسى هنا ما لعبه النظام التربوى الاستعمارى لفرض ثقافته ولغته .
فهى إذن الأداة الجبارة التى تساعد الجماهير على معرفة ثقافتهم المتمثلة فى ماضيهم وحاضرهم فمحو التشويه اللغوي لا يتم مثلا إلا عن طريقها .
فالخلق الثقافى ، وخلق ثقافة دائمة ومستمر لا ينتج إلا عن بث الثقافة الصميمية أى القومية فى أفراد المجتمع بصفة عامة .
فانبثاق الخلق الثقافى مرتبط عضوا وعقلانيا بتعميم الثقافة مع إعطاء مفهومها الصحيح وتوفير كل الوسائل والاساليب الملائمة لبثها فى مجتمعنا .
فالتنظيم الثقافى الذى تقوم به وزارة التربية ووزارة الثقافة والتنظيمات الحزبية عليه أن يتم فى إطار توضيح الاهداف السياسية والاجتماعية .
فبناء الدولة العصرية التى نحلم بها ونعمل على إيجادها ، لا تتم إلا بتغيير فى المجتمع . والخلق الثقافى والتنمية هما أمران يتمان عن طول النفس ويعدل مسارهما عن المدى الطويل .
وإن توليد الوحدة النفسية والفكرية ووحدة الشخصية القومية مرتبط هو الآخر بخلق ثقافة حية . فمراقبة العروض الفنية هو أمر أصبح ضروريا حتى لا تتسرب لمجتمعنا ثقافات وأشكال تبعد البعد الشاسع عن حياته اليومية ، فالسنما السليمة والمسرح البناء المستمد من واقعنا القريب أشياء لازمة لتعديل مسار ثقافتنا .
فعلينا أن نشبع أفراد مجتمعنا بتاريخهم البعيد والقريب ، وان نحى لتأثير الفكرى لثقافتنا حتى نستطيع أن نرى مستقبلنا بوضوح .
فتراثنا الفكرى ، الذى هو ليس بشئ مجرد ، عليه أن يعبر من خلال تمثل واع لثقافة العصر بمتطلباتها التقنية . فتخليص ثقافتنا من الأوهام ، والخرافات ، والغيبيات أمر ضرورى وأكيد جدا لخلق ثقافة تستجيب لمفاهيم اليوم .
فعلينا أن نسلط التحليل العلمى النقدى على تراثنا حتى ننفض بعض الغبار الذى يعرقل نهوضنا بالفرد والمجتمع مع حرصنا على تدعيم ما هو إيجابى منه .
فالتطور الثقافى ، وخلق الثقافة الحية لا بد أن يتماشيا والنمو الاقتصادى حتى نبتعد عن التناقضات الناتجة عن تفاوت مجال لمجال آخر .
فالخلق الثقافى ، وثقافة الخلق فى مجتمع ما لا تعنى كذلك انعزال أفراده
عن المجتمعات الاخرى وثقافتهم بل الاخذ بعين الاعتبار تجاربهم الايجابية المختلفة فى كل الميادين .
فالنقل والتقليد ، والاجترار ما هى إلا أخطار ومزالق فادحه تذهب بريح ثقافتنا القومية .
فتقدمنا ، وتطورنا ، ونمونا ، وإحداث التحول السليم فى أفراد مجتمعنا عليه أولا وبالذات أن ينطلق على أسس متينة وصلبه تتمثل فى ترك سلبيات ثقافتنا وتنمية إيجابياتها .
ولا يغيب عن أحد منا ، أن الثقافة الحية مع حيوية عقائدها ومعتقداتها هى العمود الفقرى لكل شعب أراد أن يضحى ، ويعمل ، ويعد لتتحقيق مثل عليا .
* الصديق : حسن بن رمضان . المدية . الجمهورية الجزائرية . بعث الينا يقول : (( كنا سابقا نقرأ ونصمت ، لاعتقادنا أن عدسة المجلة (( الفكر )) لا تلتقط سوى الصور التى تريدها هى ، والنماذج التى تستسيغها هى ، لكننا رأينا أنها لم تضق بالفكر أيا كان مصدره ، ولا بالانتاج الهادف أيا كان مأتاه ، رمينا بقلمنا ضمن هذه الاقلام ..
فأملنا كبير فى ان هذه الصفحات سوف لن يرمى بها . وانها ستشارك أقلام كل الادباء الواعدة ، وكلنا ثقة أنكم سوف تفتحون لها مصاريع الشمس ، وشبابيك القمر لتنمو براعمها .
- وها نحن نفتح المصاريع والشبابيك ليتفتح البرعم فى قصيدة بعنوان (( عودة الربيع )) فى انتظار المزيد من المواعيد للقاءات أخرى معه :
ستأتى العصافير ترقص بعد رحيل الشتاء
ستأتى .. ويسقط عن أوجه الارض كل قناع
وتملأ كل الروابى زهورا .. وتهدى المحبة ، تعمل فى الظلمات اقتلاع ..
ستشدو العصافير فى قلب غابى ..
وترحل كل طيوف اغترابى ..
تزف قدوم الربيع ..
وتصنع ألف ربيع ..
ترحب بالكون تغرسه فى عيون الجميع ..
وتخلق فى الكون ألف قمر ..
وتصنع للعاشقين ألوف الجزر
وتبنى على عتبات السماء
دروب الصفاء
ويرتحل الحزن فى زورق الليل بعد انبلاج الضياء
* الصديق : ابراهيم الحمدى . المكناسى . تونس . وافانا بقصيد بعنوان : (( رسالة زيف حائرة )) نقتطف منها المقطع الخامس ونرسل به اليه على صفحاتنا ليرسل لنا بالمزيد من صفحات انتاجه الاكثر شذى ..
رحلت . . فمن يكتب الشعر عنك.؟ ومن سيصلى خشوعا اليك ؟
ومن سوف يبكى . . ويبكى طويلا.؟ ليغسل من دمعه قدميك . .
ومن يفرش الدرب تحتك عطرا ؟ ليملأ نور الهوى ناظريك . .
رحلت أنا . . من يحبك بعدى ؟ ويذبح قلبه بين يديك ؟
يود لو آن له ألف عمر . . فيفديك بالألف خوفا عليك !
* الصديق : محمود بن رجب . تونس . وقصته بعنوان (( والصراع لا ينتهى )) ننشر بدايتها فى انتظار الوافد من انتاجه الذى بدأ ينضج شكلا ومضمونا ...
(( غدا تبتسم أمى وتعود لها رغبة احتضان الحياة فى لذة . . غدا تطلق أمى التشاؤم وتتزوج الأمل وتدرك أن تضحيتها أثمرت ابنا ناضحا . . . رجلا فحلا . . . يذكرها بأبيه قدرة وكفاءة . . .
غدا تبتسم (( خديجة )) عندما ترانى عائدا مكدودا عفر وجهى غبار الفسفاط وترك العرق رغوة الملح على جبينى . . . ستحلم خديحة بيوم زفافنا . . . ستراه قريبا وسأملا حياتها كل لحظة . . .
غدا يبتسم اخوتى وأخواتى عندما تبتسم لهم مائدة تشبع وتنفع . . . ستضيق بطونهم امتلاء بعد ما كانت تعذبهم خواء . . . غدا أبدأ العمل . . .
وعد (( الجنيور )) قاطع . . لو كان عربيا لشككت في وعده أما وهو فرنسى فجنسه لا يعرف الكذب . . . أقواله صادقة كعقارب الساعة . . . وفرك (( عمار )) لحيته . . . ما زالت لينة . . . ستصلب وتضمر لطالما تحدث أهل القرية عن صعوبة العمل بالمنجم ونسجوا القصص . . . سيرهقه العمل ويكبر فى ربيع العمر ... لا بأس بذلك . . . يكفيه فخرا أن يقتل الفقر ويملأ البيت حياة ونعمة . . . ويكفيه اعتزازا أن يقهر الدهر ويبدل الاوضاع ما استطاع فمتى يأتى الليل وينتهى . . . متى يطلع فجر الغد الباسم . . متى تدق ساعة الانطلاق ايذانا ببداية المعركة الضارية . . . معركة الحياة . . .
لاح ضوء الشروق خجولا . . . فتثاءبت الطبيعة وتمطت فى كسل عندما أخذ عمار قفة وغادر الست . . . قفة دست فيها أمه كسرة خبز وقارورة صغيرة ملئت الى النصف زيتا . . . ومقدارا من حب الزيتون (( المملح )) ...
* شعر عمار بحدة البرد يلدغ أصابعه ويصفع وجهه مع هبات النسيم ... فتكاد ... دماؤه تتجمد ... كان البرد يوقظه من نومه مرات عديدة كل ليلة بوخزه القاسى . . ولكنه ما كان يتصوره جارحا بهذا النحو خارج الغرفة . . . ستمر الايام وسيشترى معطفا سميكا . . . وغطاء صوفيا وقفازا من الجلد... وهذه القفة . . . نظر اليها . . . خيوط الحلفاء تمزق بعضها . . . ولونها . . . آه من لونها أكداس من الاوساخ . . . سيعوضها (( بصاك )) صغير الحجم براق ... وبهت ... لماذا أصبح يفكر فى المستقبل بجدية . . . بل لماذا بدا له وضعه صورة قذرة . . . ما الذى جد فى حياته ؟ .. وتذكر ابن خالته الطالب بالجامعة ... تذكره يتحدث فى حماس وقاد (( الحياة بلا عمل فراغ . . . الفراغ قتل للطموح . . . الفراغ عقم . . . فكر فى عمل لتشعر بلذة الوجود . . . لتحس أن غيرك يحتاج يحتاج اليك وتحتاج اليه . . . وقتها فحسب يعمق شعورك بالمسؤولية . . )) وابتسمت . . . ابن خالتى يتكلم عن العمل بلغة الفيلسوف . . . بلغة المتفرج ... وينسى شيئا هاما . . . ينسى أن أماكن الشبغل تشكو اكتظاظا . . . لهذا يصعب عليه تصور أثر الفرحة الكبرى عندما تظفر بعمل . . . إن ألوان الحياة تحلو وتجمل . . . لكأنى ما كنت أراها من قبل . . . الحياة تبدو هذا الشروق فاتنة رائعة . . . أخاذة . . . لكأن العمل فجر ثورة فى أعماقى . . . ))
* الصديق : ابراهيم الصغير الخليفى . صفاقس . تونس . وهذه قصته بعنوان (( قطرات دم على الرصيف )) وقد وضع لها هذه الخاتمة .
(( خرجت من المدرسة لتجد نفسك بعد يومين تجر هذه العربية التى سرى الداء فى مفاصلها فتفككت الواحها . . كان صاحب الحقائب يسرع فى السير يبتعد عنك . . . ثم يترقبك .
- تحرك قليلا . . أنا أرانى ذبت بالشمس . . يا والله عملة !
كنتما بعد حين تدخلان المحطة ، الساعة الكبيرة تدق دقاتها الرتيبة .. قطار قادم من بعيد يملأ الفضاء صفيرا . . انتصب أمامك . . مسح صلعته بمنديله . . انزلت الحقائب وأخذت تخرط جبينك . . فتح حافظة النقود .. حزمة من الاوراق النقدية شدتك بجاذبية مغناطيسية . . لمعت عيناك ! تحلب ريقك ! عد صاحب الحقائب فأطال العد . . تسارعت دقات قلبك ! التفت حولك التفاتة سريعة . . (( وفى اموالكم حق معلوم للسائل والمحروم . . . )) تقدمت خطوة . . خطوتين . . ارتجفت مفاصلك ، برزت مخالبك ! قبضت على حزمة الاوراق بيد حديدية وجريت فى جنون . .
- واه فلوسى ! يا بوليس . . شد حواف . . شد . . شد . .
جروا خلفك : قف ! لم تقف . جذب أحدهم رجلك برجله فطرحك أرضا . . وجهك معفر بالغبار وفمك مملوء بالتراب . . الله اللكمات تأكل ظهرك . . وترنحت لتسقط من جديد . . . نظرت الى الاسفل فرأيت قطرات من الدم تصبغ الرصيف ، رفعت يدك الى جبينك . . فوقعت أصابعك على جرح عميق ..
