بعدما قررت كتابة الدولة للتربية القومية تأميم مدرسة التمثيل وإلحاقها بالمعهد القومى للموسيقى ، فاصبح المعهد القومى للموسيقى والتمثيل والرقص (سنة 1959) . واقتضت من تلاميذ هذا الفرع الجديد أن يتفرغوا الى تعلم الفن المسرح فى نظرياته . وتطبيقه ، دون تعاطى أى عمل سواه ، وجب البحث فى مصير هؤلاء التلاميذ وما ستكون الابواب المفتوحة فى وجوههم بعد انتهاء مدة التعلم ، وتحصلهم " شهادة الفن المسرحي ، . ذلك لان المنظمتين الرسميتين الموجودتين بالجمهورية التونسية - اعنى الفرقة البلدية للتمثيل وفرقة الاذاعة الوطنية ، لا تستطيعان تحقيق العمل لجميع خريجي المدرسة . فوقع عندها التفكير فى احداث اطار من المرشدين الفنيين للمسرح ، على غرار اطار معلمى الموسيقى بالمعاهد الثانوية ، وتكليفهم بتلقين الفن المسرحي بنفس المدارس .
ولما تأسست كتابة الدولة للشؤون الثقافية والاخبار ، وصار التمثيل من مشمولات انظارها تبنى الاستاذ الشاذلى القليبي هذه الفكرة ، وبعث بالفوج الاول الذى خرج من المدرسة بعد تأميمها لقضاء مدة تربص بالفرقة البلدية قبل آن يرسل الناجحين الى المدارس مثلما تقرر . (اكتوبر 1962)
ولم تكد تبتدئ مدة التربص هذه حتى صدحت الابواق والمذاييع بخطاب فخامة رئيس الجمهورية (7 نوفمبر 1962) فى هذا الموضوع . فبين فخامته اهمية هذا الفن ، وتحدث عن الدور الذى مثله في حياة الامم الراقية ، واثره فى مقاومة التخلف ورفع المستوى الذهنى والثقافي بين الشعوب ، ونادى باصلاح التمثيل بالجمهورية التونسية على قواعد صحيحة ثابتة يضرب بها حد للإرتجال ، والاشتراع الشخصى ، والاكتفاء بالدون . وأهم هذه القواعد هى : ثقافة مزدوجة متينة اذ لا تمثيل بدون ثقافة عامة صحيحة وبدون معرفة اللغة العربية معرفة كاملة ، وبدون حذق لغة او لغتين اجنبيتين على الاقل كي يمكن الاطلاع عما يجرى فى هذا الميدان بالبلاد التى اشتهرت بالفن المسرحي وانبتت رجالا دوخوا العالم سواء بتاليفهم او بقيمهم كممثلين او بابتكاراتهم في الاخراج .
والقاعدة الثانية التي نادى فخامة الرئيس بتطبيقها هى نشر الثقافة
المسرحية بين تلاميذ التعليم الثانوى وتلميذاته كى نربى فيهم ملكة الاقدام والخطابة وننمى فيهم الذوق الجمالى ، ودقة الملاحظة والنقد النزيه ، فيتكون منهم الجمهور الواعي الذي لا يرضيه تقديم السخافات التى كثيرا ما شاهدناها على مسارحنا سواء من حيث التأليف او من حيث التمثيل او من حيث الإخراج ، ونجد من بينهم ذوى المواهب الكامنة ، فنبرزها ، ونشجع أصحابها على تعاطي مهنة التمثيل التي لا تقل أهمية على أية مهنة أخرى من المهن الشريفة .
وقد كنا طالعنا ، فيما طالعنا عن الفن المسرحي ، كتبا كثيرة تتعلق بنشر هذا الفن بالمدرس ومنظمات الشباب وخصوصا المنظمات الكشفية والاندية الثقافية . وأهم هذه التآليف كتاب ليون شانصر ال (1) "دور الالعاب التمثيلية في تكوين الشباب" ، فأثار اهتمامنا الى أن شرعنا في نقله للغة العربية بأعانة بعض الشبان الولوعين بفن المسرح .
وقد طربنا كثيرا عندما شاهدنا ما جاء بخطاب فخامة الرئيس من تأييد لما قرره السيدان كاتب الدولة للتربية القومية وكاتب الدولة للشؤون الثقافية والاخبار من بعث المسرح المدرسي ومسرح الشباب . وهكذا تكونت من النصف الثانى من السنة الدراسية الفارطة فرق مسرحية بغالب مدارس العاصمة الثانوية للذكور والاناث كلف بتدريبها جماعة من الممثلين الاكفاء ، سواء من القدماء او من خريجي مدرسة التمثيل ، وبعث بالخريجين الجدد فى خمس ولايات . ومن بداية السنة الدراسة الحاليه عم تعليم الفن المسرحي بجميع المدارس الثانوية بالعاصمة ومختلف بلاد الجمهورية . ونحن واثقون من ان هذه التجربة التى تسهر عليها كتاب الدولة للشؤون الثقافية والاخبار سوف تأتي في القريب بالنتيجة التى يريدها فخامة الرئيس
غير أن هذه التجربة لا تكون كاملة ، ولا تأتى بالثمرة المطلوبة ، الا اذا شملت جميع منظمات الشباب وعلى الاخص المنظمات الكشفية ومنظمتنا القومية العتيدة : قرى أطفال بورقيبة ، فبهاتين المنظمتين يمكن تطبيق ما جاء فى كتاب ليون شانصرال من طرق لتربية الطفل جسميا وعقليا بالالعاب المسرحية ،
فبرامج التعليم داخل المدارس ممتعة ، متشعبة ، مرهقة ، يتجاوز تطبيقها الثلاثين ساعة في الاسبوع حضورا بالاقسام زيادة عن العمل المنزلى او بصفوف المراجعة ، وما تقتضيه من حفظ دروس ، وحل مشاكل ، وفهم
نظريات الى غير ذلك . ولذا يتعذر عليهم افراد اكثر من ساعتين او ثلاث ساعات في الاسبوع لتعلم الفن المسرحى . وهم يستنكفونه اذا اكتسى صبغة جبرية او شبيهة بالجبرية .
اما في الحركة الكشفية، وبقرى أطفال بورقيبة ، الراجعة بالنظر الى ادارة الشباب والرياضة ، وبدور الشعب التى أنشأتها كتابة الدولة للشؤون الثقافية والارشاد فان العمل المسرحي يكتسى صبغة لعب . وهذا ما قصده شانصرال بتسمية كتابه " دور الالعاب التمثيلية في تكوين الشباب . فهو يتناول الالعاب الرياضية التى تكون فيهم مرونة الحركات وجمالها . ويتناول التمرن على المبارزة ؛ ثم على استعمال الاسلحة على اختلاف انواعها وعلى السباحة ، وركوب الخيل ، والملاكمة والجمباز للاعداد البدني ويجعل الاطفال والبنات يؤلفون وحدهم ، فرادى او جماعات . مسرحياتهم الصغيرة ، وينسقون حواراتها . وحركاتها الباطنية والظاهرية ، وتحركاتها ، كل ذلك تحت رقابة مرشد فني يقتصر على توجيههم نحو النقط التى لا يعرفونها او لم ينتبهوا اليها .
وهكذا تتكون فيهم ، الى جانب المرونة البدنية ، ملكة الاستحضار والارتجال ، وسهولة التعبير .
وليس القصد من هذا العمل التربوى الكبير ان نجعل من كل شبابنا ممثلين وممثلات ، وانما الغرض منه هو ما ذكرنا من تنمية جسم الطفل وعقله وصقل مواهبه وعلى الاخص ما لاحظه فخامة الرئيس بخطابه العظيم واكد عليه بصورة خاصة : اكتشاف المواهب والعبقربات لتوجيه أصحابها نحو عمل يتماشى وطبيعتهم وميلهم ، وتمكينهم من الوسائل اللازمة للدراسة والاطلاع ، حتى يصبحوا ممثلين كملا جامعين بين الثقافة الصحيحة الواسعة ، والاستعداد الفني الذي يجعل منهم خلاقين مبتكرين ، ثم تكوين الجمهور الواعي ، صعب الارضاء ، ودليل على رقي الامة ورفع مستواها . فالفنون بصورة عامة ، والفن المسرحي بصورة خاصة ، هى معيار مستوى الامم . واكبر مصداق لذلك كلمة قالها فيليكس قاف (1) استاذ الفلسفة بالمدرسة القومية الفرنسية (2) سنة 1932 : " قل مم تضحك ، أقل لك من أنت ،
