مدينة تعز
تقع هذه المدينة فى اليمن العليا الجنوبية في واد خصب وارض خضراء بجوار السفح الشمالي من جبل (صبر) الذي يرتفع (٩٧٦٣) قدما عن سطح البحر ، ويقدر سكانها تقريبا : (١٥٠٠٠) نفس ، وهي تبدو من بعد فى جمال طبيعي رائع ، بسورها القديم وقباب مساجدها وماذنها العالية ، ومن وراء ذلك تبدو الممرات والطرق الضيقة فوق الانحدارات الجبلية المؤدية إلى مساكن "الزيديين " التى تشبه الصياصى فى ارتفاعها وقوة بنائها ، ويستغرق الوصول الى بعض هذه المحلات المرتفعة يوما كاملا .
وبالقرب من دائرة الافق بشاهد الانسان فى هذه البلدة سلاسل جبلية عالية ، وراءها سلاسل اخرى أرفع من الأولى ، وقمم هذه الجبال ترى دوما ملبدة بغيوم وضباب .
وبها عمارات فخمة كمسجد المظفر ، وقصور أخرى . وكانت جموع من أهالى البلدة يتبعوننا ونحن نمشى فى اسواقها المزدحمة . ومما استلفت نظرنا جدار اثري في اعلى المدينة وبجانبه عين تنبع من جيل مجاور يجرى ماؤها فى قناة حجرية الى داخل البلدة .
وبعد تجوالنا فى البلدة عدنا إلى قصرنا حيث تناولنا الغداء ، ثم استقبلنا مندوبا من قبل الحكومة جاء مرحبا وعند انصرافه سمح لنا بأخذ صور المناظر التى تعجبنا فى البلدة وكانت هذه ميزة خاصة أنعم بها علينا .
وقد قلنا لهذا المندوب : اننا نريد الوصول الى صنعاء عن طريق الجبال وعلى ظهور الخيل ، وان نعيد سياراتنا الى (الحديدة) فلم يبد ارتياحه لهذا الطلب بل حسن لنا ان نسلك طريق السيارات ، وقال : يمكنكم ان تسلكوا طريق الجبال اذا رجعتم . وعندئذ ادركنا ان ترتيبات خاصة قد اجريت لسيرنا ووصولنا إلى صنعاء من هذا الطريق .
ثم قررنا ان نغادر (تعز) يوم الجمعة بعد مشاهدة العرض العسكرى الاسبوعى .
يوم الجمعة : يوم عبادة واستعراض عسكري . .
يعتبر يوم الجمعة يوم عبادة وراحة يجتمع فيه المسلمون للصلاة فى الجامع ويقام فى (تعز) عرض عسكري كل يوم جمعة قبل الصلاة وبعدها تشترك فيه الفرقة الموسيقية وما يقارب من ستمائة جندى من المشاة والهجانة والخيالة وكان المنظر ، ونحن نشاهد هذا العرض ، يقدم لنا صورة ناطقة من مناظر ألف ليلة العربية ، باضافة نوع من الزخرفة الصناعية الغربية اليها
وعند ما اقترب الجنود من القصر الذي كنا فيه وقفوا تحية لنا برمة قصيرة وهم ينشدون اناشيدهم الوطنية الحماسية باصوات عالية ويلعبون بسيوفهم حاملين الاعلام والبنادق على اكتافهم وأيديهم .
وبعد ما انتهى الاستعراض العسكرى ودعنا القائمين بضيافتنا وخرجنا من ( تعز) والشمس تملا الارض بأشعتها الحارة ، وبدانا نسلك المناقب في المعطفاتت الشمالية المائلة من جبل (صبر) ثم اخذنا ننحدر فى شعب وعرالى واد خصيب تكثر فيه اشجار النخيل وكنا نشاهد على اطراف الوادى حقول الذرة كانها طبقات بعضها فوق بعض تصور لنا المجهودات الجبارة التى بذلنها الاجيال الماضية فى اصلاح تلك الاراضى الجبلية وتهيئها للحراثة والزراعة . . ولوعورة الطريق وصعوبة السير فيه كان يبدو لنا ان المسافة تزداد طولا كلما قطعنا منها جزءا .
بلدة (حيس): وعندما اقتربنا من بلدة (حيس) كنا نرى من حين لآخر أنوار " الكشافات اليدوية " الساطعة وكانت اصوات ابواق عسكرية تتعالى
من ناحيتها كتحية لوصولنا ، واشعارا للناس باقترابنا من هذه البلدة . وبعد دقائق وصلنا (حيس) وهي بلدة صغيرة فى أرض منخفضة استقبلنا عاملها فى قصره مع نفر من خدمه وقدم لنا سريرا صغيرا للجلوس ووسائد نتكئ عليها ولأول مرة فى حياتى جلست على ساقي وقدمى وذلك بثني الساق تحتي لئلا اضطر الى مدها نحو انسان فيتاثر من عملى . ثم قدم الينا الشاى وبعد فراغنا من شربه قمنا إلى غرفة الطعام حيث كانت المائدة قد رتبت فوقها كميات كبيرة من انواع الاطعمة العربية . . ولضالة نور المصباح لم نتمكن من معرفة كل ما كان على الخوال . ولما كانت الاطعمة كلها عربية قررنا ان لا ناكلها إلا بالطريقة العربية اى بالاصابع دون استعمال الشوكة أو السكينة أو الملعقة . ومن الاطعمة التى عرفناها ، قطع من اللحم المحمر وافراخ محمرة ومرق به قطع من الأفراص الصغيرة
ثم انتقلنا بعد الاكل الى غرفة أخرى خصصت لنومنا وكان بها عدد من السرر إلا انها صغيرة جدا ، لذلك اخترنا الصعود الى السطح والنوم على الأرض وافترشنا معاطفنا ونمنا فى ضوء القمر الشاحب . وقبل أن انام فتحت الرادبو وانا مضطجع لا سمع شيئا من اخبار العالم . وما انتشر صوته فى الفضاء الا واجتمع عدد كبير من الخدم واهل القصر فى المحل الذي تحتنا لاستماعه فأدرت مفتاحه على محطة كانت تذيع موسيقى غربية تطييبا لنفوسهم وتركت الرادبو مفتوحا حتى انتهت الإذاعة
كان عامل البلدة رجلا نحيفا ذا عينين جحراوين وخدود غائرة ، وكان جد حريص على مؤانستنا ودفع وحشة الغربة عنا فقضى وقتا كبيرا فى محادثتنا ومسامرتنا باحاديث عادية قليلة الاهمية وكانت كل حركة من حركاته تشعر أن الرجل يقاسي آلام مرض شديد وقد لاحظ ذلك رفيقي الدكتور بالمركما لاحظته وفي اليوم الثاني تقدم الدكتور إليه وفحصه فحصا دقيقا تأكد منه ان الرجل بعانى اشد انواع مرض السل الخبيث ، الا انه لم يستطع ان يفهمه بنتيجة الفحص ونادي (عبده) الترجان ، وكاشفه بالحقيقة وقال له : بلغ العامل ، ان الدكتور
ينصحك بالسفر حالا إلى مستشفى الحديدة وأن تبقى تحت المعالجة ستة اشهر لترتاح بعدها من آلام هذا المرض الفتاك الذي ترزح تحت آلامه و اوجاعه ، فذهب (عبده) اليه واخبره وبعد ما سمع العامل كلامه لاحظنا عليه نوعا من الامتعاض والضجر ، أطرق برأسه واشتمل بردائه وخرج من عندنا مغمومًا متأثرا .
التقاليد تتغلب على الطب الحديث
سألنا (عبده) بعد خروج العامل من عندنا ماذا قلت له ؟ وماذا قال لك عن فحصنا ووصف العلاج له ؟. فاجاب (عبده) بصوت خافت : لم اخبره بالحقيقة وبكل ما قلتم . . فاستغربنا منه لهذا التصرف السئ ، وسألناه بشدة : ولماذا لم تخبره بالحقيقة ؟
فرد علينا بهدوء : ان من عادتنا ان لا نقول للرجل المسلول : انت مصاب بكذا ! لأننا إذا صرحنا له بهذا الامر معناه اننا اسلمناه للموت المحقق ولذلك لم استحسن ان يسمع هذه الحقيقة منى بل اترك لغيرى ممن سمعوا منكم ، مهمة التبليغ ونقل النصيحة بحذافيرها . ومن ذلك ادركنا ان العادات والتقاليد لها اهمية كبيرة لدى القوم . . وقد بلغنا عند عودتنا من الرحلة نبا وفاة هذا العامل .
بعد تناول الفطور قمنا بجولة استطلاعية في اسواق البلدة وأزقتها الضيقة والمسقفة بقطع من الحصير ، واشترينا بعض اوان من الفخار البراق ، وتشتهر هذه البلدة بهذه الصناعة التى ينقصها شئ كثير من الجودة والتناسق ، وبعض الاوانى اكتفينا بأخذ صورها .
ثم ارتحلنا من (حيس) متوجهين تلقاء (زبيد) وبعد ان قطعنا ما يقارب تسعة وعشرين ميلا فى سهل منبسط قلما وقع نظرنا فيه على الماء او الخضرة بلغنا (زبيد) مدينة العلم القديمة . . والقادم اليها يرى مساجدها وماذنها وسورها وقلاعها من مسافة بعيدة .
وعند دخولنا البلدة رأينا احد حراس الباب وقد وقف فوق السور يعلن ببوقه نبا وصولنا فاجتمع السكان واحاطوا بسياراتنا واستقبلنا عامل البلدة بجماعة
معه . وقفنا لحظة امام حصن عظيم كأنه من حصون القرون الوسطى ذي ابراج شاهقة وشرفات عالية . ثم استصحبنا العامل إلى منزله حيث شربنا القهوة العربية وقد حاول كثيرا فى اقناعنا على البقاء أو نوافقه على المبيت عنده وتناول طعام العشاء معه ؛ الا ان وقتنا لم يكن يسمح بقبول دعوته فشكرناه على هذه الاريحية وطلبنا منه ان يسمح لنا بزيارة الحصن الذي استوقف نظرنا عند دخولنا فاذن لنا وارسل معنا من يرافقنا فى تلك الزيارة . دخلنا الحصن وطفنا بين مداخله الملتوية ومحلاته الضيقة ثم انتهينا فى النهاية الى رحبة واسعة في وسطها حديقة غناء وبها انواع لا تعد من الآزهار واشجار مختلفة كالعنب والباباي والتين والليمون ، والنار جيل ، وفي وسط الحديقة نافورة ماء بديعة الصنع جذبنا حسن مرآها الى الجلوس حولها وكأننا انتقلنا بجلستنا الهادئة فى تلك الحديقة الى عالم غير عالمنا وكنا نود ان تطول المدة ؛ ويزداد تمتعنا بذلك الجو الشعري الهادىء إلا ان اوقاتنا كانت محدودة ليس فيها مجال لاطالة المكث اكثر مما جلسنا فاضطررنا الى الخروج من الحديقة مستصحبين معنا بعض هدايا من منتوجاتها . ثم ودعنا عامل البلدة وتحركنا نحو مدينة (بيت الفقيه) وكانت جوانب الوديان التى نمر بها مناطق جبلية مدرجة كالتى رأيناها من قبل مكسوة باشجار متشابكة او بمزارع واسعة وبعد ساعتين تقريبا وصلنا (بيت الفقيه)..
وهي مدينة جميلة المباني ذات مناظر خلابة بها بعض مساجد أثرية برح تاريخ بنائها إلى عدة قرون ويقدر عدد سكانها (١٥٠٠٠) نسمة تقريبا وتوجد فى احدى ضواحي البلدة قلعة كبيرة تقدر مساحتها بعدة مئات من الأفدام المربعة وهي من بقايا آثار الحكم التركى .
تناولنا طعام الغداء عند عامل البلدة على الطريقة العربية وكان فيه البطيخ ) الحبحب) ضمن الاطعمة التى وضعت على المائدة وقد وجدنا فيه - بعد سيرنا فى حرارة الشمس اللاذعة - طعما لذيذا باردا شهيا .
وبعد الغداء قام رفيقي الدكتور كعادته بمعاينة نفر من المرضى واعطائهم الأدوية اللازمة . ثم استأذن العامل فى مواصلة السفر إلى :
) الحديدة) : وكانت الأراضى التى نمر بها وديان رملية وأراض صحراوية تصادفنا فيها بعد مسافة وأخرى واحات عاثرة أو مزارع زاهرة او بلاقع سرابية وكان سير السيارات فى تلك الاراضى الرملية امرا شاقا جدا وقد شهدنا لسائق سارتنا بالبراعة التامة والمهارة الفائقة فى السياقة إذ كان يسير فى تلك الرمال السافيات على غير اثر واضح ، سيرا كانه يجرى بسيارته فى طريق معبد لاحب .
وعندما بدأ ظلام الليل ينشر اجنحته على الكون وصلنا ارضا كلها مزارع وحقول وكانت سياراتنا كثيرا ما تغيب بين تلك الأجمات القصبية اذا مرت من وسطها .
وعلى مسافة خمسة عشر ميلا من الحديدة استقبلنا عاملها وكان قد خرج بسيارته لهذا الغرض وبعد ان تصافحنا وتبادلنا التحايا سرنا معها حتى دخلنا ) الحديدة) ورأينا عند مدخلها جموعا من الإهلين ينتظرون دخولنا
كان القصر الذى نزلنا فيه قصرا شامخا مطلا على مياه البجر الإحمر وكان منزلنا في الطبقة الثالثة حيث كانت نسائم البحر ترحب بنا وتخفف عنا ما لفيناه فى اثناء الطريق من وعثاء السفر و حرارة الشمس وغبار الاودية كانت الغرف كلها مؤثثة بأثاث عصرى أنيق . والطعام كان يجهزه طباخ ماهر تدرب على صنع الاطعمة على الطريقة الافرنجية فى تركيا وكانت تقدم الينا بنفس الطريقة
(له صلة)
