بقيت مدينة تونس ، منذ فارقها ابن خلدون للمرة الاخيرة فى حياته ، سنة ( 784 ه 1382 م ) ذاهلة عن افكاره ومبادئه : لا تعيها ولا تتأثر بها . وتعاقبت الايام تزيد تونس ذهولا عن تلك الحكمة السامية التى تولدت داخل سوريها . ثم ان الاحداث الاليمة تعاقبت ، واشتد وقعها ، وتتابع وخزها ، حتى انهضت الهيكل الهامد وايقظت الفكر الذاهل . فاذا روح السعى للخلاص من الالم ، تدق فى قلب المدينة ، وتولد حركة رد فعل ، غايتها استعادة عقل وجأش يخرجان بتونس عن الوضع الاليم الذى ربطتها به الاقدار . فكانت مقدمات هذا الانبعات خطور افكار غامضة ، وذكريات مغيمة : من آثاره تلك الحكيمة ، التى سجلها قلم ابن خلدون ، وصية نازلة من الزمن الماضى الى الاعقاب الناشئين . فكان من هذه الذكريات مولد لفكرة الاصلاح : مس بيئة الحكم ، ومعاهد العلم ، ومنابع الادب .
فظهر فى النصف الثاني من القرن الثالث عشر ، ما كان اختفى تلك الاعقاب الطويلة ، مما فكر ووضح وحرر ابن خلدون . ظهر هذا الانبعاث لحكمة ابن خلدون الاجتماعية فى المحاورات حول الشورى والاطلاق ، والعدل والاستبداد ، والحكومة الراشدة والحكومة الجائرة ، واشترك فيها رجال : من امثال الكاتب المؤرخ احمد بن ابي الضياف ، والوزير مصطفى آغا ، والوزير مصطفى صاحب الطابع ، وما كان جميعهم الا تلامذة متخرجين بطريق غير مباشر بين يدى ابن خلدون . درسوا مقدمته ، وطالعوا تاريخه ، وجعلوا افكاره رائدهم فى النظر والعمل . وان الذى يطالع كتابة ابن ابى الضياف بصفة عامة ، وتاريخه بصفة خاصة ، ومقدمة ذلك التاريخ بصفة أخص ، يوقن بان الكلمة التى خرج ابن خلدون وهى متلجلجة على لسانه ، قد نطق بها مفصحا قلم ابن ابى الضياف بعد ان هزت محاورات المسؤولين حول المشير الاول احمد باشا في مرجع الحكم الاعلى . ودخلت نظريات ابن خلدون فى صراع : اذ تنكر لها المتشبثون بالتقاليد او المنتفعون من الاوضاع المختلة . وجرت الحروب القولية الباردة حول تلك النظريات . وعرفت مواقع مخسورة ومواقع رابحة . الى ان كتب لها الفوز المبين فى اعلان عهد الامان سنة 1274 ه - واذا كان بعض المؤرخين يرى فى عهد الامان انتصارا للفكرة الغربية ، وآخرون يرون فيه امتدادا للنهضة العثمانية ، فانه لم يكن في الحقيقة الفكرية الا انتصارا لشيعة
ابن خلدون ، وانبعاثا لحكمته . وبرز فى تاريخ عهد الامان الوزير خير الدين فكان ، فى منهاجه السياسى ، الصورة المثالية النابعة من مقدمة ابن خلدون وتاريخه . وكان ، فى تفكيره وبيانه وحجاجه في سبيل منهجه ، كلمة ابن خلدون بعينها ، قد ألقيت من جديد على لسان ذلك المفكر الكبير خير الدين، الذي ابدع فى احياء المذهب الخلدونى وتجديده وتطبيقه ، ونشره في كتابه العجيب (( أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك )) ثم كون اللسان الادبى لتلك الحركة الفكرية شاعر الخضراء الاعظم : محمود قابادو وفي ما تغنى به من مبادىء النهضة ، وما دعا اليه من تجديد الفكر ومناهج التعليم ، وما أشاد به من عبقرية خير الدين واصحابه ، منهجا ادبيا بديعا ، رسم الحكمة الخلدونية فى صورة طريفة رائعة وخلد العبقريات الباهرة المنبعثة بروح تلك الحكمة - فعلى ذلك أتم القرن الماضى أيامه متأثرا ببعث ابن خلدون .
ولما نزلت بالبلاد القاصمة ، التى قلبت مظاهر حياتها ، وقطعت تسلسل تاريخها وهى قاصمة الاحتلال الفرنسى . وتوالى بعدها على جسم الشعب التونسى ما توالى : من الوخزات المؤلمة ، تطلع المفكرون من اهل تونس وهم يومئذ بقية العصابة الاصلاحية التى تشتت بوقع الاحتلال الفرنسي وعظمت حيرتهم فى سلوك مسلك الخلاص فاتجهوا بادىء ذى بدء ، الى الارتباط بحركة العروة الوثقى ، التى دعا الى تأسيسها السيد جمال الدين الافغاني سنة ( 1299 ه 1882 م ) وسرعان ما تعطلت تلك الحركة فتجددت الخبية بتعطلها وبقى الاتصال وثيقا بين رائد تلك الحركة الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده ، وبين الرجال الذين يكونون فرعها في تونس . فلما عدل الشيخ محمد عبده عن مسلك الاصلاح السياسي العاجل ، الى سياسة الاصلاح الديني والاجتماعى تبعه المصلحون بتونس . فعدلوا عن منهج الارتجال الذى كانوا قد بذلوا في سلوكه ، وهو منهج المقاومة العنيفة ، واتبعوا منهج الاصلاح الديني والاجتماعى وهو المنهج الذى كانت كلمة الوزير خير الدين ، الباقية بين ايديهم في كتابه الجليل اقوم المسالك ، متجاوبة فيه اى تجاوب مع الدعوة التى بنى عليها منهجه الجديد الشيخ محمد عبده فكان دعاة هذه الفكرة الاصلاحية بين خريجين من المعهد العتيق : جامع الزيتونة الاعظم ، متشربين لمبادئ الاصلاح التى بنيت عليها التطورات الداخلة على التعليم الزيتوني في وزارة خير الدين، وبين متخرجين من المعهد الناشئ الذى انشاه خير الدين ونفخ فيه من روحه وهو المدرسة الصادقية . فكان تلاقي هؤلاء وهؤلاء في صدر القرن الرابع عشر ، بعد رجوع الجيل الاول من خريجي الصادقية من مواصلة تعليمهم بفرنسا ، التحاما للشقين المتحدين في مبدأ التعصب للوزير خير الدين ومناهجه ، وكان على رأس الزيتونيين الاستاذ الكبير الشيخ سالم بوحاجب والكاتب الشهير الشيخ محمد السنوسى . وعلى رأس الصادقيين عبقرى الشباب وبطل النهضة الاستاذ البشير صفر .
وخططت هذه النخبة منهجها العملي ، وابرزته للناس فى صورة جريدة عربية اسبوعية ، هي اولى الجرائد غير الرسمية في تاريخ الصحافة التونسية . وهي جريدة الحاضرة التي صدر عددها الاول في ذى القعدة سنة 1305 اوت 1888 . وبذلك تجددت الدعوة وشاعت ، ثم تأيدت وانتشرت ، بتظاهر جريدة (( الزهرة )) مع جريدة (( الحاضرة )) والتأم عليها عنصر بارز من الراى العام المثقف . فتطلعوا الى الطريق الاقوم لتحقيق مبادئ تلك الدعوة وهى المبنية على المناهج الاصلاحية التى فصلها خير الدين ، وقامت على مجملها أسس الدعوة الاصلاحية ، من عهد قابادو . وذلك بادخال لقاح ، من العلوم الكونية ، على الثقافة الاسلامية . فصح العزم على تكوين جمعية للعمل على بث العلوم العصرية باللغة العربية . وبمجرد اتمام العزم على تكوين هذه الجمعية ، فكروا فى تسميتها : فوجدوا انها تحمل فى كيانها عنوان نسبتها . اذ لم يكن الا اثرا من اثار دعوة خير الدين وهى ليست الا فرعا متولدا من فلسفة ابن خلدون . فلذلك سموها (( الجمعية الخلدونية )) تسمية متبادرة الى كل ذهن ، لا مجال للنظر فيها ، كتسمية فلان ابن فلان . وبرزت الخلدونية 1314 ه الموافق لسنة 1896 م وافتتحها الشيخ سالم بوحاجب ، بمحاضرة جعلها درسا علميا في تفسير قوله تعالى : ( وعلم آدم الاسماء كلها ) فبين ان الله جعل العلم سببا لاستخلاف آدم وبنية في الارض . فلا عجب ان تبقى الخلافة متنقلة فى نسل آدم على حسب حظهم من العلم ، تنزع من الجاهل وتعطى للعالم . وبين منزلة العلوم الكونية من العلوم الدينية ، وتوقف كثير من معانى القرآن ، واوجه اعجازه ، على معرفة تلك العلوم ، والوقوف على اطوار الاكتشافات فيها فلذلك كان تقدم الاسلام بتقدم هذه العلوم وتلاشيها بين المسلمين وسارت الخلدونية على خطتها العلمية في اشاعة العلوم الطبيعية والرياضية ، ودراسة العمران الانساني ، ووسعت دائرة المعرفة بتعليم اللغات ، فتولدت عنها النهضة الصحفية ، وحركة الاصلاح الزيتونى ، وفكرة الاصلاح الدينى ، وتقويم النظر فى القوميات ، واحياء روح المطالبة والاحتجاج ، ومقاومة روح الخنوع والاستسلام . بما جعل تكوين هذه الجمعية اساسا للتاريخ الفكرى والادبى والاجتماعى ، فى حقبة طويلة من عمر البلاد التونسية . وكان اقرارا لما يدعو اليه ابن خلدون ، وتخلصا مما كان ينعاه على وطنه العزيز
وتسلسلت من هذه الحقبة مراحل النهضة التونسية ، فى عامة مباديها . فكانت فلسفة ابن خلدون مادة لمذاهبها ، واتسم ابن خلدون علما على غاياتها ومراميها
واستمرت الخلدونية عهدا طويلا ترتبط بابن خلدون ، هذا الرباط المقدس فى الاسم والتوجيه ، بدون ان تقوم بعمل فى الوفاء بذكراه ، وتوجيه الجيل الى اجلاله والاستمداد من عظمته حتى كانت رئاسة الاستاذ عبد الرحمان الكعاك للجمعية الخلدونية ، وعمله فى ربط النهضة الادبية بماضى البلاد الفكرى فاصطنع ، بعبقريته النادرة ، فرصة لاحياء ذكرى ابن خلدون ، بمناسبة مضي ثمانية قرون على ميلاده بالتاريخ المسيحي . وكان ذلك سنة 1932 م - 1350 ه فكان مهرجانا بديعا . وموسما علميا ادبيا . تتابعت حفلاته اسبوعا كاملا . ابتدأت يوم الجمعة 29 افريل وانتهت يوم الخميس 6 ماى . فحفلت بالدراسات والخطب والقصائد وتقرر فيها وضع لوح تذكارى على البيت الكائن بنهج تربة الباى رقم 47 باعتباره البيت الذى يظن ظنا راجحا ان ابن خلدون ولد فيه . وقد اعد ذلك اللوح فعلا ولكن لم يكتب له ان يوضع على البيت وهو البيت الذي تشغله ، اليوم ، المدرسة القومية للادارة التونسية . ووقع التقدم الى البلدية بطلب اطلاق اسم ابن خلدون على شارع ذى اهمية من شوارع المدينة . وبقى هذا الاقتراح ايضا لا يحظى بجواب . حتى كانت الاحداث السياسية التى حملت حكومة الحماية يومئذ بتونس اتباعا لحكومة فيشى الفرنسية ، على قطع دابر الماصونية وآثارها من تونس . فابدل اسم نهج كان معروفا باسم محفل ماصونى " الحقيقة " ووقع الالتفات بتلك المناسبة ، الى الاقتراح الذى كانت قدمته الخلدونية منذ سنين فسمى ( نهج ابن خلدون ) في سنة 1941 م . 1360 ه .
وكان من لطائف المناسبات ان صادف اقامة مهرجان ابن خلدون سنة 1932 م 1350 ه وجود فرقة تمثيلية مصرية بتونس على رأسها فاطمة رشدى وفيها من اساطين المسرح عزيز عيد ، وعباس فارس ، وزينب صدقي ، وحسين رياض ووجود آخرين من رجال الادب والصحافة فى البلاد الشرقية الشقيقة منهم الرحالة محمود خير الدين الجليمي فكان اشتراك هؤلاء في اسبوع ابن خلدون زائدا فى رونق الذكرى وجلالها ، ومعينا على تكوين روح امتياز للمأدبة والسهرة ، اللتين ختم بهما اسبوع الذكرى . ولعل انغاما مما فاضت به روح الانس فى تلك الليلة ، وبدائع من نكت الاحاديث العذبة ، التى ملأتها ، لم تزل مترددة اصداؤها ومجاليها فى نفوس الكثيرين من امثالى ، مستتبعة عقابيل من مرير الشعور بما تصرم ذلك من زمان طويل فياحسرتا . . .

