الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

ساعة مع ديوان القلائد

Share

اهدى الى اخي الاستاذ السيد محمد بن على السنوسى نسخة من ديوانه القلائد فتناولته بيد الشكر والامتنان وكان سرورى به عظيما لأحلق معه فى عطلة العيد بيد ان عيدى كان أشد اثرا من عيد المتنبي لوفاة أخي في ٢٧ رمضان ١٣٨٠ ه ولقد كان بالنسبة لى كما قال شاعر آخر :

وأقبل العيد أعمي غار ناظره

كأنما اللحد في عينيه محفور

والاخ الشقيق قطعة من جسمك  لا توسده التراب فحسب كما توسده فى قلبك ونفسك وبرغم ذلك لم اجد ثمة ما يحول بيني وبين قراءة القلائد لأحيى الزميل فى ديوانه وفنه الرفيع ولم يكن شعر الاستاذ بعيدا عني فقد قرأت جله على مجلتنا المفضلة المنهل الغراء هذا الى جانب صور القصائد الحوليات وشعر المناسبات الوطنية والتي كان الشاعر يشرفني بنسخ منها عند كل مناسبة وطنية بيد أن ديوان القلائد وهو بين يدى الآن فيه الكثير والكثير جدا من قصائده الرائعة التى لم تنشرها صحفنا المحلية ولم يطلع عليها القراء بعد .

اذن فدعني يا عزيز القارىء امر بك عليه مرورا عابرا لننظر معا ماذا فى ديوان القلائد من جيد الشعر وكله جيد ممتلئ بالحياة وقد اغتنم المؤلف اجازته الرسمية فى القاهرة فلم يدعها نزهة ترفيهية تذهب

عبثا أو سدى فقد اشرف على طبع ديوانه فخرج آية في الفن والاتقان طباعة ممتازة على ورق صقيل تحاط صفحاته باطار ذهبى ومحلى بالرسوم المستوحاة من تعابير الشعر واحاسيسه وتربو صفحاته على المائتين من القطع المتوسط الحجم ويضم بين دفتيه ستا وثلاثين قصيدة بنفس طويل واصالة شعرية وقد كتب مقدمته  عملاق الادب استاذنا الكبير عبد القدوس الانصارى قال فى مستهل مقدمته المستفيضة :

" ما اوع الشعر ينبع من عاطفة شاعر متمكن في اللغة جامع لأعنة الاسلوب العربى الرائع في سعة أفق واخلاص مبدأ وصدق عاطفة وصحة بيان الخ . . "

وتاتي بعده مقدمة الشاعر لديوانه فكانت هى الأخرى صورة واضحة :

هذه الحان قلبي

واغاريد شبابي

هى احلامي وآمالي

. وكاسى وشرابي

وصباباتى واشجاني

وحبى وعذابي

انها صورة نفسي

قد تجلت في كتابي

والبيت الاخير أصدق تعبير انها صورة نفس قد تجلت في كتاب لأن الكتاب عرض للانسانية . وصدر الديوان بقصيدة عصماء وعنوانها درة التاج اشاد فيها بمجهودات صاحب الجلالة الملك المعظم وكيف يتطلع اليه شعبه الوفي ثم ينتقل الى قطعة فنية تحت عنوان " نداء الوطن وهذه القطعة أدرجتها وزارة المعارف ضمن كتب النصوص الادبية وفقا للمنهج الجديد وقالت في شرحها :

لم يكن الشاعر مجانبا الصواب حينما اراد ان يخبرنا ان النهضة العلمية والعمرانية فى البلاد قد دبت فى كل مرفق من مرافقها وان آثارها ظاهرة يستشف شذاها الغادي والرائح ولم يفت الشاعر ان يخبرنا ان النهضة ما زالت في بدايتها وان علينا ان نتسلح لها فالماضى وحده لا يكفي ان يدفع عجلة النهضة الى الامام الا اذا آزرته ايد عاملة وقواه رجال عاملون يلذون الشقاء ويحبون العمل والدنيا لا تسخو لعاجز بالمجد ولا تعطى الا بقدر السعى " والشرح واف ومبسط منشور من سمط القصيد والقطعة تحتوى على فلسفة عميقة رغم الالفاظ المطروقة غير ان كل بيت منها له معنى رائع وسام رفيع

بني وطني : انا على فجر نهضة

تصد الدجا اني تدجى وتصدع

وللفجر في وجه الحياة اشعة

تذيب الكرى عن ناظريها وتدفع

واني لأستنشى شذاها وعطرها

واشدو لها من نشوة واوقع

بكينا على الماضي كثيرا وان يكن

خطيرا فما يجدى البكا والتفجع

مضي السلف الابرار يعبق ذكرهم

فسيروا كما سارو على الدهر واصنعوا

وما الفخر بالماضى إذا لم يكن له

من الحاضر الزاهى بناء مرفع

خذوا باكف الاسد من اسهم العلي

نصيبا فان الحاضر اليوم اوسع

يد الدهر لا تسخو بمجد لعاجز

ضعيف ولا تندى ولا تتبرع

لقد افصحت عن سرها لو تكلمت

حياة بقدر السعى تعطى وتمنع

وما قيمة الاوطان ان لم يكن لها

رجال يلذون الشقاء لينفعوا

جرت حكمة الدنيا على الناس انها

تصد لمن صدوا وتسعى لمن سعوا

حصدنا الضنى لما زرعنا له المنى

وجل حصاد المرء من حيث يزرع

وتطل علينا بعد ذلك قصيدة اخرى بقسماتها المشرقة اضفى على واقعها التعبيري روعة قدسية خاصة وعنوانها ام القرى ويقول عنها الشاعر بانها مستمدة من وحي المؤتمر الاسلامي المنعقد فى موسم حج عام ١٣٧٤ ه :

نور على البطحاء لماح الذرى

يهدى القرون ضياءه والا عصرا

الى ان قال :

يا مركز الاشعاع يا ينبوعه

يا كوثر الاضواء يا ام القرى

وراح بعد ذلك يعلل الهدوء الذى منيت به الجزيرة العربية ويقول عنه ليس الا هدوءا نسبيا كالذى يسبق العاصفة ويضرب على ذلك امثالا مستمدة من واقع فلسفى تعبيري أملته الطبيعة وهو داخل فى حيز

الامكان لواقع الاشياء :

الشرق والاشراق من اسمائه

ما كان الا الحاكم المتسيطرا

فاذا تغساه الضباب وقيدت

خطوات امته القيود تاخرا

فالليث يجمع نفسه متحفزا

للوثب حين تراه يمشى القهقرى

والنسر ينفض من جناحيه الندى

قبل الصعود الى السماء مبكرا

وهدوء امواج البحار تأهب

للمد يكتسح الشواطئ صرصرا

ودخان اذيال السحائب طلعة

لسنا البروق تلظيا وتسعرا

لا الشرق مخمور الشعور ولا المني

سكرى ولا وعي الشعوب مخدرا

عندما تتسامى أهداف الشعر تسمو معه وثبة الخيال فيقتبس الشاعر فيضا من اشعة قدسية ترتفع به عن ضحل مستنقع  ظل زمنا حبيس قيد يرسف فى حمأته حتى شاء الله بمجددين فارتفع الى اعلى درجات الكمال .

واذا الشعر سمت اغراضه

كان فيضا من شعاع الانبياء

وتقابلك قصيدته : " حطم المارد القيود ، وهي الفائزة بالجائزة الاولى فى المسابقة الشعرية التى عقدتها مجلة الرياض عام ٧٥ واخبرني استاذنا الكبير عبد القدوس الانصارى بأن " حطم المارد القيود " كانت ضمن القصائد التى ترجمت بعض ابياتها ونشرتها مجلة الشعراء في روما :

هتفت والشعور روح وراح

ويك غرد فقد ابان الصباح

الصباح الذي له من مني النفس

انبلاج ومن هواه انصياح

قف على قمة الزمان مع التاريخ

واهتف يهزك الارتياح

وتأمل شواطئ النيل والبشرى

على ضفتيه والأفراح

الى ان قال :

حطم المارد القيود فلا النيل

فرات ولا الفرات قراح

والقصيدة تستهويك قراءة وكتابة فتحس وانت تمليها او تكتبها كأن تيارا كهربائيا يدفعك دفعا اليها ثم قف معي نتامل هذه الوثبة فى الخيال وندقق  النظر في هذا البيت المبسط والذي يقول فيه : فلا النيل فرات ولا الفرات قراح . .

يقول : ان هذا المارد الجبار الذي هو البعث العربي حطم كل قيد وضعه المستعمر فى قدميه فلم يصبح النيل بعد جلاء الانكليز عنه كالفرات الذي كانت تسيطر عليه حينذاك ولا الفرات نفسه أضحي ايضا ماؤه قراحا يستمرؤه المستعمر فلم يذهب حدس الشاعر سدى فما هى الا ايام قلائل حتى هب ابناء الرافدين فخرج المستعمر من على الضفتين فاقد الحس والشعور واذا اردنا ان ندقق النظر في كل بيت من ابيات شاعرنا ونخرج لمحات دبلوماسية واجتماعية لضاق بنا صدر هذه المجلة الرحب ) المنهل الغراء ( .

حطم المارد القيود فلا النيل

فرات ولا الفرات قراح

لا قناة السويس حوض ولا البي

ضاء روض ولا البريمي مراح

قد تلظى اللهيب فى كل فج

رق فيه الصبا ورف الاقاح

وانبرى فوق كل كنز من الارض

شجاع حسامه سفاح

ثم تقابلك قطع كالأفلام حسنا وجمالا قطوف وأصداء " عودة الماضى " العالم العربى " اللحن السجين " غروب الشمس او شفق الغروب . وعودة الماضي تحدثنا عن ذكريات حلوة يجترها الشاعر

من ذكريات صباه وهي اشبه بقصة حب في أحاسيسها وانطباعاتها وقد رمز اليها فى  الديوان بصورتين رمزيتين تنبئك في ضآلتها بقدمها ومرح الشباب :

يا للشاب المرح التصابى               روائح الجنة في الشباب

وغروب الشمس او شفق الغروب كما كانت قبلا ونسما حينما قدمها هدية الى قائلا فى مقدمتها تحية واحتراما وتحديا وافحاما ونشرتها مجلة المنهل .

ولهذه القصيدة قصة احتفظ بها كذكرى من ذكريات الحياة وقصيدة الجنوب الخصيب قمت في شهر جمادى الاولى سنة ١٣٨٠ ه بعرضها وتحليلها فى عدة صفحات على المنهل الغراء وقلت في المقدمة : بيد اني ساشرح هذه القصيدة شرحا اجتماعيا وشرحا فنيا لأضع اصبعك على الأهداف التى تطرق اليها الشاعر ولأعطى بذلك فكرة جلية كيف يستخدم الشعر فى الاغراض الوطنية متي كان رهن الارادة وطوع الانقياد

وقصيدة تاميم وتصميم التى يقول فى مطلعها :

اجل انها الحرب الصليبية الاخرى

وان جعلوا حوض القناة لها سترا

ولم تك اسرائيل الا ذريعة

قد اتخذوا منها لأهدافهم جسرا

فجند لها الارواح والمال والقوى

وجرد لها الايمان والعزم والصبرا

وثق ان للايمان بالحق قوة

وان له في كل معركة بدرا

الى ان قال :

اثرها على المستعمرين وشنها

لظى تشعل الاجواء والبر والبحرا

فقد أصلتت منك الكنانة صارما

وأطلق منك النيل فى جوه نسرا

وقبل ان اختتم هذا البحث اشير الى تجاوب الشاعر مع شعراء عصره المجيدين . . فى القصيدتين المتبادلتين بينه وبين الشاعر السورى الاستاذ على دمر فقد اهدى قصيدة اغنية إلى الجزيرة العربية لشاعر جازان وكان مطلعها  :

ايها الوال الذي علأ الليل

حنينا للبيئة الشماء

وأجاب عليه الشاعر السنوسي بقصيدة اخرى من البحر والقافية وعنوانها ) ليلة الهجرة ( يقول في مطلعها :

بين اشراقة الهدى من حراء

وانطلاق الشعاع نحو قباء

ثم قصيدته التى انشدها فى الحفل التكريمي الذي اقامته له مجلة المنهل الغراء ومطلعها :

الهمى اصغريه من اشجانه

نغما أبدا على فرسانه

واجاب عليها الشاعر الاستاذ محمود عارف عضو مجلس الشورى بقصيدة اخرى من البحر والقافية وعنوانها ) صوفية شاعر ( يقول فى مطلعها :

ظلموه فعاش في اخوانه

يتلظى على لظى احزانه

لعلك قد نعمت بلمحة مشرقة في ديوان القلائد المتفاعل مع الاحداث سواء كانت هذه الاحداث هنا في القريب او هنالك في البعيد يصوغها الشاعر في قالب تعبيري واسلوب سلس عذب مع نغمة موسيقية وجرس مرنان .

اشترك في نشرتنا البريدية