لقد قمت برحلة إلى الكويت ، القطر الشقيق ، لمهمة أدبية ولقضاء ما تبقي من اجازتنا الصيفية . . وعدت ، واذا رسالة الآستاذ الجليل - منشئ هذه المجلة النيرة - قد سبقتني بمدة طويلة ، وقد طلب فيها إلى ان اكتب مقالا تحت هذا العنوان المذكور للعدد السنوى الممتاز فحملت القلم ، لألبي دعوة الأستاذ ، وكتبت على جناح السرعة هذا المقال كي يصل في الموعد المنشود ولكن مع هذا أخشى أن اكون قد تأخرت فى الاجابة عن طلب الأستاذ فعذرا على هذا التأخير والتقصير
وقبل أن ندخل فى صلب الموضوع ، يحسن بالقارئ الكريم أن يعرف عن حياة هذا الشاعر وبيئته وأثرها في شعره . . ولهذا سنبدأ بذكر نبذة طيرة عن حياته وشعره . .
الشبيبي ذو قامة أقرب إلى الطول منها إلى الأعتدال ، وفيها بعض البدانة وسحنه قريبة للبياض تعبر عن صفاء خلقه ونبله ولحية كثة بيضاء تدل على انه من عائلة دينية ، يرتدي بزة العلماء ، فعمامة على رأسه وجبة فضفاضة تغطى جسمه قد أطل من نافذة العمر على العقد السابع
ولد في النجف منحدرا من سلالة عريقة المجد ، ونشأ بين أحضان اسرة لها مكانتها الدينية والأدبية . وكان والده الشيخ جواد الشبيبي عالما شاعرا يلقب بشيخ الشعراء فلا غرابة ، إذن . أن يقتني اثر والده وهو لما يزل صبيا .
درس هناك على أيدى علماء من العرب والعجم ، وانصرف فيما بعد إلى دراسة الكتب التاريخية والأدبية والفلسفية منفردا ، وكانت نتيجة دراساته ان ألف تاريخ الفلسفة وهو كتاب يبحث فيه عن الفلسفة من أقدم عصورها إلى هذا القرن ، وخص فلسفة العربية باهتمامه الزائد ، وألف أيضا " ادب النظر " في فن المناظرة " وتذكرة يصف فيها ما صادف من الكتب النادرة ، والآثار الثمينة ، " وتاريخ النجف " وهذا تاريخ طويل يسرد فيه حوادث النجف وتطور العلوم والآداب والحالة الاجتماعية والعمرانية وغيرها فيها ، وهو ذو اطلاع واسع في اللغة والف كتابا يدعى " المأنوس من لغة القاموس " وغيرها من المؤلفات الكثيرة ، إلا أنه لم يطبع أي مؤلف له ولا ادري ما سبب هذا التماهل فى طبع كتبه والتقصير في إصداء الخدمة لأبناء أمته ؟ !
ويعد اليوم عالما في الفلسفة الشرقية ؛ وقطبا من اقطاب النهضة الفكرية والوطنية لا فى العراق فحسب بل في البلاد العربية . وأشتهر بدهائه وحنكته فى معالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية ، ولهذا ارسل الى الحجاز فى ٦ ذي الحجة سنة ١٣٢٧ ه للقيام بمهمة خطيرة وادى ما عليه خير تأدية ، ورحل من الحجاز الى الشام لدراسة القضية العربية ، وهكذا كان القوم يلتجون اليه فى الظروف الحرجة لما عرف عنه من دهاء وحنكة وطول أناة وقدرة فائقة على ابتكار خطط المعالجة . وقام بتأليف كتاب عن المسألة العراقية " ابان المشاكل التى تعترضها وكيفية علاجها
خدم الثقافة خير خدمة حينما صار وزيرا لها ، وانتخب عدة مرات في المجلس النيابي وهو عقل بالنظم والنثر معا ، ولا ينظم إلا إذا كان متأثرا ، وبعد ما يقولا من الكبد لا يمكن ان تلقي وقت ما يشاء احدهم أو عند اقتراح يلقي عليه فتراه ينشد :
ليس هذا الشعر ما تروونه ان هذي قطع من كبدى
والشبيبي شاعر حائر ، مطمئن إلى اضطرابه ومعترف بشكله فتراه مرة يدعى ان شبابنا طائش لا يمكن الاستفادة منه ، وفي محل آخر لا يرى غير الشباب مضمدا لروح الشعب . وهو شاعر مبتكر ، سجل له الأستاذ امين الريحاني بيتا فريدا لم يتردد لا في الشعر العربي ولا الانكليزي ، واليك هذا البيت الفريد :
وطالما سرت في وجه فلم أرني إلا وقد علقت يمباي بالباب
وبعد هذه النظرة الخاطفة الى حياة الشاعر وشعره ، نعود الى التجدد فيه لقد حدثت في الشرق العربي خلال الخمسين سنة الماضية حوادث جسام وطرأت عليه تغيرات بينة ، وفي هذه السنين زالت دول وزالت معها نظم قديمة ، وحطت في هذا الشرق دول ، واتبعت نظم حديثة ، كان الفرق بينها وبين النظم القديمة يونا وبينا
وصار الشرق في هذه الفترة ، مسرحا للجروب الداميات والثورات بعد مجوع طال ليله . فسرت يقظة ، ولاحت نهضة ، وبدت للناس تباشير فجر عهد تبشر بالخير وتعبر عن تحقيق العدالة ، وساد الوعى ابناء هذا الشرق فتعالت أصواتهم إلى عمان السماء منادية بالاصلاح والذود عن الكرامة والثورة على الظلم وتحطيم الأغلال ؛ فكان ما كان !
ولا شك أن شعراء هذه المرحلة اكثر وعيا من الآخرين ، وكانوا مراة صافية تعكس لهم ما يتراءى لها من آمال تطفح بها صدورهم وآلام تعانيها هذه الشعوب ، ولم يألوا جهدا في سبيل خدمتهم والسير بهم إلى التقدم فعبروا خير تعبير عن أمانيهم ، وانشدوا اناشيد عذبة بعثت في نفوسهم القوة والأمل والنشاط ، وحب الكفاح في سبيل العيش الهنئ .
ومن الأمور المسلم بها ان يكون هؤلاء الشعراء من المجددين المهملين لمقاييس القدامى العقيمة السقيمة ، كالصناعات اللفظية والمحسنات البديعية والغلو في المدح والاقذاع في الهجو وغيره هذا وذاك ، إذ كان همهم الوحيد ان يصوروا للمجتمع ماسيه وحلاوة فالتقدم فكانت قصائدهم السياسية والاجتماعية ناطقة مما نعانيه وكيفية علاجه ، راغبين عن اتباع أساليب القرون المظلمة وظهر شعراء مجددون في البلاد العربية كاحمد شوقي بك وحافظ ابراهيم والبارودى في مصر ، والأمير شكيب ارسلان وعبد الحميد الرافعي في الشام وفي العراق جميل صدقى الزهاوي ومعروف الرصافي ومحمد رضا الشبيبى والجواهرى والبصير وغير هؤلاء واولئك .
نشأ شاعرنا الشبيبي فى محيط حافل بالتقاليد البالية ؛ فلم يريدا وهو القائل : " إن كانت للشاعر جولة في وجه من وجوه الاصلاح او ناحية من نواحى الخير ؛ وإذا ومضت في فنة شعلة تنير السبل الحالكة ، او غلت صرخة تثير العزائم الخامدة ، أو سرت نفحة تحبي الرمم البالية ، فقد أدى المهمة . . أقول لم ير بدأ من السخرية بها ، ويصرخ مطالبا بالثورة عليها فاسمعه يقول :
دجى التقليد منك أضل قوما . ولو لاه صباحهم تجلى
وهنا يستهزي باهل الضلال ويحمل عليهم بقوله :
عهدت أهلك لم يبطل نكيرهم على الطغاة فلم صاروا طواغيتا ؟
متفق من مخاريق كلامهم ومن مجل وان اسموه لاهوتا
وفي موضع آخر ينشد متألما صارخا :
الى م اجوب القطر سال جهالة . وماج تقاليدا وفاض خرابا !
وهناك يطالب بتحطيم قيود الجمود الذي سبب هذا التاخر فيردد :
رمت أمم عنها الجمود فأفلحت على حين انا تحته الآن ترزح
وهكذا نري شاعرنا يثور على ما يتبعه المجتمع من تقاليد لا تدر أي ويح علينا فلا غرو إن لقب بالمجد ، وهو المتربي في احضان عالة ذينية تؤمن بما ثار عليه .
وتلاحظ في ملامح وجهه وشعره نزعة الانسانية ، فهو يتألم من التفرقة الموجودة بين امم الدنيا أو ما سمعت اليه يقول :
كيف اتحاد بني الدنيا وهم بشر موزع بين اشكال واقسام
تقاطعوا شيعا كل بمغرسه كأنهم لم يكونوا زرع ارحام
وهو شاعر اجتماعي يتخذ من الام مجتمعه مادة لشعره ، ولو ارديا ان - تأتى بأمثلة لضاق بنا المقام
وبعد ذا فالشاعر مجدد من ناحية التقاليد الموروثة ، غير متبع ، كما فلنا ما اتبعه الشاعر القديم فى المدح والهجو والغزل قبل دخول الموضوع ولكن إذا نظرنا اليه بمنظار المدرسة الرومنطيقية تراه ليس بالمتجدد في شعره كتجدد افرادها وتلاميذها لأنه حريص على التقاليد الشعرية قلبا وقالبا وهذه المدرسة لا ترى شاعرا كهذا يكون مجددا ومن تصفح ديوانه لا يجد خروجا على القافية الواحدة ، والأوزان المتبعة ، ولكنه كشاعر جاء خلفا للقرون المظلمة - له يد فى حمل لواء التجديد . العراق / صالح جواد

