الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

رحلة الصراع ..

Share

" ألقت بنفسها تحت عجلات القطار لتضع حدا لحياتها " انزوى هذا العنوان فى ركن من جريدة " الصباح " التى تعودت ان تتصفحها كل ليلة قبل النوم ، فجذبها الى متابعة القراءة حتى نهاية التحرير . ولما فرغت منه ألقت الجريدة فى ذهول على منضدة بجانب سريرها ، وأخذت تفكر وقد ولد ذلك الخبر فى ذهنها فكرة ، فكرة لم تهتد اليها طيلة حياتها .

طريقة معقولة لوضع نهاية للشقاء الذى يرسم بريشة القدر على جباه بعض الناس :

" حياتى أسطر كتبت فى كتاب الزمن بيد مشلولة فجاءت مضطربة ، حياتى خطأ ارتكبه أبواى فقنعت أنا به ، بل أصررت على استمراره ، فهى خطأ لأنى جئت بعد سبعة من الابناء وثلاثة بعدى ...

أيمكن لهذا العدد الهائل ان يعيش كله سعيدا ؟ ان كان الحظ قد كتب على صفحات حياتهم السعادة فالقلم جف عند مروره على صفحاتى أنا !..

وتلك هى مشيئة القدر وذلك هو الحظ .

عشت سعيدة فى ظل أبوين سعيدين وعائلة تكتنفها الرفاهة من كل جانب الى الخامسة من عمرى عندما امتدت بشراسة يد الموت اللثيمة لاختطاف أبى من دنيانا فجمعت والدتى بشجاعة نادرة قلما توجد عند النساء مسؤولية الأب والأم فى كف واحدة وتصرفت بكل حكمة فى الثروة الموروثة عن أبى فأحسنت التصرف بتوفيرها لنا كل ما هو ضرورى فى حياتنا ، وحرصت على تعلم البعض منا على الاقل كى لا يذهب جهدها هباء فنجحت فيما رسمته وسهرت عليه حتى اصبحت بذلك مضرب الامثال فى التضحية والحكمة

والتجلد ، لكن رغم كل ما بذلته والدتى المثالية من أجلنا ، كانت قد غفلت عن رعاية خاصة لمثلى أنا الطفلة الحساسة .

فعشت ذابلة الطفولة ، نحيلة الجسم دائما مرهفة الحس ، خجولة الى درجة كنت أخشى فيها حتى اللعب مع اخوتى خوفا من ان يضربني أحدهم ، أو ينهرنى أخى الاكبر الذى كان بالنسبة لوالدتى ذراعها الايمن فى تسيير شؤون العائلة والذى كنا نحترمه جدا ونقدر فيه تحمله لتلك المسؤولية ورعايتنا الى جانب والدتى ، فصنعت من " الشعبيطة " عريشا تحت النافذة فى ركن من صحن المنزل . وانزويت فيه أمارس فى أوقات فراغى من المدرسة هواياتى العديدة ومنها التصوير الهواية المحببة الى نفسى . آنذاك ، كنت أنشر حولى وعلى المائدة أدوات التصوير وأقلام الزينة لارسم على الورق صورا جميلة كنت أحلم بها وكثيرا ما كنت أرسم ربيعا وزهورا وأطفالا يمرحون سعداء ، حتى تعلمت قراءة الالفاظ وفهم المعانى باللغة العربية فكان ذلك سلاحا عكفت به على المطالعة التى وجدت فيها مؤنسا لنفسى الميالة الى الوحدة والانعزال ، أما فى المدرسة فكنت تلميذة مثابرة ، مجتهدة ، محبة لدروسى حد العبادة ، لم تجرؤ ان تتربع تلميذة أخرى سواى على مقعد الرتبة الاولى طوال سنى تعلمى حتى بلغت الرابعة عشرة من عمرى عندما قررت العائلة ان تفصلنى عن المدرسة فى وسط السنة الدراسية بدعوى أن ثقافة الفتاة المنزلية أجدى لها للمجتمع فى المستقبل دون ان تقدر مدى الرجة التى هزت كيانى للمرة الثانية بعد موت أبى أو للمرة الثالثة بعد موت أختى وقد استمر أثرها فى كامل حياتى ، ودون أن تعطى لرفضى لذلك القرار اعتبارا ..

للفرد فى بيئتى حدود ضيقة للغاية لا يمكن أن يتخطاها مهما تكن ارادته . فارادة العائلة فوق كل ارادة فردية فى كل قراراتها ، فكنت من الصابرين على الظلم فيما قرر لى . لكن ازداد تعلقى بالمطالعة حتى أنى كنت أنسى فى جوها نفسي ، بل كنت أنسى جسدا يتطلب الاكل والشراب واترك المجال للفكر يرتع فيما حوته الكتب القديمة التى كانت تحتفظ بها خزانة ابى ، والقصص المترجمة والمجلات والصحف ، بل كنت أتركه يلتهم بلهفة كل ما هو مكتوب على الورق ليشبع نهم طموحه الجائع دائما الى المعرفة والتثقف .

وكانت المطالعة أيضا تلهينى عن تذكر صور مزعجة رسمتها الاحداث الاليمة فى مخيلتى . لقد كنت فى طفولتى وما زلت الى الآن أحمل فى نفسى صورة الموت المخيفة التى صدمتنى وانا طفلة . كنت أشعر وكم عانيت من هذا الشعور وما زلت أعانى من بعضه حتى الآن . وقد بلغث من الكبر ما يجعلنى أتغلب

عليه لو لم يكن لى احساس رهيف ونفس شفافة الى حد كبير ، أشعر كأن يدا من حديد تقبض على قلبي فتعصره بفظاظة حتى يكاد يخترق الظلوع تألما كلما مالت الشمس نحو الغروب وبدأ الليل يزحف بظلامه على النهار ليبدد كل ما فيه من ضياء يشعرنا بالحياة ويسحق كل ما فيه من حركة تجعلنا من الاحياء ، كنت أرى شبح الموت فى الليل حين يجثو برمته الثقيلة على الكون فيملؤه رغم اتساعه ظلاما ويجثو على قلبي الصغير الضيق فيدوسه كالمارد الجبار وعلى نفسي الضئيلة فيسحقها فى ظلامه حتى تصبح قطعة منه . وكنت أراه فى السحاب حين يحجب عنا زرقة السماء وتقصف الرعود فى الخريف وتمزق أشرعة الرياح أمواج الغيوم وتبكى السماء ، فكان يبكى معها قلبي الحزين لانه كان يرى شبح الموت فى كل ذلك . كنت أراه فى الظل والضباب والليل والسحاب والنوم فى ساعات النهار حين أحشر فى الغرفة فى الصيف ويسلط على الحكم بالنوم فى القيلولة وتغلق نوافذ الغرفة وتسدل ستائرها حتى تصبح مظلمة وموحشة كالقبر ، فيضيق صدرى لوحشتها وينقبض حتى الاختناق ثم تتفجر منه زفرات عميقة كانت تقلق والدتى وتدفعها الى سؤالى عن مصدرها وعن الدوافع التى تجمعها فى صدرها . فكنت أجيبها بكل صبر وتجلد . " ليس هناك من مصدر ولا شئ يقلقنى سوى انى لا أريد النوم فى القيلولة . " لكنها كانت ترفض لى هذا الطلب المحتشم لحرصها على راحتى وهدئى فى تلك الفترة التى يلجأ فيها كل الناس الى الظل لينعموا به وليتها كانت تحس بما كنت أحس به من ضيق وتتركنى طليقة فى عريشى أمارس هواية من هواياتى وانعم بالنور فى الخارج ، ذلك النور الذى كنت أبتهج كلما حرك النسيم الستائر ودخل البعض منه الى الغرفة الموحشة البعض الذى كان يدخل على نفسى القلقة شيئا من التفاؤل وعلى صدرى الضيق شيئا من الامل .

كنت أتمدد قلقة مضطربة انتظر بكل انتباهى انتهاء القيلولة ، اذ كان تفكيرى المطول رغم تلك السن وتحليلى حسب نموى للأشياء الغامضة والعميقة لا يتركان لى مجالا للنوم والهدوء ولا لراحة الفكر والجسد . كان تفكيرى ف البداية ، فى الموت كبيرا وفى الفناء الذى يختم كل شىء فى هذا الكون وفى تداول الليل والنهار وعجزهما عن التوقف او الرجوع الى الوراء أو الخروج من الدائرة التى وضعا فيها يركض الواحد خلف الآخر على طول المدى والى ما لا نهاية .

لقد كنت أتمنى وانا مقبوض على فى تلك الغرفة المظلمة وليس بيدى القدرة حتى على رفض تلك القيلولة التى جعلت من تفكيرى الثائر شبه الفلسفة .

كنت أتمنى فى حالات ذلك الانقباض المخنق وأقول : " لو توضع بيدى القدرة على تغيير الاشياء فى هذا الكون فى يوم ما لأطلت النهار الى الابد وجعلت الظلام نورا دائما وفصلت الموت عن الحياة " . ثم أصبحت فلسفتى مع تدرج النضج الفكرى بل مع تدرج الثورة الفكرية عند الانقباض ، اصبحت تلك الفلسفة ثورة على وجودى وعلى الانسان وعجزه أمام القدر الذى يأتى به الى الحياة ثم يرسم له الخطوط الكبرى فيها ، الخطوط التى لا تستطيع ارادة هذا الانسان ان تغيرها مهما تكن لها من قوة فيمشى حسبها فى الحياة مسيرا ، يثور ان كان له طموح ثم يهدأ ويصارع ثم يرضى ، ويغلب فى صراعاته ثم يغلب لكنه لا يستطيع أن يخرج عن نطاق ما رسمه له ذلك القدر . وكانت تتمثل ثورتى فى أسئلة يعج بها صدرى وأكاد أصرخ بها بأعلى صوتى .

لماذا خلق الانسان لينتهى ؟ لماذا خلقت أنا حتى أعرف الموت ؟ حتى أرى شبحه فى كل شىء ؟

أراه فى البيت المظلمة ، فى النوافذ المغلقة وفى الستائر المسدولة ، بصحبنى كظلى يتبعنى أين ما ذهبت .

لماذا خلقت ؟

لماذا ؟؟

أما إذا غلبني النوم رغم انتباهى ونمت وأعيانى عمق التفكير وجرنى اليه فتلك قمة اليأس تتملكنى حين أفتح عينى ولا أجد أحدا من النيام حولى بل يتملكنى انقباض كالموت وترانى انهض مذعورة راكضة نحو الباب كأنى أريد اعادة شئ ثمين فقدته فى النوم وفى الغرفة المظلمة . لكن لا تتجاوز استطاعتى ذلك الذعر والتحسر والشعور بالمرارة عما خسرته من نور ونهار ، ويزداد شعورى مرارة اذا وجدت كل أفراد العائلة مجتمعين فى صحن المنزل يترشفون قهوة العصر فى مرح وسعادة اذ كان يبدو لى أننى وحدى التى عشت ظلام الموت والغرفة الموحشة بينما الناس حولى أحياء ينعمون بالنور ويتحركون فى الضياء سعداء . أما فى الليل وكنت أنام حذو والدتى ومع احدى أخواتى فى سرير واحد فكان يتمثل لى شبح الموت حين استيقظ صدفة . أو كأن شعورا باطنيا يوقظنى فى كثير من الاحيان وافتح عينى فيملؤهما ظلام الغرفة الدامس عند انقطاع النور بسبب ما ، كان يتمثل لى حينها فى صورة " غول "

له أنياب طويلة وجسم كبير جدا يملأ على الغرفة كلها ، ومخالب مفترسة ويدان غليظتان وله أيضا جناحان كبيران سحريان الى حد يخترق بهما الجدران متى يشاء وخاصة فى الظلام ليختطف فريسته دون ان يراه أو يشعر به أحد ، لذا كنت حريصة على وجود النور دائما حتى لا تتسنى له فرصة الظلام فيختطف فيها منى والدتى أو أحد اخوتى أو احدى أخواتى . كنت أستيقظ مذعورة منزعجة صائحة : " النور ؟ من أطفأ النور ؟ الغرفة كلها مظلمة ، أمى الغرفة كلها سوداء لا أرى شيئا سوى الظلام ، أشعلى النور من جديد " . وأظل صائحة مذعورة حتى تستيقظ والدتى وتسرع لاشعال النور ثم تقرأ ويدها على رأسى : " لايلاف قريش .. " ثلاث مرات . فتطمئن نفسى للنور والقرآن وأتلدد ذلك الحنو من والدتى حتى أستعيد النوم ثانية . وكنت أيضا أرى شبح الموت حتى فى لحظات سعادتى حين ألبس ثوبى الجديد وألهو مع الاطفال يوم العيد ، كان يتوقفنى فجأة خاطر سريع وأنا فى غمرة اللهو والسعادة مع الاطفال ويمر بذهنى ذلك السؤال المر بل تلك الاسئلة التى لم استطع نزعها من ذهنى وبقيت تتكرر دائما .

هل يوم العيد هذا كسائر الايام له نهاية لا بد منها بحلول الليل ؟ أم أنه سيستمر طويلا ، طويلا لا نهاية له ويستمر باستمرار النور فيه مرحى وباستمرار الحركة انشراحى وألهو فيه سعيدة طليقة ليس هنا شبح للظلام . ينتظرنى وليس هناك فى ذلك الشبح كابوس الموت يتأهب لازعاجى . وهل هذا الثوب الجديد الذى أتباهى به الآن سعيدة مغرورة سيدوم الى الابد وتدوم بدوامه سعادتى ؟ أم ستكون له نهاية حتمية ككل شئ فى هذا الكون ؟ وهذه العائلة التى أنا منها هل ستجمع سعيدة بكامل أفرادها كل سنة فى مثل هذا اليوم ؟ أم أن الموت يتربص لاختطاف فردا منها ؟ فتفتقده البقية وتتقلص لفقدانه سعادتهم وتضمحل بهجة الحياة . كانت تمر بذهنى كل هذه الاسئلة وانا مع الاطفال الهازجين اللاعبين فى يوم العيد فتتقلص فجأة سعادتى وأنا بينهم ثم أهجر اللهو واللعب وانكمش على نفسي مع زهدى لكل شئ فى هذه الحياة . مما كان يلفت نظر والدتى ليجعلها تسعى دائما لاخراجى من ذلك الانكماش بتوفيرها لى بسخاء كل ما هو مفرح فى ذلك اليوم لكن أكثر ما كان يفرحنى منها هى حريتى عندما تسمح لى بالتجول مع صديقاتى فى بعض الازقة والانهج القريبة منا خلف " بوطبيلة " ذلك الرجل الاعمى الذى كان يصحبه مبصر ويجوبان الانهج والازقة معا طيلة ليالى رمضان لايقاظ سكان القرية عند السحور ثم يشيعان تلك الليالى بثلاثة أيام بعد العيد يجمعان فيها من البيوت بعض المال والحلويات .

اشترك في نشرتنا البريدية