الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "المنهل"

" دنيا الشعر فى العالم "، الى الانحدار أم الى الصعود ?

Share

سامح الله اصحاب الصحف والمجلات فقد اعتادوا حينما يهمون باصدار عدد قيم ممتاز من صحفهم ومجلاتهم ان يقصدوا الى من يعرفون ممن يسهم معهم فى تحرير صحفهم ومجلاتهم ليكتبوا لهم ابحاثا ومقالات لتكون عددا مليئا بالغذاء العقلي والروحى وغير العقلي والروحى مما تحفل به الصحافة . . ودأب اصحاب

الصحف والمجلات ان يقيدوا كتابهم فى هذه المناسبات بمواضيع يحددون لهم عناوينها واهدافها . . ولعلهم مضطرون إلى هذا التقييد ، مثلا يكتب اكثر من مقال فى موضوع واحد ، ولئلا يطرق الكتاب ابحاثا تجهدهم . او غير ذلك من العوامل التى تقلل من قيمة العدد الذى ينبغي ان يشيع فى

الناس ويحفل به القراء ويقبلون عليه فى غير تردد ولا احجام ، ليجددوا عهدهم بين الحين والحين بالصحيفة او المجلة التى تعنى بهم وتمدهم بشتى الطرف والمطارف كلما وتتها مناسبة من المناسبات التى اعتاد الناس ان يجددوا فيها عهودهم التليدة . وان يقارنوا بين ماضيهم وحاضرهم ليعرفوا

مدى تقدم الحياة بوسائلها ونصيبهم من هذا التقدم وليقيسوا كذلك بين ما تحفل به الحياة من علم وفن وثقافة . ليدركوا نتيجة قد تكون مجهولة إلى حد ما او قد تكون غير ظاهرة من حيث المقياس الحقيقي ولئلا يكون هناك عامل من عوامل الحياة طغى على الاخر

فأثر في حياة الانسان من حيث تقدمه فى ناحية وانصرافه الى شىء واعراضه عن شئ آخر كان ينبغى ان يحتفظ بنصيبه فيه ولكنه لا يشعر بهذا الانصراف الشعور كله ، أو أن هناك تيارا يجذبه فيؤثر فيه تأثيرا فلا يدرى أهو مخطئ او مصيب فى اتجاهه ونهجه الذى يسير عليه .

وتبدأ مرحلة الكاتب فيعمد الى تكتيل نفسه ليكتب فيما عهد اليه ان يكتب فيه . . ويشعر بضيق الى حد ما لان من طبيعته على ما اعرف انه لا يحب ان يتقيد فيما يكتب لنفسه او للناس فهو انسان حساس ، واحاسيسه وما يختلج فى نفسه

هو الذي يملى عليه ما يكتب . ولذلك فهو لا يكتب الا اذا وجد استجابة تدفعه الى الكتابة ومن أجل ذلك فقد نجده مجيدا فيما يكتب اذا قيد بموضوع ما وقد لا يجيد الاجادة التى

يتوخاها أصحاب الصحف والقراء معا بالنسبة للعنوان الذي يكتب تحته وقد يكون له عذر لان من طبعه ان يكون حرا فى افكاره وآرائه واتجاهاته على التحديد . . ومهما يكن من شئ فصحاب الصحف قد استطاعوا ان يؤثروا على الكتاب وان تقوى بينهم أواصر العلاقة من نواحيها المتعددة وهذه العلاقة تقوي بحسن تصرف المشرفين على الصحف والمسئولين عن اصدارها وتضعف بعكس ذلك .

فكلما كانت سياسة اصحاب الصحف ديمقراطية سليمة قويت علاقة الكتاب خاصة بهم . . وكلما كانت ارستقراطية ، تباعد التعاون بين الجانبين واعرض الكتاب عن الصحيفة الاعراض كله . . والواقع ان علاقة الكتاب بالصحف علاقة يجب ان يسودها الوئام والتقدير الجم . ولكن ما حيلة الكاتب اذا كانت الصحيفة

ترى ان لها فضلا عليه مع ان الأمر بالعكس لانه هو الذي يغذيها بما تمد به القراء ، وهو كما وصفه الشاعر كالذبالة التى تحترق لتضئ لغيرها ، وقلما نجد كاتبا ذا عنجهية وصلف حيث يرى نفسه اكبر من الناس فيطغي عليه الكبر ، وهذا نادر ولذلك فمن يكون مقياسا بالنسبة لمن يحسن التفاهم والسعى للاصلاح ومسايرة الاوضاع التى قد تكون ذات اثر بالنسبة للصحافة ومجالاتها .

مرة اخرى يحسن بي الظن سيادة الاستاذ الانصاري صاحب هذه المجلة الغراء ويطلب الى ان اساهم في عددها المزمع صدوره . ويعدني من ذوى الاقلام حين يطلب الى ان اكتب في

موضوع ما . . وقد كانت الاولى عن النقد وقواعده ، وكتبت عن مقاييس النقد - بما قدر لي وما استطعت فى حدود طاقتى ، وكنت اشرت فى ذلك الى ان هناك وفي هذا البلد من هو احق مني بالخوض فى هذا المجال المتشعب النواحي والمختلفة فيه الآراء لما بين الكتاب والنقاد من اختلاف في الاتجاهات والنظريات .

وهذه الثانية وقد ترددت قبل ان آخذ في الكتابة في هذا الموضوع ، لانى رأيت ان الموضوع الذي طلب إلى ان اكتب فيه يحتاج الى جهد واطلاع واسع - وفي الأرض ثقافة كثيرة وعلم كثير - كما يقول الدكتور طه حسين ،  استعين الله الى الوصول فى هذا

البحث الى ما يرضى صاحب هذه المجلة وروادها ، ومن انا لأكتب عن - دنيا الشعر فى العالم - ؟ فما انا بطه حسين ولا العقاد وما انا من ذوى الثقافات الغربية والشرقية ليسهل على الانسياب الى اغوارها البعيدة المدى .

قد يكفى هذا التمهيد لندخل في صميم الموضوع ، وربما ان هذه المقدمة قد طغت عليه ، او ان الصفحات المخصصة لى محدودة فأوجد حرجا لاعادة الترتيب في صفحات المجلة .

والحديث عن الشعر في العالم معناه ان اطوف بالكرة الارضية ، بالقارات الخمس من آسيا إلى أوروبا فافريقيا فالدنيا الجديدة واستراليا ، وانا التمس العذر للاستاذ الانصاري لان سريع المواضيع يضطره إلى ان تتعدد الدواوين ليأتي العدد المنتظر صدوره شاملا لكل الابحاث الذي يجمعها الموضوع العام الذي من أجله خصص

ذلك العدد . . والأدب الغربي وغير الغربي قليل جدا من استطاع ان يدرسه الدراسة الصحيحة الحقة بلغته التى كتب بها . . ففي مصر مثلا لن نجد غير طه حسين والعقاد والمازني رحمه الله من استطاع ان يدرسه ويتفهمه كما يجب ، اما الباقون فلم يدرسوا سوى كتب النقد فقط او ما شابهها ، وكتب النقد هذه لا تمكن قارئها من الدراسة العميقة الواسعة . وان كنا نرى لبنان قد اخذ بنصيب وافر من دراسة الادب الغربي لانه كان اسبق الدول العربية الى دراسة اللغة الفرنسية وأدبها .

ندخل الى باب الشعر وهو كما يقول اكثر مؤرخي الادب سبق النثر وانا اميل الى هذا الرأي ، ونحن نعرف ان اليونان اسبق الامم كلها الى الشعر ويقال ان الشعر وجد في اليونان قبل الميلاد باثنى عشر قرنا ، والعرب لم يعرفوا الشعر الا بعد انتهاء حرب

" البسوس " ويقول الشاعر الكبير عزيز اباظة ) كان الكهنة وسدنة المعابد في اليونان يصوغون اناشيد الحرب ومزاميره للعبادة ، وكانوا يتخذون من سير الابطال وعقائد الدين مادة حفيلة بالمعاني لتلك الاناشيد لتكون سلوة الخائضين في وهج الوغي وترنيمة الخاشعين في محراب الصلاة وقد ترجم العرب كثيرا من علوم اليونان ولكنهم لم ينقلوا شيئا من ذخائر اليونان الادبية ( . .

انبتت بلاد العرب او جزيرة العرب فحول الشعراء ، وكان في العراق شعراء ممتازون فى عهد بني امية أى فى القرن الاول الهجرى ، وكان

شعرهم شعر جد كله لانهم شاركوا في الحياة العامة والحياة السياسية خاصة على حين ان الشعر في الحجاز كان طابعه الغزل لان الشعراء صرفوا عن المشاركة في الحياة العامة على

خلاف ما كان في العراق في ذلك العهد فاتجهوا إلى الغزل والوان اللهو ، وتواريخ الادب حفلت بهذه الأمور وصورتها على حقيقتها احسن تصوير . . وتطور الشعر فى الاندلس بما استحدث من التواشيح وابتكار قواعد الزجل ، وقد تأثر بهذه الالوان

بعض شعراء فرنسا . . وعنى الشعر العربى بالفلسفة بما هيأه له ابو العلاء واضرابه ، وما اضافه اليه شعراء الفرس من نزعات صوفية ، ولكن العرب لم يكن لهم نصيب فى الشعر التمثيلى والقصصى الا فى عهد شوقي وابى شادى وعزيز اباظة .

وازدهر الشعر العربي في عهد بشار وابن الرومى والمتنبي وابى تمام والبحترى وغيرهم ، ثم اتجه الادباء إلى الانطلاق من الواقع وظهر المذهب " الرومانسي " واكبر الظن ان هذا المذهب يمتد من الاندلس ، ثم توالت المذاهب الادبية بعد ذلك وكان لكل مذهب اشياع يتعصبون له ويدافعون

عنه واخذت المذاهب الادبية تزدهر في اوروبا ، واخذ الشعر العربي يتدهور فى محنته وفسدت اللغة العربية ، وفسد الذوق ، وانحدر من القمة التى وصل اليها في العهد العباسي ، ثم ظهر في مصر البارودى في آخر القرن التاسع عشر الميلادي الذي احيا الشعر العربى القديم وتبعه شوقي وحافظ ومطران وغيرهم في مصر وغير مصر

ثم عاد الشعر العربي الى نكسته الاولى بعد حافظ وشوقي ومطران والرصافي وظهر الشعر المهجرى وتعددت الوانه وتأثر بأدب الغرب وطابعه الشك فى كل شئ ولعل ذلك ناشئ من التأثر بالادب الغربي - وكان من دعاة التجديد فى الشعر المعاصر المرحوم الدكتور الشاعر - احمد أبو شادى -

وقد تعمق فى الثقافة العربية والانجليزية ودرس حركات التجديد فى الشعر الغربي وقد انشأ مدرسة شعرية تعرف بمدرسة - ابولو - وكانت تضم كثيرا من شعراء يدعون الى التجديد في الشعر ، ونشأت هذه المدرسة منذ ثلاثين عاما تقريبا ،

. واختلفت النزعات الادبية في الشعر العربى المعاصر اختلافا كثيرا كالنزعة الخيالية والفلسفية والثورية والتاريخية والغزلية والرمزية والرومانتيكية والواقعية والسريالية وتنقم المدرسة القديمة على المدرسة الحديثة لانها تستحدث فى الأدب العربى فنونا من البيان مشبعة بروح الغرب وثقافته " ) ١ ( . " والمدرسة

الحديثة جعلت الشعر العربي المعاصر كثير الالوان واثارت الخصومات حوله واختلفت الآراء في حافظ وشوقي ومعمران ومحرم وعبدالرحمن شكرى والعقاد وابي شادى وايليا ابي ماضى وعلى محمود طه وابراهيم ناجى والشابى والتيجاني بشير ونازك الملائكة وفدوى طوقان ومحمد عبد الغني حسن والصيرفى وجودت ومحمود

غنيم والاسمر وغيرهم من المجددين والمحافظين " ) ٢ (

ويحسن ان نتحدث عن مذاهب الشعر فى عجالة بقدر ما تسمح الظروف لان دراسة الشعر عامة تحتاج الى كتاب او اكثر لا الى فصل يكتب لينشر فى صفحات معدودة .

نحن نؤمن بالشعر - الكلاسيكى - لانه يخاطب القلب وهو يماز بقوة التفكير وسمو المعانى وروعة الخيال وهدوئه وفصاحة الاسلوب وسحر اللفظ ، وجاءت المدرسة الجديدة - الرومانتيكية مهاجمة للكلاسيكية . والرومانتيكية هى التى نسميها بالابتداعية " ، وضعف نشاط الكلاسيكية فى الشعر الغربي والشرقي على السواء ، وللمدرسة الرومانتيكية

انصار كثيرون في الشرق والغرب وقد اثرت في الشعر العربي تأثيرا قويا ، وظهرت هذه المدرسه فى فرنسا فى اواخر القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية ، وهذه المدرسة تتسم بالاوهام والخيالات والشرود والاشجان وهذا لون من الشعر وان كان قد

وجد استجابة لدى شعرائنا المجددين الا ان المغالاة فيه تنتج لنا شعرا لاروح فيه وليس للطابع العربى فيه اثر . وظهر المذهب الواقعى وهو يدعو الى ان ) الفن للحياة ( وينكر - الفن للفن - ) ٣ ( وشعت في فرنسا مذاهب ادبية جديدة فى القرن التاسع عشر ومنها المدرسة البرناسية التى تخضع الشعر لقواعد الوزن والقافية

والتقيد في الاسلوب ومذهبها ) الجمال للجمال ( وعندما ضعفت دعوتها خلفها المذهب الرمزي الجديد وكان سببا فى الثورة على التقاليد الشعرية والمذاهب الادبية ، والرمزيون يعتمدون على الغوص إلى اعماق النفس والعقل الباطنى عن طريق المخيلة ، واعتقد ان اكثر الشعر الرمزي ما هو الا خيالات وهمية وطلاسم ومعميات لا حد لها ، وقد تأثر بهذا المذهب شعراء كثير من المهجر ومصر والعراق والحجاز فى العصر الحديث ، ويقول الاستاذ احمد حسن الزيات في كتابه " دفاع عن البلاغة " انها صوفية حالمة ونوع من الحذلقة والاغراب .

وهناك المذهب " السريالي " ويقول فيه الاستاذ مصطفى السحرتى صاحب كتاب " الشعر المعاصر " : نزعة ادبية متطرفة الى ابعد حدود التطرف تدين بالحرية المطلقة والمجازفة المخيفة والخروج عن كل عرف وتقليد فهي فى الادب تنفر من موضوعات الفكر

الجارية ، وتحقر الاساليب السائدة فى اشكالها وصورها ومجازاتها وكلماتها وتسخر من العقل ومنطقه ، وجل الهاماتها من الاحلام والرؤى ودفعات اللاشعور الخ . . والسريالية نزعة فرنسية المولد أوحى بها - لوتريامو وتريمبو - وظهر في فرنسا ايضا المذهب الوجودى وداعيته الاول " جان بول سارتر " ويدعو الى ان الانسان حر في كل شئ غير متقيد بقانون يحد من حريته " .

ويقول الشاعر المصرى الكبير عزيز أباظة : " تسود القرن العشرين امواج فكرية تتسرب خلالها الوان متنوعة من

الشكوك " ويقول : " وفى الشعر الامريكي المعاصر نجد امثال دالاس ستيفنس وايلينور وجون رانسوم يتجهون الى الفلسفة وقد كان حظ شعراء المهجر من الانتفاع بالشعر الامريكى غير ضئيل ولم يكن لهم فكر ذاتي ويقول : " ان كثيرا من ادباء الغرب

لا ينظرون إلى الاديان نظرة ملؤها القدسية والاحترام وكذلك نرى شعراء المهجر لا يأبهون بتعاليم الدين ولا يحفلون بمراسم العبادة " . وله رأى فى الشعر الهجرى حيث يقول : " لم يفتح شعراء المهجر آفاقا جديدة فى الفن عجز عن الصعود اليها اخوانهم في لبنان ، وان الادب المهجرى لم يتبلور بعد ولم يتخذ له صورة واضحة المعانى بحيث يفرد له أثر بعيد المدى في تطور الادب العربي المعاصر . .

لقد ظهر في العصر الحديث شعراء يدعون الى نوع من الشعر سموه - الشعر المرسل - وهذا الشعر الذي يدعون اليه يتحرر من قيود القافية تقليدا للشعر - اللاتيني واليونانى اللذين لا قافية لهما ، وكذلك فهم يقلدون بعض الشعر الاوروبي الذي لا قافية له ، ويرى الاستاذ محمد فريد ابو حديد " ان

القافية غل متين يمنع من الاسترسال فى القول ، وان الشعر القصص والرواية الشعرية لا بد فيهما من ترك القافية او الاحتيال عليها ، وذلك هو علة وجود الشعر المرسل في لغة مثل الانجليزية " وقال : " للشعر المرسل عيبان أولهما انه يحرم الاذن من موسيقى القافية والثانية انه يحطم الحدود بين الابيات ، فمن اراد

الموسيقى والغناء فلا بد له من شعر موزون " ويقول الاستاذ العقاد عن الشعر المرسل " انه غير مقبول في الذوق " وراى الاستاذ الزيات ان الغاء القافية من الشعر يخمد الذهن ويجدب القريحة " ويرى الاستاذ السحرتي ارسال الشعر فى غير الشعر الغنائى - ويقول دعاة الشعر

المرسل انه قد مكن " شكسبير " من ان يترك سبعا وثلاثين قصة تمثيلية من أروع الشعر غير قصائده واغانيه ومقطوعاته الاخرى ) ١ ( وانا مع الاستاذ الخفاجي الذي يرى ان الشعر المرسل بدعة جديدة من تقليد دعاة التجديد للغربيين ولا مكان له فى الشعر العربى وتقدمه ، وهو لا يلائم ذوقنا الادبي ، ولو نظمنا عليه قصائدنا فاننا

نجده يزيل الفواصل بين الشعر والنثر ويجعل الآثار الادبية كلها من باب واحد وهو باب النثر ، على ان باب التجديد واسع ومجاله متعدد ومن اجل ذلك فنحن لا نصر على الدخول للتجديد من هذا الباب الضيق المحدود وحده ، والشعر القديم والحديث لم يعجزا عن تصوير شتى المعاني ولا عن نظم الرواية الشعرية الطويلة كما فعل ابو شادى وشوقي

وعزيز اباظة ، ولا عن نظم الملاحم كما فعل قديما " ابن المعتز " فى ارجوزته الطويلة في حياة الخليفة المعتضد العباسي المتوفى عام ٢٨٩ ه وكما فعل ابن عبد ربه فى ارجوزته الطويلة في الاندلس في الخليفة " الناصر لدين الله " المتوفى عام

٣٥٠ ه ، والمسألة الجديرة بالالتفات هى - عبقرية الشاعر ومواهبه الخاصة وحدها فهي كل شئ فى باب التجديد في الشعر ، واذا كان الشعر الانجليزى يميل الى ارسال القافية فما ذلك الا لقلة صور القافية فى ادب اللغة الانجليزية حتى كان " جون

ملتون " يذهب الى ان خير الشعر ما نظم بغير قافية ، ونظم " الفردوس المفقود " ليقيم الدليل على صحة رأيه والقافية امتحان لموهبة الشاعر ومقدرته وبراعته ، وسبيلها ان تعطى السامع الصوت المتسق الذي تتوقعه اذناه وليس في اللفظ الذي ينتظره .

وهناك ايضا دعاة الى الشعر الحر ، والحق انه يجب ان نتوسط فى الأمر بحيث لا تصبح الاوزان جامدة كما يريدها ) وردزورث ( ولا تتطرق اليها الفوضى كما يبتغي ) كولردج ( ومن الحق لشعرائنا ان يجددوا ولكن بقدر وفي اناة حتى لا يفجأوا قراءهم وسامعيهم بما لم

يألفوا وبما لا يمت للقديم بأي صلة ، وانما يكون ذلك بالاقتصار فى نظمهم على ما شاع من اوزان واهمال غيره اهمالا تاما - والشعر الحر ، دعوة خالية من كل معنى ولا اثر لها فى مستقبل الشعر الحديث .

وانا لا اجد المتعة الموسيقية التى تطرب الاذن وينساب في اثرها الذوق السليم في هذا الشعر الحر ، فأية متعة فى شعر بعض ابياته تزيد كلمات البيت الواحد عن العشرة

والبعض الآخر كلمة واحدة ؟ . . اننى لا اعارض في الدعوة الى التجديد والابتكار ولكن بقدر ما يلائم حياتنا ولغتنا وبيئتنا العربية الصرفة ، ثم هل مجالات الآداب الاخرى أوسع من الادب العربي ؟ هذا مالا اعتقده واظن انه لا يعتقده أحد يفهم الآداب على حقيقتها ، ونستطيع ان نقول ان بحور الشعر فى الادب العربي اكثر منها فى الآداب الغربية الأخرى ، فالبحور فى الآداب الغربية لا تزيد على الخمسة

بيد ان لنا ستة عشر بحرا ، وهناك كذلك الاوزان المستحدثة من عكس بعض البحور مثل " المستطيل والممتد والمتوافر والمطرد والمنسرد والمتئد الخ " ونجد كذلك طائفة تدعو الى طريقة - مجمع البحور - اى ان القصيدة الواحدة يجتمع فيها اكثر من بحر واحد في الوزن ، ونستطيع ان نعد هذا تقليدا للاوربيين ، لان بعض

الاوربيين نهض في آخر القرن التاسع عشر ليعلن عدم ضرورة الوزن للشعر ولقيت هذه الثورة انصارا فى الولايات المتحدة ، وبعض دول قليلة من شعوب اوربا وخاصة - بلجيكا - اما فى انجلترا وفرنسا فان هذه الدعوة لم تلق نجاحا ، ومجمع البحور لا يلائم الشعر العربي الملاءمة التى تحفظ له روعته وجماله وجرسه الموسيقى ، ولا تلائم الذوق السليم ،

واكبر الظن ان الدعوة اليه لن تنجح فى الشرق النجاح الذي يرجوه لها دعاتها ، واكاد اعتقد او اقطع ان ايثار الراحة والتكاسل والهروب مما يجهد هذه كلها هى الدوافع الى الشعر المرسل والشعر الحر ومجمع البحور ،

ثم يسمى لنا هذه الالوان الباهتة المريضة التى لا روح فيها - بالتجديد فى الادب العربى ، واذكر انى قرأت للاستاذ المعداوي يصف بعض هذا الشعر اذ قال : " انه أشبه بلغة البرقيات . ويقول " الدكتور طه حسين " فى هذا المجال فى كتابه - الوان - ) ان ادبنا العربي لا يهمل الاسماع اهمالا قليلا أو كثيرا وانما يعنى بها اشد العناية ، فهو ادب منطوق مسموع قبل ان يكون ادبا مكتوبا مقروءا (

وهو من اجل هذا حريص على ان يلذ اللسان حين ينطق به ، ويلذ الأذن حين تسمع له ، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والافئدة حين تصغي اليه .

وليس ادل على ذلك من ان العرب فى جميع عصورهم لم يعنوا بشئ قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته ، ورقيق الاسلوب ورصانته ، وقد جعلوا الاعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة فى الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه ، ويزين فى الاذن وقعه ، اساسا لكل هذه الخصال . .

وقد قلت آنفا اننا نقدر التجديد . . ولكن التجديد المعقول الذي يلائم بيئتنا العربية وامزجتنا واذواقنا ولغتنا ، وما يوصل الماضى بالحاضر ، لا ان نوجد ادبا ينكر ماضيه وعنصره الاساسى ، او يلزمنا بان نهجر تراثنا القديم ، وقد عرفنا الامم المتحضرة تحفل بتراثنا المجيد وتفخر به لانه يعبر عن ماضيها ويوطد مجدها التليد ، وادبنا العربي القديم والشعر خاصة هو الذي تثقفنا منه ، سيظل محفوظا ما حفظت اللغة العربية ،

واللغة العربية لن يقضي عليها لانها لغة القرآن الكريم والقرآن الكريم محفوظ ما بقيت الحياة الى ما شاء الله وذلك بنص الآية الكريمة " انا نحن نزلنا الذكرى وانا له لحافظون " . .

هذه صورة مصغرة عن الشعر ومدارسه وتطوراته ، والذي يستعرض تاريخ الشعر اليونانى والعربى والأوربى يرى ان الشعر بوجه عام قد تغير تغيرا كبيرا في اتجاهاته ومعانيه وأساليبه ، وانا لا استطيع أن اعد هذا التغير تقدما برغم التطور الذي نراه والتجديد فى الشعر

المعاصر ، وانا غير متشائم بالنسبة لمستقبل الشعر ، وفي الوقت ذاته فانا غير متفائل التفاؤل الذى يظن ان مستقبل الشعر سيكون الى الصعود والتقدم ، وفي كلا الامرين انا لا استطيع ان اقطع برأي في المستقبل المجهول لاننا لا نملك القدرة على فهمه ، لانه غيب ، وانما استطيع ان ارجح انني غير متفائل بازدهار الشعر فى المستقبل ومن أجل ذلك فانا ارد هذا الامر الى اسباب كثيرة اهمها :

ا - قلة المواهب وضعفها ب - اتجاه المفكرين الى العلم والمادة ج - الكسل الذي يعمد اليه المنتجون هروبا من العمل الذى يكلفهم جهدا وراء البحث والانتاج . د - ضعف التشجيع من الشعوب والحكومات في مجال الثقافة وقد اثر هذا فى المجلات الادبية حيث اخذت تختفي في السنين الاخيرة فى هذا العصر وكان ينبغي ان تتضاعف وتقوى وتنتشر في الارض . ه - الاستعاضة بالنثر في مواطن

كثيرة كان يطرقها الشعر من قبل . و - اتجاه الصحافة الى السياسة والانتاجات الضعيفة التى لا تحوى الا على الوان التسلية وما يرومه القراء من انواع الهزل وما يدخل عليهم السرور والضحك ، والهروب مما يشق عليهم وما يكلفهم جهدا فى الدرس والنقاش .

ز -السرعة التى اصبحت شعار الناس فى كل شئ بحكم تطور الحياة العامة واشتغال الناس بها ، وهذه السرعة التى يتخذها الناس هدفا لهم فى حياتهم العامة لا تتيح لهم التفكير والتأمل لان ظروفهم لم تعد تحتمل انفاق اوقاتهم فى شئ يرهقهم ويرون انه لا يعود عليهم بالنفع الذي تنشده حياتهم التى تفرض عليهم فروضا لم يألفها من كان قبلهم ، حتى اننا نرى رجل الشارع اصبح يستشهد بأنه فى عصر السرعة فى كل اعماله وان ظروفه لا تمكنه من مطالب كثيرة تبتغيها نفسه ، وهذه السرعة التى تتحكم في ظروف الناس لا تتيح لهم ان يقرأوا ادبا ذا نفع ، وهى كذلك لا تتيح للمنتج ان يخرج ادبا رفيعا بكل معاني هذه الكلمة .

ح - انتشار الصحافة السيارة التى تعنى بالخبر اشد العناية وكذلك انتشار الاذاعة والمسرح والسينما ، وهذه كلها اخذت في هذه الايام الأخيرة تعرض عن استعمال اللغة العربية فيما تقدمه للناس من ضروب اللهو والحديث لترضى رجل الشارع والفلاح والعامل الذين يمثلون سواد الشعوب .

ط - انا لا انكر ان الثقافة تغزو جميع شعوب العالم ، وان الوعى يتقدم تقدما مطردا ، ولكنها ثقافة تسخر في سبيل الحياة ، ثقافة مادية اكثر منها روحية ، ثقافة لا تعنى بشئون الفكر والقلب والروح العناية التى يتبادر معناها الى الذهن بمفهومها الصحيح ، ويقول الاستاذ السحرتى فى كلمة له بعنوان - محنة الادب المعاصر - " ان الشعر اليوم يتراوح بين كلاسيكية حقيرة ورومانتيكية مريضة ، لا باصالة الا فى النادر ، ولا طرافة ولا جرأة ، وسكن شعراء الحركة الابتداعية سكونا اليما وعجزوا عن مسايرة روح العصر الجديد اللهم الا ومضات تغطى عليها الظلمات " .

" وسوق الشعر والادب اليوم فى كساد ، والذين يؤمنون بالادب والشعر انما يفعلون ذلك ليتخذوا منهما مهنة يمشون بها بين الناس ، لا ايمانا برسالة الشعر والادب فى الحياة ) ١ (

وددت لو اتيح لي دراسة تراجم ومراجع عن شعراء الغرب وغيرهم من جميع مناحى الشعر لأقدم بحثا وافيا ، ولكن لم يتح لى لان ذلك يحتاج الى وقت اولا للحصول على هذه

التراجم ثم دراستها والى جهد ثانيا ، ثم ان المطلوب منى ان اقدم جوابى عن السؤال الذى وجه الى باقرب وقت ممكن ، ولهذا فانا موقن بان ما قدمت لا يسد العنوان الذى كتبت تحته وانا التمس العذر عن هذا النقص ممن تفضل وطلب الى ان اكتب - عن

دنيا الشعر فى العالم - واحسن بى الظن ، وهو كريم حقا لانه رفعني إلى مرتبة لا استحقها اولا استحق شيئا منها ، وعذرى ايضا إلى القراء الافاضل الذين لا يجدون في هذا الكلام ما يشبع رغباتهم ، وقد قلت فى هذا المجال ان هذا البحث يحتاج الى مجلد او اكثر لا الى فصل .

لقد هممت ان اعتذر للاستاذ الفاضل صاحب هذه المجلة عن الاستجابة لما طلب الى ، ولكن بعد أن مرت فترة من تسلمى للسؤال . . فاستكبرت العذر . . ومهما يكن من شئ فقد قلت رأيي والرأى الذى لاءمنى مختصرا في الشعر ومستقبله ، وانا حين اقدم هذا الرأى اتذكر قول ابي العلاء :

خذي رايى وحسبك ذاك مني .... على ما فيه من عوج وامت

عبدالفتاح ابو مدين

اشترك في نشرتنا البريدية