بعد كتاب ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ) (1) لابن رشيق المتوفى 1064/456 من المعالم الهامة للحركة النقدية فى الأدب العربى عامة ، وفى الأدب القيروانى الصنهاجى خاصة .
وإن من أراد الاقتراب منه أو دراسته ، وجد نفسه فى طريق متعدد المسالك تعدد جوانب الكتاب .
- فيمكن تناوله بصفته " أثرا مدحيا " موجها لولى نعمته ابى الحسن على بن أبي الرحال المتوفى 1035/426 ، في عصر كان فيه الادب التكسى هو الغالب .
- أو بصفته أنموذجا للمثل الادبية العليا آنذاك ، فيكون صدى " لقيم ثقافية " يحاول الكاتب فرضها .
- ويمكن أيضا ان يعتبر " كتاب أدب " على الطريقة الجاحظية . - أو كتاب مختارات شعرية (Ont hologie) .. أو .. أو ..
لكننا نلاحظ اهمال الدارسين عامة للمنطلق الذاتى ، الشخصى للكتاب ، رغم أنه يبدو بوضوح ، فمنذ المقدمة يؤكد المؤلف ترابطه النفسي وأثره فيقول
" نفضت حراب صدرى ، وانتقدت كنز معرفتى [ .. ] فمثلت له [ ابن ابى الرجال ] نفسي وأهديتها اليه ، ومثلت بها حقيقة بين يديه " (2)
ويقلل من أهميته رجوعه الى المصادر مغلبا آراءه الشخصية فيقول : " وعولت في أكثره [ أى الكتاب ] على قريحة نفسى ، ونتيجة خاطرى . . " (3)
ويبدو ذوقه الشخصى فى مظهرين :
1) اختياره للنماذج الشعرية المستشهد بها ، ورغم غلبة الطابع " الكلاسيكى " عليها تماشيا مع الذوق الادبي السائد آنذاك (4) فقد أفسح المجال لنماذج أدبية محدثة مشرقية ( كابن المعتز ، ومسلم بن الوليد ) ، وقيروانية ( كابن ابى الرجال ) ؛ وفي هذا الموقف ضمنى من معركة نقدية عظيمة هي معركة ( القدماء والمحدثين ) . وقد عبر عن رأيه فيها بصراحة حين قال :
" .. ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والاعشى الا بحلاوة الكلام وطلاوته ، مع البعد عن السخف والركاكة ، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولا عنهم ، هو طبع من طباعهم ، فالمولد المحدث - على هذا - اذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع ، ومعرفة الصواب ، مع انه أرق حوكا ، وأحسن ديباجة . . (5)
وحين علق على ابيات لابن أبى الرجال فى الحنين :
" فلو أن أعرابيا تذكر نجدا فحن به الى الوطن ، أو تشوق فيه الى السكن ، ما حسبته يزيد على هذا المولد الحضرى المتأخر العصر .. " (6)
بالاضافة الى اختياره جملة من أشعاره الشخصية .
2) تعاليقه على ما يورد من أشعار أو آراء فى الشعر وتبدأ غالبا بفعل ( أقول ) ، أو تأتى فى شكل اندفاعى تلقائى يجسم التحمس كقوله :
" فما الذى أعجبه من هذه الاستعارة ؟ قبحها الله ! " (7)
أو قوله :
" فلعنة الله على المحراث ههنا ، ما أقبحه وأركه ! " (8)
وهو ينطلق في أحكامه هذه من قواعد يؤمن بها تجسم فى نظره الشعر الحق مثل قوله :
" وانما سمى الشاعر شاعرا ، لانه يشعر بما لا يشعر به غيره ، فاذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه ، أو استطراف لفظ وابتداعه ، او زيادة فيها أجحف فيه غيره من المعانى ، أو نقص مما أطاله سواه من الالفاظ ، أو صرف معنى الى وجه عن وجه آخر ، و كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة : ولم يكن له الافضل الوزن ، وليس بفضل عندى مع التقصير . . " (9)
وهو يقصد في جمله الاخيرة بالذات معاصرية من القيروانيين ، ويدخل ذلك فى نطاق " حرب أدبية " نحس أصداءها فى ( العمدة ) ، كما يظهر فى قوله :
" .. وكم في بلدنا هذا من الحفاث قد صاروا ثعابين ، ومن البغاث قد صاروا شواهين ، ان البغاث فى أرضنا يستنسر ، ولولا أن يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم في هذا الكتاب ، ويدخلوا فى جملة من يعد خطله ، ويحصى زلته ، لذكرت من لحن كل واحد منهم وتصحيفة ، وفساد معانيه وركاكه لفظه ما يدلك على مرتبته من هذه الصناعة التى ادعوها باطلا ، وانتسبوا اليها انتحالا .. " (10)
ولا بأس من تقريب الجملة الواردة أعلاه " كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة " من الجمل الاخيرة فى هذا الاستشهاد ؛ وهذه الاشارات الى القيروان كثرة منذ المقدمة التى يذكر فيها " سوء المكان الذي منعه من التوسع فى الدراسة (11) .
ولا يجب هنا أن نعتبر هذا الموقف الخاص متعارضا مع اختيار ابن رشيق اتحاد " مدرسة القبروان " ( وتضم الى حد ما النهشلي والحصى صاحب الزهر وابن ابى الرجال ) (12) ؛ ويبدو هذا الاخير لا حاميا للأدب فقط (Mecene) بل وعلما من أعلام هذه الطريقة الشعرية ، يستشهد به ابن رشيق كثيرا فى كتابه ، ويدفع عن اعجابه الادبي مظنة العلاقة المادية فيقول :
" ... وما انحط بهذا التمييز فى هو اى ، ولا أتنفق بهذا القول عند مولاى ، ولا الخديعة مما تظن به ، ولا فيه ، ولكن رأيت وجه الحق فعرفته " (13)
أما الدوافع الاخص ، المتعلقة بحياة ابن رشيق الشخصية فتبدو بوضوح فى الكتاب أيضا ؛ فالى جانب شكوى الدهر والحساد وهى غرض تقليدى ، نجد صدى لما علمناه من المصادر حول تنافس خصوم ابن رشيق للاضرار به (14) فهو " قليل الانداد ، كثير الحساد " (15) ، وقد بلغ خصومه درجة اتهامه بالسرقة فسماهم " بعض من لا يتورع عن كذب ولا يستحى من فضيحة " (16) ، وهاجمهم ببيان رداءة شعرهم كما يبدو فى مقطوعة حشرت فى " باب البلاغة " استطرادا على اعتبار ابن المقفع السكوت بلاغة .
[ من مجزوء الرمل ]أيــهـــا المــوحـــــــى اليــنــــــــــــا نفثة الصموت
مـــا سكتنا عنــــك عـيــــــــا رب نطق فى السكوت
لــك بيت فـــــــى البيــوت مثل بيت العنكبوت
إن يــهـــن وهنـــــــــــا ففيـه حيلتا سكنى وقوت (17)
ولا بأس هنا أيضا من التقريب بين صورة الصل ، وصورة الحفاث الواردة أعلاه " وهي حية تنفخ ولا تؤذي " .
وفى الجملة ، يقدم لنا ( العمدة ) نموذجا أدبيا متكامل الصورة ، أكده ابن رشيق فى كل آثاره (18) ، ويمثل تيارا نقديا أدبيا هو لسان " مدرسة " جديدة ، لكنه مع ذلك وربما قبل ذلك صورة للحالة الادبية فى قيروان القرن الخامس ، بمعاركها ، واندفاعاتها ، وهو مجموعة " نفثات " ، وخواطر خاصة واختيارات ذوقية لأديب مازال لم يعط حظه من الدراسة .
( مارس 1975 )
