الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

سبوتنيك ...، ...رفيق الطريق ،

Share

" سبوتنيك " ! كلمة روسية (معناها " رفيق الطريق " ) نزلت من السماء على البشر فانشرحت بها صدور وضاقت بها أخرى ! كلمة ترددها الالسن ويملأ الحديث عنها الاذاعات والصحف والمجلات ، مشيرة الى حدث تاريخي لانظير له ، والى خطوة شاسعة في الرقى العلمى والصناعى ، والى انقلاب سياسي عميق استبشرت به امم وتشوشت منه اخرى ، وإلى تقلب " تكتيكى " في المعاملات بين الدول وفى فن الحرب واساليب التهديد ! . بعث السوفياتيون فى الفضاء رفيقين للارض (السبوتنيك الاصغر ثم السبوتنيك الاكبر) وسيبعثون أقمارا مصنوعة أخرى ، لدراسة الفضاء خارج الجو ، ولتهيئة السفر الى القمر ، ولاعداد وسائل جديدة للدفاع والهجوم فى حالة ما اذا انتشرت حرب جديدة .

الرفيقان الاولان :

السبوتنيك الاول كرة صغيرة قطرها (٥٨) صنتمتر

وزنها (٨٣) كيلو ، حملها صاروخ ذو فروع ثلاثة عاد منها اثنان الى الارض بعد ما بلغا من الارتفاع ثمانين كيلومترا بالنسبة للاول ومائتى كيلومتر بالنسبة للثاني . أما الفرع الثالث فهو لم يسقط بل اندفع يدور حول الارض بعد ما بلغ تسعمائة كيلومتر ، وبعث السبوتنيك الى طريقه بسرعة (٨ كلم) فى الثانية فجعله يقضى دورة كاملة حول الارض فى ست وتسعين دقيقة .

بعث السبوتنيك الثانى ثلاثين يوما بعد الاول وكان مغزلي الشكل ، كالصواريخ ، طوله (١٠م) ووزنه (٥٠٨) كيلو ، حمله صاروخ ذو فروع ثلاثة أيضا ، وارتفع به الفرع الاخير إلى ما يقرب من (١٧٠٠ كلم ) ثم دفعه بسرعة (٨ كلم) فى الثانية وجعله يقضى دورة كاملة حول الارض في ساعة واثنتين واربعين دقيقة .

وضع فى كل من القمرين المصنوعين كثير من آلات القيس والتسجيل ، ومذياعان طول موجتيهما (٧,٥ م) و (١٥ م) مع ما يلزم من مولدات للطاقة ، ووضع " بالقمير " الثاني حجرة مغلقة محكمة تأوى الكلبة " لايكا " (Laika)

بما يكفيها من هواء وغذاء مدة اسبوع ، مع عدة آلات تخبر عن صحتها وعن تاثرها بالظروف غير العادية التى صارت تعيشها في السماء . شروط المرافقة فى طريق الارض : لا يصير جسم " قميرا " يرافق

الارض فى طريقها ، الا بتوفر بعض الشروط . يجب اولا ان يدفع هذا الجسم

بسرعة كافية لاخراجه من الجو وإبعاده عنه حتى لا يلاقى من طرفه آية مقاومة تبطئ حركته فيسقط . ثم بعد بلوغه ارتفاعه الاقصى يجب اطلاقه في الفضاء حسب اتجاه افقى كي يكون طريقة مستديرا ، ويجب ان تكون سرعته اذاك كافية لاحداث قوة دافعة ( قوة الابعاد عن المركز : force centrifuge  تكون مضادة لجاذبية الارض ، حتى يصير دوران القمير منتظما بفضل التوازن بين هذين القوتين . وقد اثبت البحث النظرى انه لا يمكن ان تقل هذه السرعة عن ( ٩ ,٧م)   فى الثانية والا فالقمر المصنوع يسقط . اذا توفرت هذه الشروط كلها بالتدقيق صار الدوران مستمرا إلى الابد حتى يحدث ما يحدث فيتغير التوازن بين الجاذبية وقوة الابعاد ، أو يزوغ الطريق عن الاتجاه الافقى . غير ان هذه الشروط الاساسية لا يمكن توفرها بالتدقيق فى الواقع فلا يكون الطريق مستديرا بالضبط وذلك بسبب تثير الكواكب ، كالقمر والشمس ، وبسبب الاخطاء فى تصويب

الصاروخ والتى لا مناص منها ، رغم الاحتياط والتدقيق - الطريق اهليلجى الشكل ، وبعد السبوتنيك عن الارض يتراوح بين حد أقصى (٩٠٠ كلم بالنسبة للسبوتنيك

الاول و ١٧٠٠ كلم بالنسبة للثاني )وحد أدنى ( من ٣٠٠ الى ٤٠٠ كلم بالنسبة لكليهما ). فيتبطأ سير القمير عند كل مرور من الموقع الادنى (أ) وذلك بسبب الاحتكاك مع بقايا الجو فى هذا الارتفاع الوطئ نسبيا فتنقص السرعة وتضعف قوة الابعاد فيقصر الطريق شيئا فشيئا حتى تشتد جاذبية الارض فيسرع السبوتنيك إلى الارض ، واذا لم يجد ما يقمع نزوله دخل الجو بعنف والتهب وتبخر بفعل الحرارة الناشئة عن احتكاكه الشديد .

تحقيق النظريات العلمية :

لقد عين البحث النظرى الشروط اللازمة لبعث الصواريخ والاقمار المصنوعة ، وللوصول الى القمر . وبقى اثبات النتائج النظرية بالتجربة . فأرسل السوفياتيون السبوتنيك الاول متسائلين هل بلغت انجازاتهم التكنيكية من الدقة والكمال ما يلزم لبعث القمير الى الارتفاع المحسوب . ولاطلاقه فى اتجاه افقى بالسرعة المقررة ، وهل يمكن ان يعول على آلات الاخبار التى تملأ بطنه ، وهل يبلغ الاجل الذي تعين لسقوطه . . التجربة السوفياتية من هذه الحيثية ناجحة كل النجاح لكن لا ندرى اليوم هل التقط العلماء ما كانوا متعطشين اليه من الارشادات عن الفضاء خارج الجو ، ولا ندري هل هذا الفضاء بارد كما ندعيه(٤٠٠٠ درجة تحت الصفر )ولا هل يبلغ خلاؤه من المادة العمق الذي تفرضه (هباءة بعد كل اثنى عشر كيلومتر في ارتفاع ١٠٠٠ كلم) ولا ندرى ما هي كثافة الاشعاع فى هذا الخلاء ، من اشعة كهر مغنطية (النور وما قبل الاحمر ، وما بعد البنفسجى ، والاشعة " قما " .... ( ومن اشعة حببية (الاشعة الكونية rayons cosmiques ولا ندرى ما هى كثرة " النيازك " ( meorites )التى تتساقط علينا من كل فج ونتلقى منها في كل سنة ٧٥٠ مليارا ! وبعث السوفياتيون السبوتنيك الثاني متسائلين هل تمكن الحياة في هذا الفضاء وهل يتحمل الجسد الحي التحرر من جادية الارض ، والاشعة والرجوم ، محاطا بفضاء يفوق سواده الليل الحالك ، ويسوده الخرس المطلق (لا ينتشر الصوت فى الخلاء ) ولا نتصور قره ، اذ أبرد الاشتية القطبية سعير جهنمى بالنسبة إليه . . . . لذا أرسلت الكلبة " لايكا " كما سترسل حيوانات اخرى ربما تذهب ضحية العلم كما ذهبت هي ! سنفتش عن طرائق الوقاية من شر هذا الفضاء حتى نطير الى القمر في سلامة وطمأنينة .

رفيق الطريق . . . والسياسة :

كانت امريكا سيدة الدول ، بفضل مواردها الاقتصادية المتوافرة ، وجهودها العلمية والصناعية ، وقوتها العسكرية والحربية وكانت الامم تقرأ لهذه السادة حسابا ، اما لانها محتاجة لاستسعافها واما لانها لا ترضي بهذه المولوية بل تعمل على مزاحمتها وغزو مكانتها الممتازة ، هذا ما جعل روسيا ، منذ الحرب العالمية الاخيرة ، تكدح للالتحاق بامريكا وتوجه عنايتها نحو التكوين الصناعى . وقد يسر لها أمرها ذلك الجو السياسى والاجتماعى الخاص الذى يعيش فيه الشعب السوفياتى . تعود الشعب الامريكى برفاهية العيش ، وبالحرية فى القول والفعل ، وحكومته الديموقراطية تراعى رأيه في كل ما تدبر وتقرر . فيوزع البرلمان الاعتمادات بين المصالح المدنية والمصالح العسكرية حسب رغائب الامة .. . حتى ضعفت الميزانية الحربية وتحددت امكانيات الجيش في اختراع الاسلحة وصنعها .

اما الحكومة السوفياتية فقد وضعت مهجتها كلها فى التفتيش العلمي والانجاز الصناعى بكل وسيلة ، غير مبالية بما يلزمها من مال او مواد او ادمغة ، موقنة ان مصدر القوة هو استغلال التنقيب العلمى . فوجهت الراى الروسى الى هذه الجهود حتى صار المواطنون فى شغف الى التثقف والتكوين الفكرى ، وقل اكتراثهم برفاهية العيش ، وخيروا تجهيز ادمغتهم بالمعرفة عن تاثيث منازلهم . صار هكذا للروسيين اقتصادان ، احدهما ينمى القوة الصناعية والعسكرية ، والاخر يعيش الشعب ببقايا الاول . ومن حيث العمل والتطبيق فالطريقة الروسية تخالف الطريقة الامريكية . اذا تقرر صنع شىء انكب كل اختصاصى على عمله بجد وكد حتى لا ينقضى زمن طويل بين وضع الورق على لوحة الرسم وبين الاخراج والاستغلال . فلا وقتا يضيع فى المناقشات الخاوية ، ولا فى شحن الملفات " بالكواغذ " ولا في التوفيق بين الاراء المتحمسة والمصالح المتناقضة ، ولا وقوفا بين المراحل في ترقب الاعتمادات وموافقة الهيئات ، بل تجرى التجارب حينما تبرز النتائج ، فتظهر العيوب ويبين اصلاحها .

ومن ناحية اخرى فالسوفياتيون يكتمون اسرارهم ولا يصرحون بمشروعاتهم ولا بتصميماتهم ولا بنتائجهم ، عكس ما يفعل الامريكيون ، لنذكر مثلا اهتزاز العالم اعجابا بعبقرية امريكا وجسارتها عندما اعلنت ، في شهر جويلية

١٩٥٥ ، عزمها على بعث قمر مصنوع فى خلال السنة ١٩٥٧ ....فما أمر على امريكا اليوم تلك الكلمة التى قالها " كروتشوف " : " نحن لا تفوقىء قبل ان نبيض " !

هكذا كسفت شمس امريكا وذهب كعبها ، وهكذا صارت لروسيا السيادة والمكانة السياسية الممتازة - وستعمل امريكا اقصى جهدها فى استرجاع ما فقدته وسيجنى العالم من هذه المسابقة شيئا من الخير (الازدهار الصناعى)  وكثيرا من الشر (نمو القوة الحربية)

السبوتنيك ... والعدة الحربية : السبوتنيك ليست له قيمة فى ذاته حتى يلقى الرعب فى ملايين من القلوب ، وما هو سوى مسافر يتجول في الخلاء ومصيره الالتهاب فى الجو والاضمحلال . غير انه عامل فعال من عوامل المسابقة بين امريكا وروسيا فى اكتساب الصدارة العسكرية والحربية . فهو دليل قاطع على تقدم هام في صنع الصواريخ وفى اطلاقها المضبوط . كانت امريكا سابقة غيرها في هذه الميادين كما كانت لها الاسبقية فى طائرات القذف والقنابل الذرية (A) وH)) وفي صنع الآلات المسيرة من بعيد (Instruments teleguides) والصواريخ وغيرها . . واصبحت اليوم خاسرة بسبب تمسكها بالتقاليد والقواعد ، وبسبب بطئها وشحها وعدم التناسق بين جهودها المدنية والعسكرية . . فالعلماء الذين كفوا بانجاز القمر المصنوع " فانفوارد " (Vanguard) حاولوا عبثا الاستعانة بما احرز عليه الجيش من نتائج فى صنع الصواريخ ، فاستنكر " البانتاقون " الاباحة باسرارة ، وما وسع اهل فاتقوارد الا ان عولوا على انفسهم وعلى الاعتماد السخيف الذى رصد لهم (مائة مليون " دولار " وكان يلزمهم خمسمائة ! )

الحرب الباردة قائمة بين امريكا وروسيا منذ سنين ، وكم من مرة اوشكت ان تصير حامية ! يتعكر الجو السياسي ويصفو بتناوب ، وكل من الطرفين يهدد الآخر برد الفعل . . فيما اذا هجم عليه ! فتنوعت وسائل الدفاع والهجوم وتعددت الاختراعات والاسلحة ! فهذه طائرات سريعة ، وهذه قنابل مريعة ، وهذه آلات تكتشف " بالرادار " موقع الطائرة العدوة من بعيد وهذه قذائف تسير نفسها بنفسها او تسير من مكان بعيد حتى تصب هدفها وتهدمه ، وهذه غواصات " ذرية " لا تحتاج الى تموين مدة عام !...اخترعت روسيا كل ذلك بعد امريكا ، ووقع التوازن بين القوتين الا فى ميدان القذف بالصواريخ السريعة .

ولما حكم على طائرات القذف بالاهمال من أجل تهديمها المحقق بالقذائف الموجهة اليها قبل ان تبلغ اهدافها ، فكر المفتشون فى بعث القنابل بواسطة الصواريخ التى لا يعرف اليوم احد كيف يكتشف موقعها ولا كيف يمنعها من بلوغ مرماها . فصنعت امريكا انواعا من هذه الصواريخ اهمها : " ريدستون "  (Red Stone ) و" جوبتير "(jupiter) و" ثور " (Thor) الصاروخ الاول تم انجازه الصناعى ورميته سبعمائة كيلو متر . اما الثاني والثالث فهما لا يزالان فى طور الانجاز التجربى ... فلا يمكن امريكا ان تصيب المراكز الحيوية السوفياتية (الزراعية والصناعية) الا اذا تصرفت فى مناطق لا يفوق بعدها عن هذه المراكز رمية " الريدستون " واذا نظرنا الى الخريطة ، ارضا وبحرا ، وجدنا المناطق الامريكية كلها بعيدة عن المراكز الروسية بما يتجاوز هذا الحد ، سوى تركيا . ان تركيا لباب بلاء تحاول روسيا غلقه عنها . وتحاول امريكا ابقاءه مفتوحا وعن ذلك نشأ حلف بغداد ، وحدثت الازمة التركية - السورية التى لا تزال تشغل الناس . لكن انقلبت الوضعية اليوم ، منذ غني السبوتنيك فى الفضاء اغنيته المحرجة " بيب ، . . بيب . . بيب . . " وبشر روسيا وحلفاءها بالتصرف فى الصاروخ I .C .B .M) ) القادر على الوصل بين القارات (fusee intercontinentale) والذي تبلغ رميته )٨٠٠٠ كلم !)

انها لضربة قاسية على امريكا ، اذ اصبحت مهددة بالمحق السريع قبل ان يتمكن من رد الفعل ، ترتعد خوفا من هول هذا الخطر ، وتحاول بدون جدوى ان تخفى كدرها وهمها . لكنها ستنهض وتنشط وتتدارك ما فاتها حتى لا تبقى ، كما قال " تشرتشيل " عزلاء مثل نزل للبنات " ! لعل العالم يسترجع التوازن بين الخصمين حتى يتعذر على كليهما مهاجمة الآخر فى غير خشية منه ، ولعل السلم يتحقق بتعادل القوى المتضادة ، ولعل الحرب تموت . . من كثرة الاسلحة ووسائل التخريب والتدمير !

اشترك في نشرتنا البريدية