الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

ربح الشمال

Share

اقصوصة

يوم غيرت الريح اتجاهها ، حملت إلينا من الشمال ، أتربة قيحت عيوننا ، وأحالت سوادها إلى بياض ... يومها ، تحولت الريح إلى إعصار محموم ، يشدنى إلى الوراء بعنف ، فأسير متراجعا ، فى اتجاه معاكس للنهر المتدفق من كل نبع ، عبر شوارع يخنقها الضباب ، تحمل إلى أنفى نتن الجثث المتفسخة ، داخل الأقبية المعتمة المفتحة على الدوام ، للريح والمطر والكلاب ...

يومها كانت الريح شمالية غربية ، تزحف فى اتجاه الشرق مثقلة بأرتال من التراب المسود ، تندس ذراته الصغيرة فى عينى ، تخز بلورهما الناعم الشفاف برؤوس مذببة مسمومة ، فتسيل منهما حبات ندية لزجة ، ترتج على مقلتى وتتسلل ببطء وبرود إلى شفتى .. فأتذوقها مالحة .. وأتذوقها مرة .. وأتذوقها بلا طعم ...

الناس من حولى ، جنازات مرفلة بالمطارف الثمينة ، يجتازوننى فى صمت .. ويجتازوننى فى همس .. ويجتازوننى فى صخب .. التراب يندس فى عيونهم .. يقرحها .. يقيحها .. يحيل سوادها إلى بياض ...

آه .. يا للوجوه المتقلصة فى ذعر .. يا للشفاه المتحركة فى انفعال .. متى تكفون عن الضحك يا من تمارسون لعبة قديمة كنت أجيدها فى صباى؟! .

فى صباى ، وضعتنى أمى على ركبتيها وهمست :

- أن تسير متراجعا إلى الوراء ، معنى ذلك أنك تمارس لعبة سمجة .. قالت لى :

- إذا سرت فى طريق ما ، لا تلتفت إلى آثار قدميك على الرمال ، وليكن بصرك متجها دائما إلى الأمام والا فسوف تسقط على وجهك فى الوحل ..

واضافت وهى تلقمنى ثديا بلا لبن :

- حين تسير متراجعا ، فانك تدوس بقدميك الآثمتين وجه فاطمة الزهراء ، وتضحك إبليس .. أيرضيك أن يبكى الطيبون ويضحك الأشرار ؟! .

ويوم غيرت الريح اتجاهها ، رأيته بعينى .. كان يضحك فى تحد منحوس حقير ، ويرقص على أنغام أغنية حاقدة متشفية .. وكانت وحدها تبكى لان الأقدام تدوس وجهها بعنف ، ولأن الريح تزحف فى اتجاه الشرق ، مثقلة بأرتال من القش والغبار وروائح الجثث المتفسخة ..

أقتربت منها وهمست مواسيا :

- هذه اللعبة سمجة ، ولكنها علمتنا بأن ... قاطعتنى فى حده :

- أووه .. تعلمنا الكثير ....

وكان الشارع آنذاك يمتد خلفنا بلا نهاية .. والوجوه غريبة الملامح كالآبنية السحراء والحركة التى لا تعرف التوقف .. وقلت : سوف لن أترك للريح تكيف مصيرى كيفما شاءت .. فلتكن لى على الأقل حرية اختيار الطريق الذى أسلكه ...

واستعنت بكل ما أوتيت من قوة . =. مندفعا إلى الأمام فى اتجاه معاكس لتيار الريح .. ولكن مقاومتى انهارت دفعة واحدة ، فسقطت على الرصيف والدم يطفح من وجهى ، بينما أخذت قدماى تغوصان ببطء فى الوحل ...

وتطلعت الى رفيقتى دون ان تنبس .. كان واضحا أنها تتألم .. تتألم فى صمت ...

69/10/15

اشترك في نشرتنا البريدية