الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

دور الترجمة في تدعيم النهضة العربية

Share

عندما كانت اللغة العربية في عصور ازدهارها الاولى لغة الامة الغالبة التى حملت الى البشرية رؤية للكون جديدة . واكسبت العالم شحنة من الحياة قوية طريفة ، كان الافذاذ من الامم المغلوبة ينقلون الى لغة الضاد كل ما وصلت اليه لغاتهم من علوم واداب . فكان ذلك منطلقا للغة العربية لتفوق غيرها من اللغات وتبقى قرونا عديدة المنبع الثر للعلوم والمعارف ينقل منها ويترجم عنها .

ولما انكفأ أهل العربية على أنفسهم واخذوا يجترون تراثهم واغلقوا اعينهم عن كل بريق ياتيهم من اللغات الاخرى نضب معين المعرفة عندهم وتحجر الفكر وانتفي الخلق . فكان الترجمة بوجودها حية فى مجتمع ما ، عنوان لليقظة والتقدم ، وانعدامها يعد نذيرا بالتدهور والانحطاط .

وصادف أن صاحب عصر النهضة الاولى حركة للترجمة جد نشيطة فى عدة بلدان عربية فاوشكت أن تعبد النسق نفسه الذى عرفته اللغة العربية فى عصور ازدهارها الاولى . الا ان انتصاب الاستعمار فى البلدان العربية مشرقا ومغربيا وطغيان اللغات الاجنبية على الحياة العلمية واليومية وانصراف النخبة فى المعاهد والمؤسسات العامة والخاصة الى استعمال لغة الغاصب كل هذا غير وجهة الترجمة وجعلها منحصرة اثناء فترة طويلة ( اوائل القرن العشرين ) فى عناوين بارزة من الادب والفكر العالميين وبقى أهل الاختصاص فى العلوم الصحيحة لا ينقلون الى العربية الا النزر القليل وعند بروزهم في المحافل الدولية يميلون بالطبع الى استعمال اللغات الاجنبية .

وهكذا فان حركة الترجمة فى البلاد العربية من عصر النهضة الى اليوم لم تقم بالدور الذى كان عليها أن تقوم به لا فى مجال التدريس ولا التثقيف وبقيت متعثرة عشوائية ، ضاربة فى التيه .

ناهيك ان بعض البلدان العربية اختارت في التعليم والحياة العامة نوعا من الازدواجية واعتبرت ذلك فقط نجاة لها من القبوع فى مهاوى التأخر وربحا للوقت بسرعة الكرع من المنابع الاجنبية مباشرة معتبرة أن الترجمة قد تعطل السير أو تنحرف به الى منعرجات لا تؤمن التقدم ولا النهضة .

واذا كان ذلك أمرا ضروريا اذ حذق اللغات يعد بابا من أبواب التواصل بين الحضارات وسبيلا سريعا وناجعا لمواكبة العصر والبعد عن التأخر عن الامر المتقدمة فان الرحمة إلى .. ومن اللغة القومية لا مناص منه لاحكام هذا التواصل .

واذا كان من المفروغ منه ان اللغة القومية هى الاداة الاساسية لنهضة الامة وبواسطتها تزدهر عملية الخلق وخاصة بنقل العلوم والمعارف والاداب والثقافات اليها ، فانه لا مفر من المرور من مسلكين اثنين :

- اما اللجوء إلى استيعاب ما لم تحتو عليه اللغة القومية وهضمه ثم صوغه من جديد بشئ من التصرف ثم الابتكار وهذا لا يقدر عليه الا المختصون والقلة القليلة منهم ولا يؤثر على المناخ الثقافى الجماهيرى لانحصاره فى ميدان معين ضيق .

- واما الاتجاه الى الترجمة بالنقل الآلى المضبوط لكل ما يجد فى ميادين العلم والمعرفة بالاستناد الى الاقطاب وتيسير ذلك على أوسع مدى واكثره اتصالا بالجماهير .

بعيدا عن الترف :

فالترجمة اذن اداة ضرورية لتقدم المجتمع وليست كسلا حضاريا كما يدعيه البعض بل القبوع فقط فى لغة الاجنبى هو الكسل الحضارى وهو الرضا بالدون سواء بالنسبة للفرد او المجتمع وهو البقاء الى ابد الدهر فى تبعية مقيتة لا تنحل عقدتها لانها تحكم على اللغة القومية بان تبقى منحصرة فى التراث تدور فيه ولا تخرج عنه وتمنعها من الانتفاع بالافذاذ من ابنائها الذين ارتضوا الراحة والدعة فى لغة الغير .

وليس ادل على أن الترجمة هي ضرورية لكل مجتمع مهما كانت درجة تقدمه ، من رصد الامم المتقدمة لاعتمادات ضخمة من شأنها أن تنقل الى لغاتها كل ما جد من جديد عند الغير ( ثلثا الكتب المطبوعة فى المانيا الديمقراطية مترجمة ) وليست الاحصائية الصادرة عن الينسكو عن ترجمات الامم الا حجة للتأخر الذي يعانيه المجتمع العربى فى ميدان الترجمة فلا اللغة العربية تعد من اللغات المحظوظة التى يترجم عنها ولا هى من اللغات الاولى التى تترجم عن الغير وليس من الغريب أن نجد اعظم الدول واقواها هى المتصدرة للقائمة فى مجال الاخذ والعطاء عن طريق الترجمة .

فاول عمل يجب ان نقوم به هو اقناع المسؤولين وغيرهم بضرورة هذا العمل وجدواه لان الازدواجية التى يحلو للبعض أن يعدد مزاياها ، ومزاياها كثيرة لا محالة ، فائدتها بالنسبة للمجموعة اقل بكثير من عملية الترجمة ، لان الموظف او المهندس او اى مختص كان ، العارف بلغة اجنبية يستعمل هذه اللغة فى مهنة فينتفع وينفع حلقة صغيرة من الناس بينما الكاتب المترجم يتجه بالنفع والفائدة الى المجموعة كلها فينتقل بذلك من العمل النخبوى الى العمل الجماهيرى التثقيفى .

فالترجمة اذن ضرورية وليست ترفا ولا تغنى عنها معرفة اللغات الاجنبية المتقدمة اذ الترجمة :

- تضع جسرا بين الامم اساسه التواصل الذى من شانه ان يدعم التحابب بين البشر ويقر بالنسبة الى العلاقات التى تجمع بينهم أواصر التفاهم والسلم - تنقل حصيلة العلوم والمعارف والاداب التى هى فى الواقع رؤية خاصة للعالم تحملها اللغة ونظام طريف لمعطيات التجربة . - تدخل على اللغة الام ايقاعا جديدا يضفى عليها حيوية لم تعرفها من قبل (مثل كيلة ودمنة لابن المقفع) .

فالترجمة اذن عامل من عوامل النهضة وعنصر فعال فى السباق الحضار اهتمت به الامم قديما وحديثا ويجب علينا ان ندخله فى تقييمنا لدرجة تقدم الامة العربية فكريا ومستوى وعي جماهيرنا بقضايا العصر .

واذا كنا نتمسك اشد التمسك بأصالتنا ومقومات شخصيتنا ونوعية رؤتنا للكون فانه لا مناص من معرفتنا لما يجرى فى العالم لنفهمه على حقيقته ونتفاعل معه أخذا وعطاء .

وان من الاسباب المهمة التى ابقت الجماهير العربية متأخرة عن ركب الامم الاخرى هو ضآلة حركة الترجمة وتشتت الجهود المصروفة نحوها اذ تبين كلا وضوح ان ما تقوم به مؤسسات التعليم ليس دائما كافيا لرفع مستوى الجماهر وان عملا تثقيفيا يعتمد ايصال اهم تيارات التقدم فى العالم بكل صدق وبدون تشويه وسائل الاعلام وتمويهها وتبسيطها امر يحتمه الوضع والترجمة الامينة التى تعد مرآة لما يجرى فى العالم هى سلاح قوى من شأنه ان يوصلنا الى الغاية المرجوة .

الاستفادة من تجارب بلدان العالم :

وليس من شك في انه من الواجب معرفة حركة الترجمة بالنسبه الى بلدان أنظمتها وتمشياتها الثقافية وهل أن هذه الحركة عشوائية أم منظمة ؟ وهل انها بلغت فائدتها القصوى أم لا ؟ وهذا مهم جدا لانه علاوة على ما يوفم لنا من امكانيات توضيح الطريق فى مجال خطتنا فانه يمكننا من التفكير فى ربط الصلة بالجهات الساهرة على هذا الاختصاص وتوسيع افاق عملنا .

وكذلك يتعين معرفة واقع الترجمة فى كل بلد عربى من حيث مكانتها ومن حيث المترجمون والمؤسسات المعنية بهذا الموضوع وليس من المستحيل معرفة ما ترجم وتقسمه وان كان هذا العمل يحتاج الى مدة للوصول الى ما يرضى الدارس فانه يعطى فى أوائله فكرة عن مواطن الضعف .

ولقد مرت الترجمة فى تونس بمراحل عديدة فهى قامت في فترة الاصلاح لاولى عند تأسيس المدرسة الحربية بباردو ، بدور حضارى تواصل مع خير الدين ومع تأسيس المدرسة الصادقية سنة 1875 .

لكن النشر لم يكن مزدهرا بالدرجة التى أتاحت ظهور كتب جديدة مترجمة بل انحصر الامر في نخبة قليلة عرفت اللغات الاجنبية ومارست الترجمة فئات قليلة .

مطلوب خطة محكمة :

وما دام وضع الترجمة فى العالم العربى على هذا المستوى من الغموض والاستهانة فانه لا مهرب من خطة محكمة يقتنع بها الجميع ويحزمون امرهم على تنفيذها ولا يمكن ان تكون هذه الخطوة عملية الا اذا احدثت هيئة عليا للترجمة فى صلب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تعمل باتصال متين مع هيئات تبعث في كل بلد عربى ويكون محتوى هذه الخطة كالآتى :

القيام بعمل حثيث في كل البلدان العربية أساسه تحسيس الدوائر المسؤولة والمؤسسات التعليمية والثقافية بأهمية الترجمة وفوائدها فى النهضة العربية الشاملة . وذلك باستعمال كل وسائل الاعلام والاتصال بجميع من بهتم بالترجمة ويستفيد منها من قريب أو بعيد .

تقييم وضع الترجمة في كل بلد عربى بصورة منتظمة وجمع كل المعطيات التى تهم المترجمين والكتب المترجمة واصنافها عن طريق الايداع القانونى والمكتبات الوطنية ومكتبات الجامعات والملاحظ في هذا الشأن هو القيام بمقارنة بين ما تقوم به البلدان المتقدمة فى حقل الترجمة وما وصل اليه الوطن العربى .

التفريق بين عملين يخصان الترجمة : - العمل التعليمى المختص الذي يهم مؤسسات التعليم على مستوياتها المتعددة . - العمل التثقيفى الجماهيرى . والعمل الثاني هو الذي يهم المنظمة ويصرف عنايتها الى كل ما من شأنه أن يعرف الجماهير العربية بالتيارات الفكرية والعلمية فى العالم .

ضبط المقاييس التى على أساسها تتعهد كل هيئة بتحسيس المؤسسات المحلية لتقوم بعمل الترجمة . وهذه المقاييس يجب أن تأخذ بعين الاعتبار : أهم العناوين والمؤلفين الذين تترجم لهم البلدان المتقدمة ، والاهتمام بالابواب الآتية من المعرفة العامة : الدول العظمى ، الدولة القومية والتعاون الدولى ، والدور الجديد للدولة ، انتصار التصنيع ، المجتمع المصنع ، المجتمعات غير المصنعة ، التطور السكانى في العالم ، التفكير العلمي الجديد : العلوم الفيزيائية ، الانتاج الصناعي ( المواد الطبيعية والطاقة - التكنولوجيا العاملة وطرة استعمالها ) ، النقل ، تواصل الفكر ، وسائل التدمير ، والعلوم البيولوجية وتطبيقها ، تطور العلوم البيولوجية ، التغذية والفلاحة ، الصحة والسكان .

وعلوم الانسان والعلوم الانسانية : السلوك الانسانى والروابط الاجتماعيه ، الطفل والمنزل ، الوسط بالمدينة والريف ، الخدمات الاجتماعية .

المجتمعات وتطورها : تطور الافكار ، الهياكل الاقتصادية ، تنظيم المجتمعات ، المؤسسات السياسية ، المؤسسات العسكرية ، الاديان الكبرى ، التعليم

والبيداغوجيا ، وسائل الترفيه ( المطالعة - السنما - التلفزيون والاذاعة ، الرقص والموسيقى ، الرياضة ، الرحلات ) .

والشعوب وطموحها : الايديلوجيات ، أهم المجهودات فى ميدان الثقافة فى بلدان العالم ، أهم المجهودات الرامية الى تحرير الانسان وحفظ كرامته ( أهل الريف - العمال - المرأة - الاجناس ) .

والاداب والفنون : ثقافة العالم الغربى : الفنون المرتبة - العمارة - الموسيقى - الاداب - الوسائل الجماهيرية - ثقافة العالم الشرقي ( الاداب والفنون ) . وعلى هذا الاساس تختار كل هيئة الكتب التى ترى من الواجب التوعية بها وتحض المؤسسات المعنية على طبعها ونشرها .

الاعتماد على الناظم الآلى :

ومن المستحسن أن تعتمد المنظمة فى تنظيم خطة الترجمة على ناظم الالى الذي بامكانه بعد جمع الحاجيات وتبويبها وبرمجتها ان يكشف بوضوح عن مواطن النقص .

وكذلك التفكير في استعمال الاعلامية في ميدان الترجمة خاصة وان المعامل وصلت الى صنع جهاز يترجم بصورة آلية وان كانت هذه الآلة بسيطة فان السنوات المقبلة ستشهد تطويرا لها . ولهذا فانه من المستحسن ان تدرس المنظمة هذا الموضوع وتسير مدى ما يمكن أن يعين به هذا الاتجاه على تحسين وضع الترجمة .

تجتمع الهيئة العليا للترجمة مرة كل ستة أشهر للتعرف على مدى التقدم فى تنفيذ الخطة واخذ القرارات الملائمة للسير حثيثا نحو الغابة المطلوبة .

وهكذا يتسنى لنا ان نخرج بعد فترة ليست بالطويلة بما من شأنه أن يوضح لنا السبيل أمام هذا الموضوع الشائك .

اشترك في نشرتنا البريدية