تقديم الكتاب : (*)
صدر الجزء الاول من " تاج المفرق فى تحلية علماء المشرق " وهى رحلة قام بها خالد بن عيسى البلوى الاندلسى بداية من يوم السبت 18 صفر 736 ه ( 1935 م ) الى غرة ذى الحجة سنة 740 ه ( 1339 م ) فيكون بذلك قد غاب عن وطنه الاندلس مدة خمس سنوات تقريبا .
التعريف بالكاتب :
هو أبو البقاء خالد بن عيسى بن أحمد بن ابراهيم بن أبى خالد البلوى القتورى (1) . ولد بقتورية (2) حيث كان والده قاضيا بها . ويبدو أنه ولد حوالى سنة 713 م ( 1313 م ) لانه عندما ارتحل الى بلاد المشرق سنه 736 ه كان شابا فى مقبل العمر . قال عنه ابن الخطيب فى الكتيبة الكامنة : انه راح الى المشرق مع اخضرار العود وسواد المفرق .
تلقى البلوى العلم بمسقط رأسه فقرأ القرآن ومبادئ العربية ثم درس القراءات السبع عن اثنى عشر شيخا ثم اخذ يجوب عواصم الاندلس بحثا عن الشيوخ والعلماء فانتقل بين غرناطة ومالقة كما ارتحل الى تلمسان وتونس والاسكندرية والقاهرة والقدس وكان ذلك اثناء توجهه الى البقاع المقدسة
لأداء فريضة الحج . وبعد هذه الرحلة الطويلة عاد الى قتورية فأصبح فيها معدودا من رجال الفكر والفقه والادب وتولى القضاء هناك ثم انتقل الى القضاء ببرشانة وهناك أتم كتابة رحلته . ومن الملاحظ ان هذه الرحلة تعتبر أهم آثاره التى وصلتنا .
أما وفاته فقد جعلها الزركلى فى أعلامه (3) سنة 765 ه / 1364 م . ويعارض الاستاذ الحسن السائح هذا الزعم مبينا " أن المؤلف أتم كتابة رحلته فى اليوم الاخير من شهر ربيع الاول عام 767 ه ببرشانة واذن فقد عاش بعد هذا التقدير على ان من المحقق انه توفى قبل 680 ه لان ابن الخطيب ذكره فى الريحانة التى ألفت سنة 680 وترحم عليه " (4) .
وصف الكتاب :
1 - من الخارج : الجزء الذى صدر من رحلة " تاج المفرق " مطبوع فى مطبعة فضالة - المحدية - بالمغرب تحت اشراف اللجنة المشتركة لنشر التراث الاسلامى بين حكومة المملكة المغربية وحكومة دولة الامارات العربية المتحدة . وقد جاءت هذه الطبعة بدون تاريخ فلم يعثر عن أى تاريخ للطبع أو للتحقيق . وهذا خطأ ما زالت دور نشر عربية كثيرة تهمله ولا توليه أهمية فلا نستطيع بذلك مراقبة تطور الابحاث والتحقيقات . واذا كان شكل الكتاب واللون جالبين لنظر القارىء فان الكتابة اكثر جاذبية . وهذه ميزة هذه الطبعة . الا انك اذا تمعنت فى الارقام فانك ستلاحظ عدم توافق أحيانا بين ما هو فى المتن وبين ما هو فى الهامش واحيانا أخرى تجد الرقم فى الهامش دون ان تجده فى المتن والعكس صحيح . ومن الاخطاء الشائعة ، حذف بعض الحروف أو تعويض حرف بحرف وهى أخطاء تبدو بسيطة الا ان ذلك معرة تشين . وعلى دور النشر ان تتخلص منها خاصة بعد ان تطورت آلة الطبع .. بقى أن نشير الى ان الورق المستعمل فى هذه الطبعة صقيل وجيد وعدد صفحات الكتاب 318 صفحة .
2 - من الداخل : ونعنى بوصف الكتاب من الداخل تحقيقه وتقديمه فما هى قيمة هذا التحقيق ؟
لقد قام بتحقيق هذا الجزء وقدم له " والعلامة حسن السائح " فاعتنى المحقق بوضع مقدمة قيمة لهذا المؤلف أتى فيها على العناصر التالية : ترجمة
البلوى ثم الجانب التاريخى لرحلة البلوى ثم الجانب الادبى فى رحلة البلوى ثم الجانب الجغرافى للرحلة ثم الجانب الوثائقى للرحله ويختم المقدمة باثبات معجم باسماء المؤلفين المغاربة فى فن الرحلات . وتمتد هذه المقدمة من الصفحة الاولى إلى الصفحة 137 . وهى مقدمة تكشف عن جوانب متعددة لهذه الرحلة الحجازية فتضئ سبيل القارئ وترشده الى قيمتها .
ولا شك فى ان رحلة البلوى تستحق هذا الاهتمام وهذه العناية وبالتالى هذه المقدمة التى حاول فيها صاحبها أن يلم بجوانب الموضوع فما هو العمل الذى قام به في هذا الكتاب وهل استجاب هذا العمل للمنهجية العلمية فى تحقيق الكتب ؟
ان الجهد الذي بذله المحقق يدل على عنايته بهذه الرحلة . والسبب فى ذلك يعود لقيمتها التاريخية وخاصة الادبية وقد تفطن المحقق لهذه الاهمية الا ان عمله بالرغم من حديثه وصرامته فى تحقيق الاحداث والتواريخ فانه لم يكن خاليا من عدة عيوب كان على المحقق ان يتلافاها حتى تكون نتيجة التحقيق ايجابية ويبدو ان الاستاذ حسن السائح قد تفطن لما قد يقع فيه من معايب فى التحقيق إذ قال : " .. وعندما كنت أحقق المخطوط خالجتنى عدة أفكار كتحقيق تراجم بعض الاعلام والكلام على بعض المؤلفات التى يشير اليها البلوى و تعاليق عن الاجازات وأثرها فى طريقة التعلم فى المغرب والمشرق وموضوعات أخرى تتعلق بالاماكن التى زارها البلوى ولكنى لاحظت أن هذا سيؤدى الى اخراج الكتاب فى جزأين وسأشغل القارئ عن مسايرة الرحالة حيث أجره إلى الدرس والتفكير بدل أن أدعه يتجول مع البلوى فى رحلته لذلك فقد اختصرت من التعاليق جهد الاستطاعة " (ص 9 ) .
وهذا الاتجاه الذى نحاه المحقق لم يعصمه من اهمال جوانب لا بد منها لافادة القارئ . وبما ان غاية كل محقق هى أن يخرج النص المحقق اخراجا حسنا يسهل قراءته واستغلاله فى أيسر جهد وأقل وقت . ولذا نرى أن الاستاذ حسن السائح قد أهمل أمورا " لا تشغل القارىء عن مسايرة الرحالة " انما تضئ الطريق أمامه فيستفيد اكثر من هذه الرحلة الممتعة ومن الجوانب التى أضرت بالتحقيق نذكر :
أ - وهى تقسيم النص الى فقرات حتى لا يبقى القارئ بتابع الرحلة دون ان يتفطن الى مراحلها .
ب - من المفيد ذكر اسماء المترجم لهم فى عناوين تسهل التعرف عليهم والرجوع اليهم ان احتيج لذلك .
ج - من المفيد أيضا ان تقابل التاريخ الهجرى بالتاريخ المسيحى خاصة وقد تعود القارئ على استعمال التاريخ المسيحى فى حياته اليومية .
د - ومن الضرورى فى كل تحقيق ان نشير الى اختلاف نسخ المخطوطات خاصة وقد تعددت نسخ " تاج المفرق " كثيرا .
ه - ومن المحبذ ان تذكر بحور الاشعار التى وردت فى الرحلة ، وهى كثيرة .
ان الملاحظات التى ذكرناها لا تعطل " مسايرة الرحلة " هذا اذا وافقنا الاستاذ المحقق على ان " تاج المفرق " قصة أو شئ كالقصة الغاية منه مصاحبة الرحالة دون تفكير ، بل انها ملاحظات تساعد القارئ وتمكنه من الاستفادة مما يقرأ .
واذا قبلنا عذر الاستاذ المحقق فى عدم الاكثار " من التعاليق جهد الاستطاعة " أثناء تحقيق النص فاننا لا نقبل عذره - وان لم يشر الى ذلك - فيما يهم اهمال الفهارس . وهذا الاهمال تقصير فادح في التحقيق لا يمكن أن نتغافل عنه . ولذا نرى أن الفهارس التى يجب أن تتوفر فى " تاج المفرق " هى التالية :
1 - فهرس الاعلام 2 - فهرس الاماكن 3 - فهرس المؤلفات 4 - فهرس الاشعار
وباختصار فانا نرى أن هذه الطبعة " لرحلة البلوى " " تاج المفرق " طبعة رديئة توفر فيها عدم العناية وعدم الحرص على الجد . ولذا جاء هذا الكتاب فى شكل مخطوط مطبوع بخطوط واضحة .
التعريف بمحتويات الرحلة :
ننطلق فى التعريف بمحتويات " تاج المفرق " من فقرة اوردها البلوى فى الصفحات الاولى من كتابه فقد قال " هذا تقييد أطلعه عون من الله وتأييده
قصدت به ضبط موارد الرحلة الحجازية وذكر معاهد الوجهة المشرقية جعلها الله تعالى فى ذاته وابتغاء مرضاته بمنه وكرمه والممت مع ذلك بذكر بعض الشيوخ من العلماء الفضلاء الذين يطؤون ذيول البلاغة ويجرون فضول البلاغة و لهم كلام يتألق منه شعاع الشرق وتترقرق عليه صفاء العقل وينبث فيه فرند الحكمة ويعرض على حلى البيان وينقش فى فص الزمان .. والمعت بذكر نبذ من فوائدهم واختبار طرف من أناشيدهم ومزجتها بما جرت اليه العبارة وحسنت فيه الاشارة من قطع الشعر المناسبة قطع النور المنتظمة من جواهر اللفظ البعيدة الغور القريبة الحفظ ... " (5)
فمن خلال ما أوردنا نلاحظ أن " تاج المفرق " على عنصرين أساسين هما : ذكر مراحل طريق الحج أولا والترجمة لاساتيذه ثانيا . وقد أكد على ذلك مرة أخرى حين قال " ... انى خرجت قاصدا للحج وطالبا للعلم ... " فما هى فوائد هذه الرحلة ؟
1 - مراحل طريق الحج :
انطلق البلوى فى رحلته من بلدة قتورية وهى حصن من حصون المنصورة من أعمال غرناطة متجها الى مدينة ألمرية عن طريق البحر الى أن وافى مرسى هنين بالمغرب الاقصى ثم انتقل الى مدينة الجزائر ثم بجاية فقسطنطينة قبلا العناب ( وتسمى أيضا : بونة ) ثم وصل الى حضرة تونس المحروسة ، ومنها ركب ثانية فى المركب مع نحو ألف راكب الى جزيرة ( مالطة ) ومنها إلى الاسكندرية فالقاهرة فغزة فمدينة الخليل فمدينة بيت المقدس فالبقاع المقدسة ( المدينة المنورة ثم مكة المكرمة )
وبعد أداء فريضة الحج يقفل راجعا بداية من 16 محرم سنة 738 ه فيتبع نفس مراحل الذهاب تقريبا ويعود من الاسكندرية الى تونس عن طريق طبرق ( برقة ) وبعد ان أعرض عن ركوب البحر اثر زوبعة كادت تغرق السفينة التى كان يركبها .
واذا نظرنا فى المراحل التى قطعها البلوى فى هذه الرحلة فاننا نلاحظ أنها لا تختلف كثيرا عن المسلك الذى سلكه ابن جبير أو غيره من الرحالين
ولذا نستنتج أن تسطير البلوى لهذه المراحل لا طرافة فيه . لكن ذلك لا يعنى أن الفائدة منعدمة من هذه الناحية اذ عمد المؤلف الى طريقة جديدة لوصف هذه المراحل فما هى خصائص الوصف عند البلوى ؟
1- تحديد المسافات : أول ما يسترعى الانتباه فى " تاج المفرق " أن المؤلف لا يحدد المسافات الا نادرا فهو يهمل هذا الجانب لاطلاع الناس على المراحل التى يقطعها الحاج الى البقاع المقدسة ذهابا وايابا ، خصوصا إذا أضفنا الى ذلك أن قوافل الحجيج تكون مصحوبة عادة بالادلاء وأحيانا بالعسكر لحمايتها من قطاع الطرق وعصابات اللصوص والاعراب . ومع ذلك يشير المؤلف أحيانا الى تحديد مسافة كقوله " .. أبو جردة .. على اثنى عشر ميلا من الخضرة " (6)
2 - وصف المدن : ان اهتمام البلوى بوصف المدن ليس فى نفس الدرجة . فأحيانا يذكر اسم المدينة مشيرا الى موقعها مثل حديثه عن مدينة الجزائر التى " أحاط بها البحر احاطة السوار بالزناد " (7) واحيانا اخرى يتوسع فى الوصف فيتعرض إلى تاريخ بناء تلك المدينة وآثارها العظيمة ومفاخرها العجيبة من ذلك حديثه عن الاسكندرية (8) أو القاهرة (9) . وبصفة عامة يمكن أن نحصر خصائص وصف المدن فى النواحى التالية :
أ - الاشارة إلى موقعها وتحصنها وما يحيط بها من أودية أو انهار او بحار (10) .
ب - التعرض الى مسالكها وطرقها وأزقتها ومبانيها من ذلك ما قاله فى وصف الاسكندرية " فلم أر مدينة أحسن منها وضعا ولا أبدع ربعا ولا أوسع مسالك ولا اعلى مبانى ولا أسمى مراقى ولا أجمل مراسم ولا أوضح معالم
ولا أملح أزقة ولا أعجب رونقا ودقة ولا أحسن تفصيلا وجملة (11) أو ما قاله عند ذكر مدينة غزة فهى " فسيحة الساحة مستطيلة المساحة نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحظة " وأضاف قائلا " هى ما شئت من منظر عجيب و جانب رحيب وبسيط خصيب وساحل قريب ومكان مؤسس لكل غريب .. " (12)
ج - الاهتمام بنظافتها ورونقها من ذلك ما قاله فى وصف تونس المحروسة و " طفقت أتمشى فى الاماكن المكينة وأتخلل سكك المدينة واتعجب من محاسنها المستبينة ووضوح قدمها ورسوخ قدمها وبهجتها وانفراجها وانفساح رباها وابراجها ورونق رياضها وتذلل الهموم لفرجتها وارتياضها واتساع جنباتها وافنائها .. فدخلت منها جنة حفت من طرقها بالمكاره وعقيلة عقلت قلب الطائع والكاره فهى الدمية الغراء والقبة اللعساء والخريدة العيناء .. "
د - الاهتمام ايضا بنظافة المدينة وجدة بنائها أو قدمه ومثل ذلك ما قاله عن قرية " تبوك التى غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلدها اليوم خراب وعلى كل جدار غراب " (13) وهذه الاشارة كافية لابراز حساسية البلوى لمشهد الخراب وما يبعثه فى النفس من شعور بالالم والتشاوم .
ه - التعرض لآثار المدينة وما تمتاز به : فقد اهتم البلوى أولا بالجوامع وكثرتها مثل وصف المسجد الاقصى فى بيت المقدس الذى امتد على ثمانى صفحات فجاء وصفه لوحة معمارية متكاملة ومتناسقة تدل على ذوق البلوى ومعرفته بالفن المعمارى عند المسلمين فذكر طوله وعرضه ومساحته وعدد سواريه وأبوابه ومحرابه ونقوشه وزينته .. ثم يتعرض للمارستانات ان وجدت وزارها ثانيا من ذلك حديثه الطويل المفحم بالاعجاب والتقدير عن مارستان بالقاهرة فنورد جملة تدل على ما ذكرنا قال " ولو استقصيت الكلام قى هذا المارستان وحده لكان مجلدا مستقلا بنفسه اذ فى مبانيه الرائعة وصناعاته وتواريخه المذهبة ونقوشه العجيبة المنتخبة التى ترفل فى ملابس الاعجاب وتسحر العقول والالباب ما يفتن النفوس ... فما وقعت عين على مثله
ولا سمعت بشبهه وشكله ... " (14) ثم يصف ما تمتاز به كل مدينة من آثار فلم ينس أن يتعرض لما عاين فى الاسكندرية من سوارى الرخام وخاصة منارها الذى قال فيه " ومن عجائب الاسكندرية ايضا المنار وهو بخارجها قد صعد كالبرج الاعظم فى عنان السماء اساسه كله معقود بالرصاص وبثياته بالحجر المنجور الجافى يزاحم السماء سموا وارتفاعا ... " (15) أو ما ذكره فى وصف القاهرة فتحدث عن الاهرام القديمة المعجزة البناء الغريبة المنظر البديعة الانشاء كأنها القباب المضروبة قامت فى جو السماء .. " (16) ويهتم أخيرا بالمشاهد وهى قبور الصالحين مثل مشهد السيدة نفيسة رضى الله عنها والمسجد العظيم الذى أقيم عليه وكذلك مشهد السيدة زينب رضي الله عنها وأيضا مشهد الامام الشافعى وكل هذه المشاهد فى القاهرة ...
و - و كثيرا ما يتعرض البلوى اثناء وصفه للمدن التى مر بها الى طبائع سكانها واخلاقهم واحتفائهم بالغريب فقال عندما وصف مدينة الجزائر إنه رأى " أناسا قد سلكوا الى الحسن والاحسان طريقا " الا ان حديثه عن سكان المدن يأتى قصيرا ومختصرا وهذه ظاهرة فى جميع الرحلات تقريبا .
ز - وقد تحدث صاحب " تاج المفرق " مرة على الشرط اثناء دخول جمعهم ميناء الاسكندرية ، وهم أعوان الديوان الذين يحرسون حركة الوارد والصادر فى ذلك الميناء وقد وصفهم البلوى وصفا مؤثرا اذ قال " فلما وطئنا الرمل وسلمنا على الاخوان احتضنا بالشرط والاهوان وحملنا بأجمعنا الى الديوان هناك شاهدنا الحساب ورأينا العذاب ، وملأوا منا البيوت والرحاب ثم أمرت اليد على القليل والكثير والحفير والنقير والدفتر والقطمير والرفيع والوضيع والغنى والفقير ، وفتشت الاوساط وعم الزحام والاختلاط وكثر الهياط والمياط حتى خرج المخزون والموزون وبرز المعكوم والمختوم وعند الله تجمع الخصوم فأخذ من كل عشرة دنانير ديناران ومن كل عشرة دراهم درهمان ، ظلما وعدوانا وجورا وطغيانا فاستشعرت الاسف .. " (17)
ان هذه الفقرة تصور لنا بصدق ما كان يعانيه الحجاج من دفع ضرائب عندما يمرون بالاسكندرية ولم تكن معاملتهم معاملة لطيقة . ولا يكفى ما يكابده
قاصد البقاع المقدسة من أخطار ، فى البر أو فى البحر ، بل ينضاف الى ذلك تحدى مشاعرهم وأخذ زادهم . ولا يفوتنا هنا أن نشير الى أن ابن جبير قد تعرض إلى وصف نفس الحادثة فى رحلته التى قام بها سنة 578 ه (1182 م) وكان ذلك فى عهد الملك العادل صلاح الدين الايوبى الذى رفع عنهم هذه المظلمة (15) .
اننا نلاحظ مما تقدم أن البلوى كان فى وصفه عابر سبيل اذ لم يدقق وصفه ولم يضبطه وهذا يناقض ما ادعاه فى أول رحلته من انه قصد من تقييد رحلته " ذكر موارد الرحلة الحجازية وذكر معاهدة الوجهة المشرقية " بعكس ما فعل ابن جبير مثلا فقد وصف مراحل الرحلة وصفا جغرافيا دقيقا يمكن ان يكون دليلا للحاج ..
ويمكن ان نجد تفسير التقصير البلوى فى الوصف وتحديد مراحل الطريق الى الحجاز وهو ان صاحبنا اعتنى بمسألة الترجمة للشيوخ الذين التقى بهم . فما خصائص الترجمة عنده ؟ وهل اعتنى بها ؟ والاجابه عن هذه المسألة تمثل الفائدة الثانية لرحلة البلوى .
2 - الترجمة فى " تاج المفرق "
هذا الجانب الثانى من هذه الرحلة الذى اهتم به المؤلف بل يمكن القول انه الجانب الاهم فيها ولذا يمكن اعتبار " تاج المفرق " كتاب ترجمة . فقد تعرض البلوى الى اثنتين وثلاثين ترجمة مطولة لعدة علماء فى هذا القسم المطبوع منها واحدة من بجاية وواحدة من قسنطينة وست من تونس وسبع من الاسكندرية وست من القاهرة وسبع من القدس واثنتان من المدينة المنورة واثنتان من مكة المكرمة . ويمكن القول ان هذه التراجم قد اشتملت على جل صفحات الكتاب فقد تمتد الترجمة الواحدة على ثمانى صفحات وقد تمتد على نصف صفحة الا ان أغلب التراجم طويلة . فما هى خصائص الترجمة عند البلوى ؟
ان البلوى يمثل الطالب المتعطش للمعارف فى عصره وليس هذا خاصا به اذ العصر انتشر فيه الجهل من ناحية وخيف فيه على كيان الامة الدينى من
ناحية ، فالعصر عصر انعدم فيه الامن واندحرت الاخلاق الفاضلة وتراجع المد العلمى للمسلمين . ويتمثل هذا التراجع فى الاعتناء بالجمع والتلخيص والاختصار والشرح وهذه الطرق المعرفية تترجم انعدام الابداع والابتكار فى ميادين العلم والمعرفة . وبالاضافة الى ما ذكرنا فاننا نؤكد على مسأله أخرى هى انحباس الاشعاع العلمى فى المراكز العلمية التقليدية ( فاس - القيروان القاهرة ... ) ولذا كان على الطالب ان يبحث عن الشيوخ والعلماء فصارت الرحلة من أهم مصادر العلم . وهذا ما انتبه اليه المفكر التونسى ابن خلدون الذى عقد فصلا فى مقدمته عنوانه فى أن الرحلة فى طلب العلوم ولقاء المشيخة مريد كمال فى التعلم " (19) وليست الرحلة فى رأينا مزيد كمال فى التعلم فى القرن الرابع عشر انما هى ضرورية لكثرة الاصطلاحات وتداخلها وتضاربها وبالرحلة يستطيع المتعلم ان يميز بينها ويدقق معانيها " فلقاء أهل العلوم وتعدد المشائخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم ويعلم انها انحاء تعليم وطرق توصل وتنهض قواه الى الرسوخ ... وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما " (20) .
ان ما قاله ابن خلدون يصدق على خالد بن عيسى البلوى . فقد كان صاحب " تاج المفرق " فى شوق لا يرتوى الى لقاء العلماء حيثما حل فيسرع للبحث عنهم حتى ان عبر قرية صغيرة مثل بجاية وقد عبر البلوى عن لهفته للقاء العلماء والاخذ عنهم عدة مرات من ذلك ما ذكره عند دخوله قسطنطينية فقال " وبادرت الى لقاء الفضلاء ومباحثة النبلاء اجتلى واجتنى ولا اجتنب وأنا والطرس فى ملء انتقى منهم وانتخب " (21) . وهذه اللهفة جعلت رحالتنا يستعمل طريقة خاصة فى الترجمة لمن تتصل به . فكيف ترجم لشيوخه ؟
ان البلوى لا يتبع الطريقة المعهودة فى التراجم من تعرض للنسب ثم تاريخ الولادة فنشأة المترجم له فدراسته فالوظائف التى تقلدها فانتاجه الفكرى أو الادبى واخيرا وفاته وتاريخها . قلنا ان هذه الطريقة التقليدية غير متبعة فى " تاج المفرق " . والسبب فى ذلك هو الاسلوب المبتكر الذي توخاه صاحبنا فى كتابة رحلته اذ لم يجعل لها عناوين ولا فواصل هذا من ناحية ومن ناحية
أخرى فانه يترجم للشيوخ الذين يلتقى بهم اثناء حديثه عن المدينة التى يحل بها او الجوامع التى يزورها . وهكذا تأتى الترجمة اثناء وصفه للمدينة التى يحل بها دون ان يجعل فاصلا بين العملين . وهذا لا يعنى ان صاحبنا لا يقصد الترجمة للشيوخ الذين يلتقى بهم انما الاسلوب الذى توخاه فى الكتابه اسلوب سردى وصفى .
مميزات الترجمة عند البلوى :
ان الاسلوب الذى توخاه صاحب " تاج المفرق " فى كتابته جعله يتعامل مع الفكرة لا على أنها الغاية مما يكتب انما غايته هى ان يحدث فى سمع القارئ نغما مطربا . وهذه الغاية جعلت ترجماته من نوع خاص امتاز فيه عن غيره من الرحالين مثل معاصره القاسم بن يوسف التجيبى السبتى المتوفى سنة 760 ه ( 1329 م ) ويمكن حصر تلك الميزات فى النقاط التالية :
1 - اضفاء مجموعة نعوت على المترجم له دينية وأخلاقية وعلمية ، ويطيل فى ذلك . وأغلب هذه النعوت تكون على صيغة فعيل أو أفعل أو ألفاظ تدل على التقدم والسبق والتفوق . وقد يستعين فى ذلك بالكناية والمجاز وكثيرا ما يفعل فها هو يقول فى أبى عبد الله بن عبد السلام هو " البحر المتلاطم الامواح والمنهل الذى تروى بعذبه بقاع الوهاد وتلاع الفجاج والمجموع الذى نزلت ساحته مفترقات العلوم نزول الماء الثجاج ، قاضى القضاة وامام الفقهاء والنجاة ورب العقل الوافر والحصاة .. " (22) وقد تزدحم هده الصفات والنعوت على قلم الكاتب فينساق معها حتى تمتد على صفحة كاملة . وهذه لعمرى ميزة لم نقع عليها فى كتب رحلات أو تراجم أخرى . لكن ما سبب الافاضة فى كيل الثناء والمدح ؟
أولا : ان البلوى كان فى شوق الى لقاء العلماء والفقهاء كما ذكرنا ، فانبرى يعبر عن ذلك الشوق دون وعى ، فكيف نريد منه ان يعاكس قلمه وهو يتحدث عن شيوخ لم يلقهم من لم يرتحل ويعانى السفر . اننا أمام طالب عند فاز بمرغوبه فانتشى فمدح واثنى .
ثانيا : ان البلوى لم يكن يزيف الحقائق ويكيل المدح بدون استحقاق فقد اعطى لكل ذى حق حقه فمن اثنى عليهم وأطال فى ذلك هم اعلام العصر بدون منازع فمن تونس مثلا الشيخ العالم أبو عبد الله بن عبد السلام او ابو الحيان بن حيان العالم الاندلسى الذي استقر بالقاهرة .
ثالثا : ان اطناب البلوى فى الثناء على أولئك الشيوخ يترجم نقصا كبيرا فى العلماء فأصبحوا أعلاما يقصدون ومنارة يهتدى بهم والشئ إذا ندر مدح فلا غرو ان يميل البلوى اذن الى هذا الاسلوب فى الاشادة بهم .
رابعا : ان صاحب " تاج المفرق " يعترف بفضل من يعلمه كلمة وهذا ما أشار اليه عند تردده فى اثبات ترجمة عماد الدين أبى الحسن بن أبى بكر بن أبى الحسن الكندى المالكى والسبب فى ذلك هو نفوره من الطلبة قال فى شأنه : " قد كنت لقيته فى المرة الاولى ولم أعمل فى اثباته اليد الطولى لاستصقابه وقد استصحابه وانقباضه عن حملة العلم وطلابه ثم رأيت ان اهمال ذكره اخمال لقدره واخلال به بين أهل قطره فشفعت فيه علمه واعلقت هذا الديوان اسمه " (23)
2 - عدم الاطالة فى ذكر نسب المترجم له والتحرى فى مكان ولادته وأصله ومذهبه مثل ما فعل معاصره التجيبى ، بينما اعتنى بوظائف المترجم له الدنيوية والدينية واخلاقه وعلاقاته بالطلبة والعلماء وذوى الجاه والسلطان . وان اهتم البلوى بالمكانة العلمية للمترجم له فانه لا يطنب فى ذكر صفاته ومروياته وشيوخه ومؤلفاته ويطنب فى الحديث عن لقائه كما ذكرنا .
3 - اهمال ذكر تاريخ ميلاد المترجم له وان ذكره - وهذا قليل الحدوث - فانه يذكره فى آخر ترجمته ، على عكس المألوف وهذا يفسر لهفته للأخذ عن الشيخ واستجازته . ومما يزيد تأكيدا هذا الرأى ان البلوى لا ينسى أن يذكر الاجازة التى يتحصل عليها من العالم الذى يترجم له . ففي كل ترجمة تقريبا نجد هذه الجملة " وأجازنى الاجازة التامة المطلقة العامة " وتأتى عادة بعد تدوين كل ما يسمعه عن أستاذه بتفصيل دقيق .
(23) ص 104 و ، من القسم المخطوط رقم 15060 المكتبة الوطنية بتونس
ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأن الاسلوب الذى توخاه فى الترجمة هو الاسلوب الذى اتبعه فى وصف مراحل الطريق او الآثار من بحث عن السجعة والمبالغة وما الى ذلك من وجوه فنية فالرحلة لوحات فنية متتابعة وهي صورة من النثر الفنى الذى تزعم مدرسته فى الاندلس لسان الدين بن الخطيب وذلك فى القرن الثامن للهجرة .
واخيرا نثبت لنا ملاحظات نذكرها :
الاولى هى ان كل مخطوط لا يحقق تحقيقا علميا لا فائدة فى طبعه اذ العصر علينا الحفاظ على الوقت وحسن استغلاله خاصة إذا آمنا اننا محتاجون اكثر من غيرنا إلى ربح الوقت والمال حتى نستطيع بناء حضارة تناسب ديننا وتاريخنا .
الثانية أن المسؤولين على النشر لم يعوا بعد ان حظوظ الامة والمستقبل بأيديهم إذ التخلف فى الواقع هو التخلف الذهنى الناشىء عن تخلف ثقافى لا محالة . فيهما أوتينا من قوة اقتصادية لا تواكبها بل لا تسبقها قوة ثقافية وفكرية لا يمكن أن نطمئن لمستقبلنا .
الثالثة أن الجهود التى بذلها الاساتذة على حمريت وعبد الرزاق الحمامى ومحمد نوفل الجزيرى فى تحقيق قسم ( اكثر من ثلين ) من " تاج المفرق " للحصول على شهادة التعمق فى البحث ، الاول منذ سبع سنوات والثانى منذ أكثر من سنة والاخير منذ أقل من سنة ، تلك الجهود قد ضاعت سدى بالرغم من صرامة البحث والتحقيق . وليس عمل هؤلاء الباحثين الا واحدا من مئات التحقيقات والدراسات التى تكتظ بها احدى خزائن كلية الآداب والعلوم الانسانية . والغريب أننا كثيرا ما نسمع بانعدام الدراسات العلمية فى المستوى الجامعى . فمتى سيقع تشجيع الباحثين بنشر بحوثهم ؟
