الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

رجل بلغ القمة

Share

-2-

لقد راينا فى العدد السابق (1 ) من مجلة الفكر كيف اعتمد البيرونى على الطريقة التجريبية فى ابحاثه العلمية ، وكيف كان يحرص دائما على التخلص من " العادة المألوفة " ، وللتدليل على عدم تسليمه بما كا نن يقوله الاجداد الا بعد فحص وتمحيص هو اهتمامه حتى بتلك الدويبة ووجه تسميتها تارة بأم الاربع والاربعين كما نجدها فى القاموس ، وتارة أخرى بأم الاربع والسبعين .  فاذا به يتناول واحدة منها ويجلس لعد أرجلها الدقيقة . فيجد لها من الارجل مائتين وأربعين . فهذه الحادثة مهما كانت تفاهتها فى نظر الشخص العادى الا انها تدل على قيمة الرجل العلمية ونفوه من التقليد الاعمى الذى يقتل روح النقد وهو أهم ما يميز المفكر البصير عن غيره ممن استبد بهم الكسل  العقلي . . والبيرونى نفسه كثيرا ما حذر من التقليد الذى يسدل غشاوة علي  بصائر الناس فلا يدعوهم يحركون " آلتهم الفكرية " أو يبحثون . . وكثيرا ما حذر من التسامح فى كلمة " الله أعلم " التى كان يختم بها العلماء دراساتهم والتى كان الطلبة يسمعونها كثيرا - هنا فى تونس - من شيوخ الجامع الاعظم عقب كل درس . . فهذه الجملة ان دلت على شىء فانما تدل على أن كل ما قيل مبعث للشك والريبة ، وان على القارىء أو السامع أن لا يأخذها يقينية  . . فما الفائدة اذن من قراءة بحث أو كتاب أو قضاء الساعات الطوال في سماع دروس لم يقتنع قائلها بعد بصحتها . . صحيح ان هناك حقائق تفوق العقل ، ولكن هناك حقائق أيضا تعيش معنا على الارض ويمكن أن ينفذ اليها العقل الانسانى دون أن يتسرب اليها الشك . .

ان هذا " المعدن من العلماء كان نادر الوجود فى ذلك الحين ، وهو الذى وضعه بين العلماء المرموقين وبواه - كما قلت - قمة الحضارة الاسلامية ،  ثم هو الذى جعل أهل الغرب يقبلون على (شراء) مادته وقد أيقنوا أن لا تحريف فيها ولا تزييف ، على هذا الاساس المتين ألف كتابه " الآثار الباقية عن القرون الخالية " وهو ما زال فى ريعان الشباب مقيما فى جرجان عند الامير قابوس بن وشمكير . . وهنا يجب أن نشير الى فضل هذا الامير عليه الذى أعجب به كل الاعجاب وسادت علاقتهما المودة والاحترام . . وفى هذا

الكتاب أودع البيرونى معلومات جمة عن التقاوى والاعياد عند الفرس وأهل الشام واليونان واليهود والصابئين والزرادشتيين ، والعرب ، واختلافها عند هذه الامم وسبب هذا الاختلاف . . وهو فى الجملة خلاصة لتاريخ الشعوب المعروفة آنذاك . . غير أن كتابه " تحقيق ما للهند " يعتبر أهم كتب البيرونى : فقد اغتنم فرصة رحلته مع السلطان محمود الى شبه جزيرة الهند فتعلم اللغة السنسكريتية وبدأ ينهل من فيض حضارتها صنوفا وألوانا . . . وألف هذا الكتاب وقد بلغ درجة كبيرة من النضج وسعة الافق - حدثنا فيه عن أحوال الهند الفلكية والدينية ، ولم يخص الناحية السياسية الا بفصول قليلة . وقد قارن فيه بين مفكرى الهنود واليونان واستخلص من هذه المقارنة ان الفلسفة انما ترعرت عند الاغريق اذ ليس فى الهند - كما قال - فيلسوف مثل سقراط . . وهذا الحكم القاطع الصادر من عالم اشتهر بالثقة ينبئنا عن اطلاعه الواسع واستيعابه للفلسفين الشرقية والغربية وادراكه لما بينهما من أوجه الشبه أو الاختلاف والنقص أو الكمال . . وعلى كل فهو لم يتحدث باسهاب عن فلسفة الهنود الا في كتابه " القانون المسعودى " الذى أهداه -  وقد طرق باب الشيخوخة - الى مسعود بن محمود الغزنوى . . أما إذا درسنا أسلوبه فى كتاب " التحقيق . . " وجدناه يتبع أسلوبا علميا صرفا بعيدا عن البريق اللفظى ، عكس ما نلاحظه فى كتاب " اليمينى " لمعاصره العتبي  الذى توخى فى سرده للاحداث التاريخية أسلوبا أدبيا شيئا مثقلا بالمحسنات البديعية التى أفرط فى استعمالها فى ذلك الحين ، وهو اسلوب ان صح استعماله في الادب فانه فى التاريخ كعلم يبعد الباحث عن الغرض المقصود ويرمي به في متاهات لغوية " فاضلية " لا فائدة منها . .

والبيرونى شديد الاعجاب باللغة العربية . . وهو مع اجادته للغة الفارسية واللهجة الخوارزمية التى يتكلم بها ، والسنسكريتية واليونانية والعبرية والسريانية فانه يميل الى العربية لمرونتها وطواعيتها وتبنيها للاصطلاحات العلمية بسهولة عجيبة ، فاسمع اليه وهو يتحدث عن حضارة الهنود والاغريق ، وعن لغة الفرس ولغة العرب : كل واحدة من الامم موصوفة بالتقدم فى علم ما أو عمل ، واليونانيون قبل النصرانيين موسومون بفضل العناية فى المباحث وترقية الاشياء الى أشرف مراتبها . . وأما ناحية الشرق فليس فيها من الامم من يعتز لعلم غير الهند ، ولكن هذه الفنون خاصة عندهم مؤسسة على أصول مخالفة لما اعتدناه من قوانين المغربيين . والى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم وسرت محاسن اللغة منها فى الشرايين والاوردة ، وان كل أمة تستحلى لغتها التى ألفتها واعتادتها . . وانا

نفسى قد طبعت على لغة لو خلد بها علم لاستغرب استغراب البعير في الميزاب والزرافة فى الاكواب ، ثم انتقلت الى العربية والفارسية فأنا في كل  واحدة دخيل ولها متكلف ، والهجو بالعربية أحب الى من المدح بالفارسية " .

لقد عجم البيرونى كل اللغات فتكلم وقرأ وألف بها ولكنه لم يجد عذوبة ورحابة صدر مثل اللغة العربية التى كلف بها الى درجة الهيام .

ومن ناحية أخرى لم يقتصر البيروني على اغناء العربية بهذه الكنوز من مختلف الثقافات ، بل لقد قام بعملية مزج الحضارات ببعضها وترحم الى السنسكريتية أصول الهندسة لاقليدس ، والمجسطى فى الجغرافيا  لبطليموس ، ولكنه قد فاق هذا الاخير فى الجهر بكثير من النظريات الطبيعية والجغرافية التى لم تخطر على بال أحد فى ذلك العهد مثل كروية الارض وانجذاب الاشياء نحو مركزها ، او اعتقاده الراسخ بان الارض تدور حول محورها مرة فى اليوم وحول الشمس مرة فى السنة ، وهي النظرية التى لم يقع الخوض فيها فى اوروبا الا فى مستهل النهضة الاوروبية على يد " كويرنيك "  و " غاليلى "  . . ثم ان البيرونى قد أكد في بعض كتاباته أن حوض نهر السند انما هو فى اصله قاع بحر تراكمت فيه الرواسب وانقلب الى مدخل لهذا النهر . . .

وهناك قصة تزيد فى تسليط الضوء على شخصية هذا العالم النابغة والتعرف الى جميع جوانبها حتى لا نغمطه حقه ونسلبه مكانته التى يجب أن يحتلها ، وحتى ندرك بأن حضارتنا الاسلامية غنية كل الغناء واننا لم ننقل كل شىء عن الغرب . . وحتى - بالتالى - نقضى على مركبات النقص التي تغزو نفوسنا . . ثم لكى تشب الاجبال الصاعدة بنفسة سليمة تنظر الي  علمائنا بعين الاكبار : فقد حكى رجل أقبل من شمال آسيا للسلطان محمود الغزنوى أن الشمس هناك توم مشرقة ستة أشهر مما أغضبه عليه وظن أنه يريد المزح معه ، واستشار البيروني فى هذا الادعاء ، فاثبت ما قاله الآسيوى وانقذه من السجن . . ومن لم يسمع اليوم بشمس نصف الليل فى بلاد اللاب وغيرها قرب القطب الشمالي .

ومهما كان الامر فانى لا أريد أن أخطو مع القارىء الى الامام لتشريح  شخصية البيروني وأظن اننى قد استوفيت بعض حقه . . وانما اريد أن  أختم هذه الكلمة بما قاله بعض المستشرقين فيه : فقد كان يراه المستشرق  " سخاو " أكبر عقلية علمية ظهرت في القرن العاشر . . ويعتبره الدكتور " شاخت " موسوعة علمية تسير على الارض ونقادة من الطراز الممتاز . . ويضعه " بروكلمان " فى مصاف كبار العلماء في الدنيا . . ويطلق عليه  المؤرخون بصفة عامة اسم " الشيخ " وكأنهم يعنون بذلك أنه شيخ العلماء .

اشترك في نشرتنا البريدية