الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

رسالة من بغداد, رعى الله اياما بتونس إنها ...

Share

أى والله لقد أحببت هذه الحاضرة الطيب اهلها (*) وقضيت فيها عاما دراسيا ، وكان ذلك منذ سبع عشرة سنة . كنت مدرسا فى كلية الآداب ، وكانت زيارتي بدعوة وطلب من كتابة الدولة للتربية القومية .

وأنا اشهد على هذا كلا من الاستاذ العروسي المطوى والاستاذ الحبيب نويرة اللذين كانا سفيرين للجمهورية التونسية فى بغداد كما ان الاستاذ المسعدى وهو كاتب الدولة يعرف هذا .

أقول : أشهد هؤلاء السادة الافاضل لأفيد أنى لم أنافس أحدا فى مكانه فى هيئة التدريس ولا قدمت طلبا لهذا العمل الجامعي . غير أن الاخوة فى كلية الآداب فى تونس قد ازوروا عني وجلهم ممن أعرفه فى باريس أيام الطلب .لم اجتمع الى أحد منهم فى تونس ولم يضمنى مجلس واياهم ، ولم أحظ بزيارة او سؤال من أى منهم بالرغم من أني أعرفهم كل المعرفة . وقد يعجب القارئ ان قلت له أني حللت في كلية الآداب ولم أر مسؤولا ولا عميدا ولا أحدا آخر ، والعميد يومئذ الاستاذ أ . ع . لقد أعطوني جدولا بمحاضراتي في الكلية وهي ثلاث أقضيها فى يومين ثم أغيب الكلية وليس من سؤال حتى يأتي الاسبوع الجديد فاستأنف العمل فى المحاضرات الثلاث . ولم ألق فى عملى الا زمرة من الطلبة مازلت أكن لهم مودة أكيدة ، ومنهم من يعمل فى هيئة

التدريس في الكلية فى هذه الايام كالاستاذ جعفر ماجد والاستاد الطيب العشاش وغيرهما .

ومن المفيد أن أشير الى أني حين كنت آتي الى الكلية قبل موعد المحاضرة بربع ساعة أظل أذرع أروقة الكلية جيئة وذهابا منتظرا حلول الوقت ، وهذا يعنى أن ليس من غرفة أجلس فيها لا خاصة بى ولا مع جماعة اخرى . ومن الطريف أن أشر الى انى كنت ذات مرة أغدو وأروح في رواق الكلية ، وانا انظر في لوحات الاعلانات وغيرها مما هو معلق يقرؤه الطلاب واذا بأحد من العاملين في الكلية ولم يكن العميد ، يحيينى ويسأل عن حالي فرددت عليه التحية وقلت له : ان حالى كحال المتنبى الشاعر العربى حين وقف بشعب بوان فقال :

ولكن الفتى العربى فيها         غريب الوجه واليد واللسان

أريد أن أقول : ان الكلية هي كلية آداب عربية فى بلد عربي مسلم الا ان كل ورقة في الكلية مهما كان الغرض منها عاديا مكتوبة باللغة الفرنسية ، كأن يطلب أحد المسؤولين طالبا أو طلابا لحاجة ادارية . ان هذه الورقة البسيطة مكتوبة بالفرنسية ، وقد تعجب اذا قلت لك : ان قوائم اسماء الطلاب فى كل فصل مكتوبة بالحرف اللاتيني . انك لا تجد اسم " أحمد " واسم " محمد " واسم " عبد القادر " بهذا الرسم العربى ...

وكنت في خلال اقامتي في تونس معنيا بالادب التونسي والفكر التونسي وقد فسحت لى مجلة " الفكر " فى صفحاتها فنشرت مقالات عن " الشاذلى " خزنه دار " وقصة " امارة الشعر " لقد عرضت لهذه الموضوعات فكان لى رأي يذكره المعنيون بالموضوع فانبرى لى السيد محمد الهادى العامري غاضبا مبتئسا وقد وسم رده بعنوان هو : " ماذا يريد هذا الوارش ؟ " .

وقد أجبت عن الرد فأشرت الى أنى لست " وارشا " وأنا أعنى بالادب التونسى عنايتى بالادب العراقي وليس من مانع ان أقول فى أديب عربي تونسيا كان أم عراقيا أم أحدا آخر من الناس .

ولم تنل مني كلمات السيد العامري فاني ما زلت اضمر له المودة الاكيدة امد الله فى عمره ان كان حيا وأسكنه وارف جنته ان انتقل من هذه الفانية الى الأخرى الباقية .

ولا بد لى أن أحيى مجلة الفكر تحية خاصة فأقول : ان هذه المجلة عامل مهم من عوامل النهضة الادبية فى تونس فقد تخرج بها أجيال عدة فكان فيهم الناقد الالمعي والاديب المفكر والشاعر المبدع وكان لهذه المجلة مكانها فى اعلاء العربية فكرا وأسلوبا ، وانها مهدت لمعركة التعريب التى أحسن المسؤولون فى تونس فى الاخذ بها بتبصر وتؤدة ودراية فلم يقعوا فى الخطوات الارتجالية التى وقع فيها غيرهم .

أقول : ان المسيرة الثقافية لهذه المجلة الرائدة العامرة عمل كبير يحسن ان يكون موضوع دراسة لنيل درجة الدكتوراه . وليس من عجب ان نكون عن هذه الحال وقد حظيت من الاستاذ " المفكر " صاحب " المواقف " الفلسفية بالعناية والاهتمام والتخطيط والتصميم .

وبعد فهذه كلمات يسيرة اختزنها فى ذاكرتى رأيت أن الحاجة التاريخية تدعوني الى تسجيلها . ولا يحسبن القارئ اني أحمل هذه الذكريات وفيها ألم ذلك أني احتفظ لنفسي بذكريات عذبة حبيبة تتصل بمعرفتى للتونسيين الآخرين من أهل العلم والمعرفة ولا أكتم القارىء انى محتفل بأخوتى للاستاذ الكبير محمد مزالي والاستاذ البشير بن سلامة والاستاذ المطوى والاستاذ المسعدى .

وكيف أنسى الخالد الذكر الاستاذ حسن حسنى عبد الوهاب وغير هؤلاء ممن شرفت بمعرفتهم وغنيت بصداقتهم ومودتهم .

حيا الله الخضراء التونسية وعمر أرجاءها وجعل الخير كل الخير على يد الصفوة البررة من أبنائها .

اشترك في نشرتنا البريدية