وأنا اسير . انزلق نحو شوارع المدينة المكتظة بالأصنام المصلوبة ، الجالسة القرفصاء فوق الأرصفة المتربة الجاثية تحت أغصان الاشجار الميتة .
جئت ممزقة ، ملقاة هنا وهناك . صماء . بكماء كتماثيل أثرية رصت في قاعات متحف عتيق - عريق أقدم من الزمن ، فى مدينة اسطورية - خيالية المعالم .
أسير ببطء . بقرف لا حدود له . بملل لا وصف له ، كحلزون مريض تمزقت أعماقه وتبعثرت فى كل صوب ، وما بقى منه الا طيف صدفة مهترئة تنز صديدا يصبغ بوشمه اسفلت المدينة الموبوءة . رائحة الوباء المنتشرة فى الجو تصفعنى بوحشية قرصان ثائر . الحزن يغشى السماء المكللة بغيوم شزراء . الانسام حارة ملتهبة - تلفح وجوه الاصنام الجاثية الجالسة القرفصاء ، تلفحها بشرور ساحرة - ماكرة - والعرق يسيل . والعيون حزينة . كسيرة . والافواه بكماء . خرساء . وأنا بكل ملل واعياء أسير كحلزون مريض تنز أعماقه قيحا صدئا . والوجوه الكاحلة البكماء تطاردني بأعينها المفقوءة كعيون بوم مات فيها البريق تظل تطاردني . أصم أذني غير أن صوتك يأتي دوما مثيرا قاسيا ، غامض الصدى يجتاح كياني المتعب كالموت الصاعق حين ينهار على قلب عجوز ما . يظل يشرخ سمعى كناقوس كنيسة يلح فى دعوة الرعاع المخلصين للصلاة . أسمعه أينما رحت يناديني : تعالى .. تعالى ..
فأضيع وسط أحشاء هذه الكلمات الحنونة المخادعة التى لا تعنى شيئا سوى لحظة وصال - والتي هي كل حياتي . . ففيها يتصارع مستقبلي - وحاضرى ، وماضى الأغبر الميت ما دمت لم أرك فيه ولم أعشه معك.
لكن دوما تضيع الهمسات فى دوامة الحزن المتفشى فى مدينة الصمت الموبوءة . فأريد أن أسأل تلك الاصنام الجاثية فوق الارصفة . أسألها عنك عن رجل عذب لذيذ ، ساحر الصوت كالاه ودود قال يوما " تعالى " ثم ابتلعته هوة الصمت.
قالت عيناك يوما : " هلمي اقدمى " ثم انطفأتا . غامتا في عتمة سماء بعيدة - نائية - لا تدنس أديمها أصنام ممزقة مفتتة المرمر . قال : " تعالى " ثم غاص هو الآخر فى مستنقعات مدينة الصمت . كان الفيروس قد تفشى فى المدينة الموبوءة . وكانت كل الجثث قد تعفنت وبترت أوصالها ، والتهمها الصمت الابدى
سمعت الصوت ليلا . وكان الليل شتويا يزمجر برعود رعناء . ويقصف بنديب برق مثير . رهيب كومضات عينيك . كنظراتك المتقلبة الماكرة وهي حائرة بين الثورة والحنان . بين القسوة والخضوع ، فتغرقني في تقلبات تيارها الجامح . وكان الطريق موحلا ، كثف الكآبة تغزوه أتربة وأحجار .. وانا متعبة ، ألملم أشتات عمري لاهرب . أهرب كراهبة ثائرة قررت أن تهب حياتها للحب ، وتدير ظهرها الى الابد . تدير ظهرها للأكفان البيضاء - والصلبان المقلوبة كمشانق اعدت لاناس ملحدين بالحب في طريقهم الى الموت
كان صوتك زوبعة أيقظتني من سباتى عاصفة اقتلعت جذورى . دمرتني نبشت آلاف الاحاسيس المتجمدة فى نفسى النائمة تحت ظلال سأمي المستكين
استيقظت أفاعي الرغبة لتزلزل كيانى ، متمردة بعد سبات سنين من الخنوع والضياع - وانت تهمس : " تعالى " فى لحظة تشرد وحنين . وف لحظة ماكرة قررت مصيرى ، وكتبت بدم الجنون قدرى المقيد بأغلال حبك
مزقت أكفنة الصمت . ثارت في جسدى حواء النائمة منذ عصور ، لتستفيق على وشوشة نغمة ، عذبة كانت هي الكلمة السحرية التى فتحت أمامى أبواب الحياة والموت . الفرح والأسى . التشرد والامان . وخطت فوق صفحات قلبي الحائر فى تموجات عينيك الغامضتين ألف حكاية ضياع تتصارع فى كفة رجولتك الثائرة . هل عرفت ايضا الصوت العذب صبر مدينتى؟ ومعاناة مدينتى؟ كانت حزينة مجهولة ، كئيبة ، ضائعة فى ذهن وجود كافر
الى أن قال صوتك يوما : " تعالى " فاقتربت يومها الانواء . واكتسحت الرغبة كل الحدود . ودمرت كل السدود
جئت وأحلامي العذراء تركض تحت قدمي ، وفي صدري حكايا وحكايا عن عمرى الباحث عن نفسه فى واحات كفيك .. وعن قدرى المتعثر تحت رجليك وصوت خفي يقول : إنك عرفت مدينتى .. وكنت يوما الوردة الفيحاء العابقة في بستانها الزاهى . وقال . وقال . وقال ... جئت والأمانى تسبقني إلى مدينتك الملتهبة محبة . الى عالمك المثير اللازوردي .. وليل الشتاء طويل . طويل وزوابع الانواء لئيمة ، غاشمة . وصلت.. لكن الفيروس كان قد سبقني كان وباء الصمت قد التهم المدينة فغدت أصناما خرساء ، جاثمة تبكى بدموع حارة ماضيا مجيدا ، وحاضرا راكدا مشلولا
صوتك ما زال يطن فى أذني يهمس بدفء غريب : " تعالى " نظرت اليك وانت مثلهم أخرس الفم - يلجمك الصمت.. بينما فى عينيك كانت تمور ألف أسطورة عجيبة قرأت فيها انتحار قدرى ، وانهيار ايامى الملولة فى بؤرة الوجود القذر . قالت عيناك : قبلك يا طفلتي مر الاه شرس الطبع . غادر النفس . له رأسان يتصارعان دوما فى خضم أفكار سوداء ما لها قرار . وكانت عيونة العديدة تشع دوما ببريق شرير مدمر يفتك بكل من اقترب منه
كان هذا الالاه مطرودا من علياء سمائه . طرده الاه رحيم الفؤاد ليحمى الملائكة من شروره . رماه فى يوم من الايام على الارض . تدحرج على صدر المدينة الصغيرة ليشعل النار فيها .
عم الفزع المدينة الآمنة . صرخ البعض . بكى الآخرون . استعطف اخرون . ولعن الباقون . لكن الالاه الثائر أقسم ان ينتقم من الملائكة التى نبذته من السماء ، ومن الحيوانات الناهقة فى أزقة البلدة الصغيرة
كان حيثما مر لا تزرع خطاه الا الدماء والوباء . وحيث مر جواده الاسود ، لا تترك حوافره الا الموت والدمار
امتلأت المدينة بوبائه الذي قيل : إنه " فيروس " جديد جاء ليفتك بالحيوانات المستترة تحت أقنعة الخمول والخشوع . من يومها يا طفلتي الحسناء والمدينة الموبوءة ترزح تحت وطأة الصمت . اذ قيل إن هذا " الفيروس " الخطير سيفتت جسم كل من حرك شدقيه . أو فتح شفتيه بحرف واحد .
والكل ينتظر . ان ذاك الفيروس ، لن يعمر طويلا . سنوات أخرى ويفقد كل مقدرة على افشاء وبائه . يومها .. ربما .. ؟
يومها تستطيع كل تلك الاصنام ان تتكلم . تفتح أفواهها بحرية ، وتصرخ عاليا ، تسمع اصواتها آذان السماء المنتظرة استغاثة ..
- وصوتك الذي نادانى من مدينتى النائية الوديعة ؟ صوتك الذي ايقظني من سباتي - وانا وحيدة بيأسي وغربتى ، أتعثر فى مسالك الوجود المظلمة ؟ صوتك الذي قادني الى هذه المقبرة المهدمة التى ربما أصبحت أنا الأخرى صنما متحركا من أصنامها يهدده " فيروس " الاهكم الشرير ..؟
- ربما غدا !.. ربما غدا ..! - ربما أبدا . لا تقل : ربما . عيناك تقولان كلاما كثيرا . عيناك رغم كل فيروس متفش وسط أرحام البلد ، تقولان الحقيقة . انهما ترسممان معالم مسيرة مجهولة لا نهاية لها . هما نهران من اللؤلؤ المغسول بماء مطر ، ينسكب من عيون سماء عطوفة ، حانية ، ارى فيهما صدق حسى.. وخوف مشاعرى .
أيها الهاتف المجهول لم قلت: " تعالى ؟ " لم ألقيت بى فى مدينة الوباء ؟ لاعيش كطيف مشوه بين آلاف الجثث الممزقة ، المبتورة - الغارقة فى بحر سراب مخادع ؟ غدا.. أو ربما بعد ؟ ربما ؟ وانت الآخر تخشى أن تتكلم عالم الصمت يبتلعك . تظل أخرس ، خوفا من الفيروس الخطير . وقلبي يتلوى فى شبكة صمتك المفجع . ووجودى يذوب يأسا وتمردا فى غابات خوفك الذي غللك . وحطمني . أطبع قبلة فوق شفتيك المتخمتين بأشهى مباهج الحياة . تقبلنى بصمت . تقبلنى بحرقة ، محروم يبحث عن منفرج تطبق شفتيك فوق شفتى النهمتين ، الجائعتين دوما الى قبلاتك السكرى وأفاعي الرغبة تعربد بصدرى.. تزحف فى بدني الذي أحياه صوتك ، ولفحته لمساتك ، وأنا بين يديك أتلظى على جمر شوقي وانهيارى تبقى تضمني اليك ، وعيناك تتغنيان بأعذب أغنية حب . بأسمي قصة ضياع . تشدني اليك لهفة جنونية نكرة الاسم . فأود أن أصرخ . اشتم . أبكى . أعلن ثورتى على الاهكم الشرير المتحكم في مصير المدينة المستسلمة . أطلب نصيبى من الحياة . أطلب كلمة ود . همسة عطف من رجل فاتن قال يوما : " تعالى " ثم انزوى تحت استرة الصمت الازلي
تداعب مقلتيك ابتسامة حنونة . مشفقة . مستنكرة . مستعطفة تضع ثانية فمك فوق فمى لاخلد مثلهم ومثلك الى الصمت ، فتجهض بوادر ثورتى وتمرد أفكارى البلهاء
أحس أن زوابع الثورة التى اشتعلت فى نفسى فى لحظة ما . في ساعة ما . قد خمدت . وجمرات الكلام قد احترقت وغدت رمادا تذروه رياح شوقي المتجدد اليك .
لكن للصمت لغة أقوى من العويل ، والثرثرة اللامجدية . فأتمنى أن أقضى العمر بين ذراعيك صامتة . بكماء . شفاهي فوق شفتيك . وعيناك تهمسان بصوت أخرس لا تسمعه غير نفسى الظامئة الى صوتك الساحر " تعالى " ..
أظل أجرى وسط مدينة الاصنام المكسورة ، المصلوبة فوق جذوع الشجر . المطبقة أفواهها على آلام لا حصر لها . أظل أجرى وأنا اقرأ فى عيونها المفقوءة ، كلمة واحدة ، مدوية ..ثائرة . ناقمة . نائحة ..غدا ربما غدا ؟ .
أهرب مثقلة بأكياس خيبتى . أعود الى مدينتى النائمة بكل وداعة بين احضان غابات الصنوبر ، يطوق خصرها نهر الحرية الرقراق أعود وصوتك الذي نادانى يوما يغازل سمعى . يعشش فى اذني . يخط حكايات وحكايات لاناس ظلموا . وتعذبوا . وصلبوا لارضاء نزوات آلهة كافرة بالحب.. نبذتها السماء فارتمت بين أحضان الارض تشعل نار الحقد والبغضاء فيها.
اعود الى غابات الصنوبر التى تطوق معصم مدينتى الآمنة وصوتك يصدح بآهة حزينة ، خائفة تثير أعماقى الثائرة الصابرة : " تعالى غدا.. " ربما غدا !! ؟
اجلس على ضفاف النهر ودموع تحرق مقلتى لذكرى اصنام مهشمة .. صماء . بكماء .. انما تتلألأ عبر دمعي المنهمر فرحة ، غامضة . فرحة طفلة اطلعت على اسرار مثيرة تنبأ بها عراف خطير الشأن ولهيب شفتيك يحرق شفتى . غدا تستفيق المدينة الموبوءة . المدين الخرساء . غدا يطير الجواد الاسود يحمل الالاه المنبوذ ليرميه فى أعماق الجحيم. وغدا سيهتف صوتك ثانية بكل قوة وجرأة ، متحديا كل الانواء ، هامس بأعذب لحن : " تعالى غدا ..تعالى غدا.. "
