قرأت العدد الذى استهلت به مجلة " الفكر " سنتها السادسة عشرة ، فهمتنى فاتحته لانها عادت الى موضوع من أمهات المواضيع ، وهو العناية بتدريس تاريخنا القومى حتى " ترسخ الشخصية " التونسية ، والحق أن هذا الموضوع لا ينفصل عن قضية اللغة العربية ومستقبلها فى وطننا .
قرأت تلك الفاتحة فشغلتنى ملاحظات كرهت أن تترك محفوظات ، وعلقتنى خواطر أحببت أن تنشر سافرات ، تؤلف بين هذه وتلك ذكريات ما استطعت لها دفعا .
فما أن قرأت فاتحة شهر أكتوبر سنة 1970 حتى ألحت على فاتحة شهر كتوبر سنة 1955 فعدت اليها ، وطويت خمس عشرة سنة مضت مما يعدون .
فى ذلك الشهر النبيل من تلك السنة الغراء البعيدة القريبة ، وتونس فى غمرة الفرح تغذوها هزة النصر ، صدر أول عدد من مجلة " الفكر " ، فابتهجنا ابتهاجا وقوى الحزم فينا ، وصح العزم منا ، ونحن يومئذ على تعطش الى درك ثقافة قومية ترجع الينا أصالتنا أو ترجعنا إلى أصالتنا ، انسانية تشدنا إلى ما فاتنا وتفتح فى وجوهنا باب الفكر الجديد .
وذكرت النفس فنفعت الذكرى ، فتراءى لى القوم جلوسا بنادى قدماء تلامذة المدرسة الصادقية ، فى مكتب مجلة " الفكر " ، قبل خمس عشرة سنة ، وقد دعيت الى مجلسهم فدخلت اليهم صديقا لبعضهم ، غريبا عن الكثيرين منهم ، قليل الكلام ، فالمجلس قد ضم خيرة الاساتذة ووجوه المثقفين !
لم يذهب عنى ذكر ذلك المجلس ، وقد جد الحاضرون فى الحديث عن حال اللغة العربية ومستقبلها بتونس ، فشغلت ذهنى بحفظ حديثهم حتى أحرزت رفيعة ، ووعيت واضحه وعلمت غامضه ، وهو بين يديك اليوم فى مجلة " الفكر " أسفارا .
وتولى عقد ونصف عقد ، والناس فى حال اللغة العربية يقولون ، وعن مستقبلها يكتبون ويحاضرون ويسامرون ، ولا يزالون فى الأمر يختلفون .
مرت عشر سنوات وتلتها خمس أخر ، ضبطت فيها مناهج للتربية القومية " مخططة " ، وبنيت فيها معاهد لنشر العلم مشيدة ، وأنشئت فيها كليات للبلاد مفخرة ، والمسألة المعضلة ما انفكت قائمة ، فهل فى الأمر سر غريب ؟
الحق أنه قد أساء الى العربية قومها من حيث أرادوا أن يحسنوا اليها ، منذ العهود البعيدة ، فهم عارضوا فى تجديدها ، وعارضوا الدخيل اللغوى فيها ، ذودا عنها وتعصبا لها ، رغبة فى الابقاء على الفصيح من القول والمألوف من اللفظ وخوفا من الشذوذ ، فما " الفصيح " وما " الشذوذ " ؟
لقد غاب عن أيمة اللغة القدامى ، أو عن جلهم ، وعن فريق ممن ينصبون اليوم أنفسهم حراسا للعربية أن للاستعمال قوة القواعد ، بل ما القواعد سوى قوة الاستعمال ؛ استعمال الحذق نريد ، لا استعمال الخبط ، واستعمال الاريب ذى الحزم نعنى ، لا استعمال الغفل ذى اللهو .
الحق أن تطور العربية لا ينفصل عن تطور أهلها ، وأن حالها لا تنفصل عن حال أهلها ، فحالها بحال مجتمعهم فى ملابساته الاقتصادية والفكرية ، فاذا رمت معرفة مستوى حضارة قوم فانظر فى لغتهم . " فاللغة كائن حى ينمو حتما ويتطور ضرورة ، وظاهرة اجتماعية تخضع للبيئة الاجتماعية والمعطيات الاجتماعية وسنة المجتمع . . حتى أصبح من المبتذل أن يقال ان القضية ليست قضية اللغة العربية ، ولكنها قضية الثقافة العربية ، قضية الفكر العربى ، والأزمة ليست " أزمة لغة " ، ولكنها " أزمة عقول . . ( 1 ) "
ذكرت هذا وان كان من الاوليات ، لان من أعسر الامور اقتناع المرء بالأوليات ، وذكرت هذا لأنى على مثل اليقين أن خمس عشرة سنة ذهبت عنا من تاريخ تونس المستقلة ، بدون أن تحدد قضية اللغة العربية تحديدا مضبوطا تتضح به الطريق ونشرع حسبه فى العمل الواضح المثمر .
انى أعلم ، كما تعلم ، ما دعت اليه البرامج والمناهج القومية من وجوب العناية باللغة العربية ، وانى أعلم ، كما تعلم ، أن الامر لم يكن بالوضوح الذى نريد ، حتى ضاعت عنا أوقات امكان الحزم ؛ زمن يقاس بالسنين العديدة ، وانى لا أريد أن أفجأك ان لخصت ما حصل فى السنين العديدة الماضيات .
فقد قيل بامكان تساكن لغتين : " لغة ثقافة " تكون العربية ، و " لغة أداة " تكون الفرنسية ، وفى هذا المنزع ما فيه من الغموض الظاهر ، ومن الفصل المفتعل بين متلازمين لا ينفصلان . فهل يجوز أن نسمى لغة لا تستعمل " أداة " لتلقين فنون التعليم " لغة ثقافة " ؟ وقد نظمت شعبة فى التعليم الثانوى اشتهرت بعنوان " الشعبة الاصلية " ، قالوا انها منطلق تركيز العربية فى التربية القومية ؛ وهو مشروع لم نفلح فيه كما تعلم ، بل انه كان شر المشاريع ، وهذا ليس عنك بخاف ، وهو لا يخفى على كل حال . فقد كان مشروعا غير منسجم فى فلسفة للتعليم مضبوطة الجوانب واضحة الغايات .
كان شر المشاريع لأنه خلف فى نفوس المتعلمين ، بله فى عقولهم - بلبلة ويأسا ، فقد ظنوا أن التدريس الذى رتب فى " الشعبة الاصلية " المعربة انما أنشئ لضعاف العقول ، وأن التدريس الذى رتب فى الشعب الاخرى ذات اللغتين ، " لغة أداة " و " لغة الثقافة " انما أنشئ لذوى الفطنة كبار العقول . وكان نشاز غريب بين الناشئة التونسية ، مرده الى هذه " الشعبية الاصلية " ذات العنوان النبيل كما ترى !
وتخرج تلامذة هذه " الشعبة " على ضعف ارتعنا منه والتعنا ، وهالنا الامر عندما ظن الناس أن الوصمة فى جبين العربية ، وانك تعلم أن ذلك ليس كذلك .
وأقبل التلامذة " الاصليون " على الجامعة ، وبأيديهم جواز الدخول ! ولكن الجامعة لم تشرع بعد فى التعريب ! فلا قسم التاريخ كان مفتوحا فى وجوههم ، ولا قسم الجغرافيا ، ولا قسم الفلسفة ، ولا قسم الفيزيا ( معاذ الله ان تكتسحه العربيه ! ) ، ولا قسم الحساب ( وقاه الواقى لغة الضاد التى خدمت هذا العلم ! ) فجاءوا الى قسم العربية ، كرها لا طوعا حتى ظن الناس أن هذا القسم " كشكول " يحشد فيه من ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت ، وذلك ليس كذلك ، فاعلمه !
فكيف العمل لننهض باللغة العربية فى تونس ؟
القضية معقدة ، وتعقدها كامن فينا ، فهل ننشط لضبط موقف واضح ، بعد أن مرت خمس عشرة سنة على استقلال بلادنا ؟ ان التعقد الكامن فينا نتيجة صدمة الاستعمار ، تمزقت منها نفوسنا جيلا بعد جيل . فكان ما كان .
رجال اعتصموا بالماضى ، ذودا عما بقى من شخصيتنا قائما ، فظنوا أن اللغة العربية ، على ما هى عليه من نقص ، سبيل الى النجاة ؛ ورجال بهرتهم الحضارة الغربية وملكت عليهم أمرهم ، فظنوا أن اللغة الفرنسية سبيل الى النجاة . وفازت تونس باستقلالها ، فمارست مشاكل الاستقلال ، وشرعت فى إقامة أسس ثابتة للدولة ، بالحزم الشديد والعزم الحديد ، ولكن قضية اللغة مازالت الى الآن قائمة ، ونشبت حولها الخصومات والمشاكلات ، فهذا بالتزمت موصوم ، وذاك بالتفرنج متهم ، وذلك " بالتمشرق " معاتب .
فالقصة كامنة فينا ، هى رواسب من أثر الصدمة العنيفة ، والتحليل قد يعالج النفس من أثر الصدمة !
والتحليل يفرض علينا أن نقتنع بان العربية لغة كسائر اللغات ، لابدعا من اللغات ، بغض النظر طبعا عن اعتزازنا بها لغة الكتاب الكريم ، فهى لغة علا شأنها حينا من الدهر بعلو شأن أهلها عندما بلغ منهم رجال حال العلماء ومراتب الاكفاء ودرجات المفكرين ، وهى لغة ضعفت وجمدت بضعف شأن أهلها وتأخرهم . فلمصيرها بمصير أهلها : رقيها برقيهم ، ووهنها بوهنهم .
والتحليل يفرض علينا أيضا أن نقتنع بأن الفرنسية - أو ما شئت من اللغات الاجنبية - لغة كسائر اللغات ، وهى على كل حال ليست لغة قومية لنا ، ولكنها لغة مزدهرة اليوم ، نحب أن نحسنها لنزيد ثقافة سعة وعمقا .
فما هو الموقف الواضح فى مستقبل اللغة العربية بتونس ؟
قال ناس بوجوب التعريب العاجل الكامل فى التعليم على مختلف فنونه ، والدواوين على مختلف أقسامها ، ولاشك فى أن هذه النزعة نبيلة الغاية ، لكنها عزيزة المنال فى العاجل .
وقال آخرون بالابقاء على الفرنسية فى جميع الميادين التى اعتدنا استعمالها فيها ، خشية تعقد الامور ، وحفاظا على حسن المستوى فى تفكير المتعلمين
ومتانة ثقافتهم ، حتى لا تصير التربية الى اضمحلال ، وهذا منزع جعل الناشئة تضيع العربية والفرنسية معا ، وهو ذو خطر سيصبح خطبا فادحا فى الآجل ، وان بدا فيه لبعضهم امكان الجدوى فى العاجل .
والرأى أن مستقبل اللغة العربية لا يكون مزدهرا الا بضبط " تعريب " منسق تحدد " غايته " فتضبط مسالكه ، وتدرس وسائله فتعرف ، وتضرب آجاله فتسمى ، على أن الحزم يقضى بالحفاظ على حسن سير التعليم فى فترة لتعريب ، فلا تحل العربية محل الفرنسية الا فى الاجل المضروب ، فترة ، فترة ، وبعد اتقان العمل الموعود ، والرأى أيضا هو وجوب المحافظة على اللغة الفرنسية فى نهاية المطاف " لسانا اجنبيا " له عندنا حظوة ، به نثرى ثقافتنا وعنه ننقل الى أجيالنا ما يفيد من آثار أدبية وفكرية وعلمية ؟ على أن لا تكون للغة الاجنبية - أو اللغات الاجنبية - أداة فى التدريس والخطاب والكتابة ، وليس لها الا ان تكون أداة للبحث .
فان قيل ان بلادا عربية فى المشرق والمغرب قد سبقتنا الى ما نريد أن نشرع فيه ، قلنا ان الافادة مما حصل رغبتنا ، ننظر فيه فنقر ما نستحسن ونلغى ما نستقبح ، لان لنا فى المذهب قولا ، لعله أن يكون صائبا سديدا .
أما المشاكل التى ستعرضنا فعديدة ولكنها تحصى ، ومعقدة ولكنها زادت تعقدا بتقدم الزمن وتغير الملابسات منذ خمس عشرة سنة .
فالتعريب هو الحل الأمثل للتخلص من التبعية الثقافية ، وما دونه لا يعدو أن يكون من المسكنات أو الحلول الجزئية .
وهو الحجر الاساسى الحق لاقامة هيكل الثقافة الوطنية المستقلة ، بأصل ثابت وفرع ممتد .
