الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

رجال الاصلاح بتوني، في القرن الثالث هجري

Share

تمتاز تونس فى القرن الثالث عشر ه عن سائر الامم الاسلامية عموما والشرقية خصوصا بظهور حركة اصلاحية اصيلة بعيدة الغور عميقة الاثر واسعة النطاق تستمد زخارتها وفيضها من تجربة ومواهب رجال تنبهوا قبل غيرهم للاخطار المحدقة بالمخلفين من الامم المستسلمة النائمة فى ميادين الجلاد .

وخير الدين باشا التونسى وان كان درة عقد هذه الحلقة المباركة الاصلاحية وقائد ذلك الرعيل وحادى الركب الاصلاحى فقد كان يقوم بجانبه رجال أفذاذ صدقوا ما عاهدوا الله عليه شعارهم تمجيد الاصلاح بالدعوة اليه والتنفير من التخلف عن قافلة الحياة الحديثة ومقاومة كل رجعية اثيمة كانت تقف بالمرصاد فى طريق النهوض تصد الناس عنه

فكان رائدهم السير قدما بالبلاد الى شاطئ النجاة فى تؤدة ورفق . وكان من أبرز رجال الاصلاح فى هذا العهد الاديب العبقرى والشاعر المجيد محمود قبادو وتلاميذه . وقد اشتهر من بينهم ابو حاجب وبيرم ومحمد السنوسي وما اليهم من رجال ذلك العهد الذين آلوا على انفسهم أن يخدموا تونس بافكارهم واقلامهم وتاليفهم مما حمل اولئك الرجال على الامعان فى الدعوة والتضحية بكل نفيس فى سبيل نجاحها فكان الشيخ السنوسى يحبر الفصول الطوال فى الرائد ( الجريدة التونسية الرسمية ) على اساليب ممتعة ملائمة تفيض عطفا وحماسا في الدعوة الى الاصلاح

كان خير الدين ومعاونوه يقضون اوقات الفراغ فى خلق جو يلائم ووسط يعين على الاصلاح ويوسع دائرته ويتفهم اسباب الفلاح فيعمل على نشرها ويتأمل في علل التقهقر والتأخر فيجنبها . وكان من جراء ذلك صدور النشرة الاولى الاصلاحية في كتاب اقوم المسالك الذي قال مؤلفة في فاتحته : اني بعد ان تأملت تأملا طويلا في اسباب تقدم الامم وتأخرها جيلا فجيلا مستندا في ذلك لما أمكن تصفحه من التواريخ الاسلامية والافرنجية مع ما حرره المؤلفون من الفريقين فيما كانت عليه وآلت اليه الامة الاسلامية وما سيؤول اليه امرها في المستقبل بمقتضى الشواهد التى قضت التجربة بأن تقبل النجاة الى الجزم بمالا اظن عاقلا من رجال الاسلام

يناقضه او ينهض له دليلا يعارضه . من انا اذا اعتبرنا تسابق الامم فى ميادين التمدن وتحزب عزائمهم على فعل ما هو أعود نفعا وأعون لا يتهيأ لنا ان نميز ما يليق بنا على قاعدة محكمة البناء . لا بمعرفة أحوال من ليس من حزبنا ، لا سيما من حف بنا وحل بقربنا . ثم اذا اعتبرنا ما حدث فى هذه الازمان من الوسائط التى قربت تواصل الابدان والاذهان ، لم نتوقف ان نصور الدنيا بلدة متحدة تسكنها أمم متحدة ، حاجة بعضهم لبعض متأكدة وكل منهم وان كان فى مساعيه الخصوصية غريم نفسه فهو بالنظر الى ما ينجر بها من الفوائد العمومية مطلوب لسائر بنى جنسه " . الخ

ويتخلص مؤلف اقوم المسالك الى البحث عن الاصول التى تتمكن الشعوب بها من التخلص من الفوضى والجهل والفاقة وتسير قدما فى ميادين التقدم الى بلوغ الغاية المنشودة للمجتمعات البشرية فى اثناء سيرها الطويل الشاق المحفوف بالاخطار المهدد بالآفات .

ومما يلفت النظر أن فى الفقرة الاخيرة من خطبة أقوم المسالك هبوب نسيم من الروح الجديدة الذى استيقظ فى الادمغة بعد ركوده الطويل وخلو الاذهان منه الا وهو تضحية الفرد لصالح المجتمع وقد ايد الادباء والادب فى هذه الفترة هذه الروح الجديدة كما سيأتي وقد نجحت هذه الحركة اعظم نجاح فكان محمد بيرم الخامس مؤلف صفوة الاعتبار اول كاتب تونسى جاهر بئارائه الاصلاحية بدون مؤاربة وكان هو وصحبه يجاهدون جهاد الابطال فى مقاومة الجهل ويدعون الى نشر المعرفة بين طبقات الشعب التونسى بتاييد تاسيس المدارس ونشر الكثير من التئاليف التونسية بالمطبعة الرسمية التى نشرت الكثير من التأليف التونسية وتقدم حركة متسعة النطاق فى اصلاح أساليب التدريس وطرق الحكم

وقد كان الكاتب احمد بن ابي الضياف من اكبر محبذى الاصلاح والداعين اليه والمقاومين للرجعية . كان ينقد الرجعيين نقدا عنيفا حتى انه لم يسلم من قلمه عالم تنكب الطريق القديم او امير انحرف عن سواء السبيل ودون ذلك فى كتابه الحافل المعروف باتحاف اهل الزمان

كان هؤلاء المصلحون يرون انذاك ان المنقذ الوحيد للشعب التونسى مما وقع فيه من مظالم البايات لا يكون الا على طريق توسيع دوائر المعرفة بتمهيد طرق الثروة من تحسين وسائل الزراعة والتجارة وانعاش الصناعة وبالتالى محاربة اسباب البطالة في البلاد . ولاول مرة فى تاريخ الادب التونسي نصغى الى الاديب التونسى فاذا هو يتنكر للانانية وللاسلوب الذى انتشر

اخيرا بين الناس من الامعان - فى محبة النفس ويعد العالم الذي يستتأثر بعلمه لفائدته جانيا وأثيما وان الفخر كل الفخر فى خدمة الاوطان

ولعل هذه الروح نشأت عند استفحال الحضارة ونزوع الناس الى المادة وامعانهم في الاستئثار وتغاضيهم عن الصالح العام الذى كان فى نظر الشريعة الاسلامية مقدما على الصالح الخاص ولذلك كانت الفروض الكفائية فيها افضل من الفروض العينية لان الفروض العينية قاصرة والاخرى متعدية كما يعلم ذلك المطلعون على اسرار التشريع الاسلامي في نقاوته وصفائه فلا غرو ان نادى المصلحون بذلك ونصغى للشيخ السنوسى فاذا هو يهتف بالشعب فى اخلاص قائلا :

واذا الفتى بالعلم يقصر همه   لمفاده فنراه اعظم جاني

واخو السداد فتي يجاهد نفسه  طول الحياة لخدمة العمران

فحياته تفنى وزبدة سعيه  يبقى بها فخرا لكل زمان

هل فيك يا حلف المدارس غيرة  منها وصلت لمدين الاتقان

او هل قصدت لنفع جنسك غاية  تبقى بسلك غرائب الحدثان

او هل لجدك من مثائر نفعها  عم البلاد بمنبت الاحسان

فاشكر غراسة ما جنيت ثماره  واردد بغرسك ما يطيب لجانى

فاذا فقدت فان قومك كلهم  يسعى لينفع أنجب الاقران

لا يهملون صنيعك المشهود ان  تأتي عليه عناكب النسيان

بل ما توانى عن اعانتك امرؤ  الا وضيع أو جهول شانى

ومفاخر العصر الجديد معارف فيمن يقوم بخدمة الاوطان

أو حسن تنشيط العزائم من فتى  له خبرة بمزية العرفان

وبمثل ذاك تقدم المتسابقو  ن الى العلى فى واسع الميدان

فانشط ولاتك عند قرنك عبرة  لاضاعة الازمان بالخسران

حاشا فتي ذا تهية باتت له  شمس الهدى ينقاد للعميان

والجد يبلغ كل ذى عقل الى  ما يرتجيه بمنعة المنان

ولكن الهيمنة الاروبية والمطامع الغربية كانت قد قطعت شوطا بعيدا وبلغت أنذاك الاشد وكادت تغمر الشرق فوقفت أمام هذه الحركة الاصلاحية المباركة تكيد لها وتنال من رجالها وتجعل لها حدا ومن توقل اعلى قمة فى ذلك العهد بتونس شاهد بعينى رأسه اعوان الاستعمار يعرقون كل حركة ويحدثون في كل لحظة مشكلة الى ان فوجئت البلاد بذلك الحادث العظيم الذى قلب لها ظهر المجن ورجع بها القهقرى وقضى على جميع ما اشاده المصلحون وضحي من اجلة المخلصون الذين لا تزال آثارهم الى اليوم شاهد بنضالهم العنيف وأعمالهم الجبارة التى نذكرها لهم كلما هتف الناس لرجال العمل والسعى للانقاذ .

اشترك في نشرتنا البريدية