٣
ان المؤرخ للأدب الاندلسي في عهده الزاهر يتطلع الى تاريخ مهم للبلد الذي كان يشع منه نور الحضارة الاسلامية ذلك البلد الزاهر بنهضته الادبية والعمرانية واتساع افقه الحضاري ذلك البلد هو قرطبة فقد كان قرارة اهل الفضل ووطن اولى العلم والنهي ، واعلام النثر والنظم فهذا الافق الحضاري هو مركز الرواد ومحط انظار رجالات الفكر من أهل العلم والإدب واذا ما نظرنا لمؤرخ هذا العهد ابن بسام تجد انه نقل لنا عن ذلك العهد ادبا جديدا رائعا وعنى بإخباره - وكان مجهوده فى المغرب كمجهود الثعالبي في المشرق لكتابه " اليتيمة ( . وهكذا كان الفضلاء من اهل العلم والأدب في المشرق والمغرب يتبارون - بالفضائل وبفاخرون بامجادهم وتراثهم ليكون المشرق والمغرب في العالم الاسلامي دعامتين ثابتتين ترفعان بناء الحضارة الاسلامية شامخا مزدهرا بآدابه وعلومه وثقافته الاسلامية الرشيدة . وكان اثر هذه المنافسة الاجتماعية والادبية بارزا في احوالهم العامة ، فقد اطلق الأندلسيون على شعرائهم القاب شعراء الشرق وكناهم فكان غالب الاندلسي يكني ابا تمام وابن زيدون يلقب بالبحترى وابن هانيء بالمتنبي ، ولما مات ابن هانىء نقل المؤرخون رواية عن المعز الفاطمي انه قال : " كنا نريد ان نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك حتى انك لتجد اثر هذه المنافسة التقدمية فى اسماء ملوكهم وخلفائهم فقد تسموا باسماء
خلفاء بني العباس - المنصور والمهدى والمامون والمعتصم - والمعتضد فاذا ما عرضنا لشعرائهم في مدائحهم نجد انهم اخذوا بأسلوب المشارقة وجددوا فيه وانتهجوا نهجهم وحسنوا فيه وكانوا يعنون كثيرا بالقيم ممثلة في ممدوحيهم كما يعنون بتزين الالفاظ وتوشيتها فى اشعارهم فتطالع في الشعر الاندلسي فنا وغناءا ممتعا جذابا ومما ورد من مدائحهم قول ابي عمرو القسطلى عندما دخل على الخليفة سليمان بن الحكم بقرطبة وانشده قصيدته التالية :
شهدت لك الايام انك عيدها
لك حن موحشها وآب بعيدها
واضاء مظلمها ، وافرخ روعها
واطاع عاصيها ، ولان شديدها
وصفت بك الدنيا فشب كبيرها
في اثر ما قد كان شاب وليدها
ما كان اجمد قبل نوئك بحرها
فالآن فجر بالندى جلمودها
فارتاح بيتك في اباطح مكة
لمعاد ايام دنا موعودها
ويختتم هذا المديح بإهداء قصيدته الى الممدوح في عبارات رقيقة تنم عن مدى العناية بالمحسنات اللفظية وتوشيتها وترمي الى معنى جليل في مجال المدح والاطراء هو معنى التقدير للقيم التى يتحلى بها الممدوح :
فاقبل فقد ساقت اليك مهورها
اكفاء حمد لا يذم حميدها
بدعا من النظم النفيس تشابهت
فيها الجواهر درها وفريدها
وليهنها ايام عز كلها
عيد وانت لمن اطاعك عيدها
ونمضى مع هذه المدائح اللطاف والارتسامات العذاب فنقرأ له فى قصيدة أخرى من المديح :
هنيئا لهذا الملك روح وريحان
وللدين والدنيا امان وايمان
الى ان قال :
وقام فقامت للمعالى معالم
وللخير اسواق وللعدل ميزان
وجدد للاسلام سور خلافة
عليها من الرحمن نور وبرهان
ومنها فى صفة رجاله الفوارس :
وقد لمعت حوليك منهم اسنة
تخيل ان الحزن والسهل نيران
وكل زناتي كان حسامه
وهامة من لاقاه نار وقربان
ان البيئة تتحكم في نتاج الشعراء واهدافهم وتكيف انطباعاتهم واتجاهاتهم وفقا لاوضاعها وملابساتها ، كان العرب وقد فتحوا الاندلس ووقفوا على ابواب اوروبا يؤكدون وجودهم ويخضعون ببطولاتهم الآفاق الممتدة فى كل جانب من جوانب هذا العالم وهى التى كانت تبعث فى نفوس شعرائهم العزة والشعور بالكرامة فلا يقفون امام ممدوحيهم الا ليعلنوا عن هذه الامجاد ويتفنون بهذه المفاخر ، واننا إذا ما قرأننا للمتنبى وهو يمتدح سيف الدولة لا نجد منه الا تملقا ومبالغة تفقده مكانته المرموقة فى الشعراء فهو يقول فى مبالغة مرذولة يعبر فيها عن مدحه لسيف الدولة :
احبك يا شمس الزمان وبدره
وان لامني فيك السها والفرقد
كلام تافه يعبر عن رياء مفضوح وتملق مكشوف فما هى قيمة حبه الذى يلومه عليه السهى والفراقد .
ولا نزدرى المتنبى بهذه الملاحظة او نتعرض لمكانته المرموقة بطعن انما لنقارن بين شاعر فى المشرق وآخر فى المغرب لابد ان ندلل على مدى التفاوت بين اتجاهات كل منهما فى غرض من اغراض الشعر وهو المديح ، ذلك ان الدراسة الادبية تقضى علينا بتفهم العوامل التى تمليها البيئة على اتجاهات الشاعر وتفكيره واهدافه . ونمضى فى هذا العرض فنقرأ للقسطلى من قصيدة فى المنصور ابن عامر ضمنها حسن التشبيه فقال :
وقد خيلت طرق المجرة انها
على فرق الليل البهيم قتير
ودارت نجوم القطب حتى كانها
كؤوس بها والى بهن مدير
لقد ايقنت ان المني طوع همتي
واني بعطف العامري جدير
وكان حسن الدخول فى هذه الابيات والتخلص منها الى ذكر العامرى فيه من الايناس لذكر الممدوح وايناس للمستمعين فيدخل لذكر الممدوح وقد هز المشاعر واطرب العقول ، ومنها ما ينم عن حسن الوصف والابداع في المعانى قوله :
ولما توافوا للسلام ورفعت
عن الشمس في افق السماء ستور
وقد قام من زرق الاسنة دونها
صفوف ومن بيض السيوف سطور
رواوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها
وايات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبر والبحر مجلس
وقام بعبء الراسيات سرير
فجاؤا عجالا والقلوب خوافق
وولوا بطاء ، والنواظر صور
واذا تأملنا ما فى البيت الاخير من روعة لمقابلة الممدوح وحسن التصوير والتدليل على هيبة مقامه ثم اثر هذه المقابلة عند انصراف المسلمين عليه نلمس كيف تطاوع هذا الشاعر المعانى وتسهل له الالفاظ في رقة وعذوبة وابداع فى التخيل وحسن التصوير
ويختتم هذه القصيدة الرائعة فى حسن ألفاظها وسحر معانيها بقوله :
وضاءل قدرى فى ذراك عوائق
جرت لى برحا والقضاء عسير
اثرني لخطب الدهر والدهر معضل
وكلنى لليث الغاب وهو هصور
وهذا هو الافتداء الذي يعلن فيه وفاءه وصدق مودته واخلاصه ومع هذا فهو يحفظ لنفسه اعتزازها وكرامتها حين يقول :
وقد تخفض الاسماء وهي سواكن
ويعمل فى الفعل الصحيح ضمير
وتنبو الردينيات والطول وافر
ويبعد وقع السهم وهو قصير
وهكذا يبدى الشاعر اعتزازه بكرامته وعلو همته مترفعا عن التبذل المرذول والتملق الممقوت ويحلق في اجواء الثناء بما يستحقه المقام من تقدير لممدوحه واعزاز لنفسه وارتفاع بها عن الهوان والرياء المفضوح .
وكأني بالمادحين المهرجين وقد سال لعابهم للجوائز واشرابت اعناقهم لنيلها فأهدروا فى المعانى هدرا ومسخوا قيم الحمد والثناء بسخافات العبث والتهريج فما انصرفوا من هديرهم وتهريجهم حتى تركوا وراءهم ضحكات السخرية والاستهزاء وتهكم الساخرين باباطيلهم الناقمين على
انزلاق انفسهم وانحدارها للحضيض جريا وراء عرض زائل وجاه زائف ، ولم لا يكون المديح مثالا من امثلة التقدير للامجاد سواء كان نثرا او شعرا وعنوانا ناطقا بأجلال القيم وتمجيدها فى شخص صانعها وموحيها ولو كان صانعها وموحيها من سائر الناس ؟ ! اننا بهذا المديح المثالى نرفع من احاسيس النفوس ونشعرها بمعنوياتها فى النهوض بواجباتها . وفى تمجيدنا للقيم واجلالنا للمثل العليا ندفع بالنفوس المتقاعدة - عن واجبها - الى تعشق هذه المثل والتحفز لادراكها والتحلى بها .
فاذا ما لمسنا هذا الاعتزاز وهذه المثالية فى مديح هذا الشاعر الاندلسي القسطلى واكبرنا لهذا الشاعر الاندلسي اتجاهه المثالي فى المديح فاننا نؤدى بذلك حق الدراسة لغرض من اغراض الشعر وهو المديح في بيئته الاندلسية . وسنمضى فى دراسة غيره من الاغراض الشعرية من رثاء وغزل ووصف الى اخر ما في هذه الاغراض الشعرية من اتجاهات ونزعات تبرز لنا شعراء الاندلس فى مجالاتهم العامة عن ضوء ما تتطلبه هذه الدراسة من تأمل ونقد وتحليل حريصين على أن تؤدى حق الامانة فى النقل والتركيز فى البحث مرجحين فى شعر الشعراء واقدارهم الروح الابى والطبع الزكى وقوة التعبير وحسن الاداء ونحن مقدرون ان عوامل البيئة هى التى تصنع من الشاعر اتجاهاته ونزعاته ومنها يستمد كيانه والهاماته ولا بد لنا ان ، على عوامل البيئة فى الاندلس ونلمس مدى تأثر الشعراء والكتاب بها واثرها فى انفسهم لنستكمل بذلك حق الدراسة فى دقة وانصاف .
قال احد الحكماء اليونان : إذا تعلم رجل السوء . شيئا من الأدب استحال ذلك الأدب فيه جهلا كما يستحيل الطعام في جوف المريض داء .
