الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

سر خديجة

Share

ما لك يا احمد يبدو إلى انك متعب لتكون مريضا ؟ لعلك ارهقت نفسك من كثرة العمل ؟ هون عليك يا رجل اراك فى هذه الايام شديد الانكباب على دفاترك واوراقك لقد تناسيتنا انا والاولاد .

- الحق معك يا خديجة ، لكن لا تلومينى ، كلفت هذه المرة بقضية صعبة . - اى قضية هذه ؟ لم تخبرنى عنها كعادتك علنى اعينك على حلها . - كلفت يا خديجة بالدفاع عن مجرم . - تدافع عن مجرم . وكيف ؟ - نعم ان المسمى (( يوسف عبد الحميد )) اتهم بقتل زوجته . - ماذا تقول يوسف عبد الحميد ؟ . . غير معقول ! غير معقول ! - ولكن ما لك يا خديجة ما هذا الارتعاش ؟ ما هذه الشحوبة اتعرفين المتهم ؟ لم ارك على هذه الصورة ابدا . حقا لقد حيرتنى .

- لا شئ يا احمد لقد ازعجنى هذا الخبر فقلت ربما تكون هذه الزوجة بريئة ٠٠٠ ثم انها أول مرة اراك تكلف بالدفاع عن مجرم . فهلا تركت هذه القضية لغيرك من المحامين كيف تخول لك نفسك ان تدافع عن مجرم عن قاتل نفس ؟ ماذا ستقول ؟ ، هل تدافع عنه ؟

وقد لوث يديه بدماء ضحيته ان كنت حقا تحبنى تخل عن هذه القضية المشؤومة .

- هيه . ماذا تقولين ما هذه الثورة انك على وشك البكاء ربما تكونين متبعة أثرت فيك اعمالك الشاقة فى المدرسة فتعقلى ودعيك من هذه الهواجس الى عهدتك رصينة تقاسميننى اتعابى بل تشجعيننى على القيام بها .

خرجت خديحة من مكتب زوجها احمد بخطى متثاقلة متجهة نحو غرفة الاستقبال ، وقد اثر فيها الخبر الذي صرح به زوجها ، فغشت وجهها الجميل سحابة كئيبة وتهالكت على مقعد وثير وغرقت فى تفكير عميق . كانت المفاجأة عظيمة . لم تتوقع ان بعث بها الدهر بهذه الصفة وان يتبعها الشؤم الى حياتها الزوجية فيعكر عليها صفوها فارسلت زفرة طويلة وقد اغرورقت عيناها بالدموع . وضاقت بها الدنيا فتمثلت نفسها اشقى مخلوقة فى العالم ، ابى الدهر الا ان

يؤذيها ، ان يهزأ بها فيكلف زوجها بالذات بقضية يوسف . فثارت ثائرتها . وحقدها على هذا الرجل الشقى الذى هدم حياتها قديما واصر على ملاحقتها بعد ان دفنت ماضيها التعيس ونسيته منذ تزوجت احمد .

وفاجاها الليل وهى حائرة تفكر فى مصيبتها وتبتهل الى الله ان لا ينكشف امرها . وقبل ان تتجه الى غرفة نومها جلست كعادتها (( امام البيانو )) وحركت اصابعها فى اناة فاذا بانغام خافتة حزينة رقيقة تملا الغرفة معبرة عما يخالج نفسها الكئيبة المحطمة ، غير ان تلك الموسيقى لم تهدئ نفسها بل ضاعفت احزانها وصورت لها حقيقتها المرة فنهضت الى سريرها لعلها تدفن آلامها فى النوم . وكانما تحالف النوم مع مصائبها فاستعصى عليها وقضت ليلتها ارقة تراقب النجوم من خلال نافذتها العريضة واسترجعت ذكرياتها الاليمة التى نغصت عليها حياتها وهى ما تزال شابة فى التاسعة عشرة من عمرها . وثانية نذكرت يوسف الذى تسبب قديما فى آلامها حينما خدعها بعد ان خطبها من اهلها وتحققت من حسن طباعه ومن خصاله الحميدة ومن حبه لها . وبعد تمام الخطبة ذهب يوسف الى فرنسا ليتمم تعلمه وتذكرت ما احسته من ألم لفراقه وكيف تحملت ذلك بصبر ورصانة مترقبة رسائله التى يطلعها فيها على حاله ويعبر لها على اشتياقه لرؤياها وحنينه لوطنه .

ثم اتى اليوم الموعود ورجع بعد عامين من فرنسا بعد ان اتم دراسته هناك وتحصل على شهادته لكن وا اسفاه . لم يات يوسف وحده وحده بل اصطحبته امرأة جميلة اعلن بكل بساطة انها زوجته تعرف بها خلال دراسته ووجد منها اعانة كبيرة على تحمل غربته اسكنته منزلها وقبلته عائلتها على الرحب والسعة ، وسحرته (( مارى )) بالاعيبها واخيرا اوقعته فى حبائلها فلم يبق لبوسف الا ان يتزوجها وان يترك تلك المسكينة تنتظر قدومه بفارغ صبر ، تعد المعدات لتقابله بعد غياب طويل واقلقته رسائلها البريئة فما كان عليه الا ان يكاتبها بملل معتذرا بكثرة شواغله حتى كان اليوم المشؤوم الذى قدم فيه مع زوجته وهى حامل على وشك الوضع . ويالها من مفاجأة تصاب بها خديجة فكم من ليال قضتها تذرف دمعا مرا من اجل الغدر والخيانة . وعلمتها هذه التجربة المرة ان تنكمش على نفسها وان تفر من البشر وان تبغض كل الرجال وان لا تمنحهم ثقتها ثم انكبت على دراستها بعزيمة وثبات الى ان اتمت بدورها تعليمها واصبح لها وظيف محترم ورفضت كل رجل يتقدم لخطبتها لانها تشبعت من غدرهم وآلمتها تلك الاهانة التى تؤثر فى كل امرأة حساسة رقيقة الشعور ترى فى نفسها الكفاءة واخيرا تقدم احمد لخطبتها وفرضت عليها والدتها ان تقبله وان تتناسى ذلك الرجل الذى لم يكترث بها ولم يعرها اهتماما . واستسلمت لامر عائلتها وقبلت احمد ولقيت منه احتراما ومحبة عظيمة فما كان عليها الا ان تبادله نفس الاحترام والمودة وانجبت (( سهيل )) و (( ليلى )) فزاد فى سعادتها وملأ حياتها فرحا وسرورا ونسيت احزانها الماضية .

كل هذه الاحداث استعادتها خديجة وهى ساهرة الى ان فاجاها نور الفجر فنهضت كعادتها واعدت لوازمها ثم امتطت سيارتها واتجهت لتدرس وهى ذاهلة تتحرك كالالة ولاحظ تلامذتها تغير استاذتهم واحترموا قلقها إذ انها لم تمتعهم بابتسامتها الحلوة ومداعباتها ، وانتهت من الدرس ورجعت الى منزلها متثاقلة خلافا للعادة حينما كانت تنتظر عودتها الى المنزل بفارغ صبر كى تتمتع برؤية حبيبيها الصغيرين .

ثم قدم احمد بدوره الى منزله فلاحظ ان خديجة شاحبة اللون كانما قضت ليلتها ساهرة ولاحظ ايضا انها لم تبد رغبتها فى الاكل واحست خديجة بنظرات زوجها فتسارعت دقات قلبها وضاقت انفاسها خصوصا حينما خاطبها قائلا :

- (( اتعلمين يا خديجة ان المتهم صرح لى بحقيقة امره اعترف لى انه قتل زوجته من اجل خيانتها ليصد عنه العار )) وهنا تنفست خديجة الصعداء بعد ان اعتقدت ان يوسف أفضى بسرها لزوجها الذى سبق ان رآها معه فى بعض الحفلات .

- (( وهل ستطول الابحاث يا احمد ؟ )) - (( لا لن تطول بعد التصريحات التى ادلى بها المتهم . . . ))

ومرت بخديجة عدة ايام ونفسها منقبضة كلما خاطبها احمد يتملكها الرعب خوفا من ان ينفضح امرها امام زوجها الذى يجهل انها كانت مخطوبة لغيره معتقدا انه اول رجل فى حياتها فمنحها ثقته واعتبرها زوجة مثالية فندمت على عدم مصارحته وخشيت ان تفقد تلك الثقة فتستولى الشكوك عليه ويتخلى عنها .

وبينما هى فى قبضة هواجسها يرن جرس الباب فيوقظها من افكارها السوداء ثم يدخل احمد ويستلقى على مقعد ويبادرها مبتسما .

- (( لقد انتهيت من تلك القضية يا خديجة لقد بذلت كل ما فى وسعى لادافع عن المتهم على كل لقد انقذته من الحكم بالاعدام فلم يحكم عليه الا بالسجن . ماذا تريدين انها عاقبة الطيش وعدم التروى لو تزوج هذا المتهم من تونسية تدين بدينه وتحترم تقاليده لماهدم حياته . لست ادرى لماذا يتخلى شبان هذا العصر عن الفتاة التونسية التى اكتسبت علما وثقافة وتربية واصبحت تعين الرجل على حل مشاكله العائلية وتحصلت على كامل حريتها . ونهض أحمد واخرج من جيبه علبة صغيرة ثم قدمها الى خديجة فبغتت واستهل وجهها الجميل الذى طال عبوسه وكآبته منذ أمد طويل فصاحت قائلة :

- (( ما اجمل هذا الخاتم . هل هو لى يا احمد ؟ )) - نعم يا حبيبتى هو هدية لك الا تتذكرين أنه فى هذا اليوم يمر على زواجنا اربع سنين ؟

ولا تسل عن فرحة خديحة فرحة انستها كل ما عانته فى هذه المدة التى كادت تقضى على سعادتها فامتلأت عيناها الجميلتان بدموع الفرح وارخت رأسها على كتف احمد وقلبها يكاد يتفتت فرحا .

اشترك في نشرتنا البريدية