فى (( القيروان )) نشأ الشاعر الناقد أبو على الحسن بن رشيق الأزدى ؛ صاحب كتاب (( العمدة )) ، والذى ولد والقرن الرابع يتثاءب مع عقده الأخير ، وتوفى فى (( صقلية )) غريبا عن موطنه والقرن الخامس يتجاوز عقده الخامس أوالسادس بقليل . وهو الذى هتف بالليل أن يطول ، فقال :
أيها الليل طل بغير جناح ليس للعين راحة فى الصباح
كيف لا أبغض الصباح وفيه بان عنى نور الوجوه الملاح
ثم رثى القيروان بعده أن عدت عليها أحداث طائشة ، وخرج منها والنار تأكلها وتأكل قلبه ، وظل حنينه إليها لا يخمد حتى خمدت أنفاسه وصدى صوته يتردد مع الزمان :
أترى الليالى بعدما صنعت بنا تقضى لنا بتواصل وتدان
وتعيد أرض القيروان كعهدها فيما مضى من سالف الأزمان
من بعد ما سلبت نضائر حسنها ال ـأيام ، واختلفت بها فئتان
وفى (( القيروان )) خرج للوجود شاعر آخر معاصر لابن رشيق هو أبو عبد الله محمد بن شرف الجذامى المتوفى عام 460 ه ، صاحب هذا القول :
سقى الله أرضا أنبتت عودك الذي زكت فيه أغصان وطابت مغارس
تغنى عليها الطير وهى رطيبة وغنى عليها الناس والعود يابس
ومن (( القيروان )) أطل على الزمان طائفة من أعلام الفكر : شعراء ، وكتاب ، ونقاد . وانطلق منها صوت أبى الحسن علي بن عبد الغني
الحصري الضرير ، يهتف بالليل ألا يطول ، فهو يعيش في ظلمة كتب عليه القدر أن تغشاه ، فيقول :
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده
ويحن إلى القيروان فيقول قبل أن يلحق بهذين الشاعرين في دار الخلود بعد عشرين عاما :
ألا سقى الله أرض القيروان حيا كأنه عبراتي المستهلات
وكف عنها أيادى المفسدين لها ولا عدتها من الخيرات عادات
فإنها لدة الجنات ، تربتها مسكية ، وحصاها جوهريات
وفى (( القيروان )) يقف بعد عشرة قرون شاعر من ضفاف النيل فى العيد الألفى لابن رشيق ؛ ليقول :
يا هاتفا من فؤاد شفه الألم وهائما فى دجى كالموج يلتطم
وسائلا عن غد تزهو مطالعه هذا هو الغد ، فانظر كيف يبتسم
وداعيا لحبيب عشت ترقبه .... هذا (( الحبيب )) ، وهذا الشمل ملتئم
كم خلف كل دجى : سر تخبئه مشيئة الله حتى تقشع الظلم
وهذه (( تونس الخضراء )) مشرقة فى عهده ، بجلال الأمن تتسم
وهذه (( تونس الخضراء )) تفتح لى صدرا يفيض به الإعزاز والكرم
وتزدهي مقلتي اليوم لوحتها ، فجنة الله حولى نورها عمم
أزاح عنها بنوها كل ذي جشع يبتز خيراتها - غصبا - ويلتهم
وزحزحوا ظلمة بغضاء قاتمة ظلت تشوه ما قد زين القدم
كانت رؤى في خيالي أن أخف إلى ربوعها قبل أن يطويني العدم
حتى تحقق حلمي فى فجاءته ، فجئتها ... وتلاقى الصحو والحلم
عرفت (( شابيها )) والعمر متشح ثوب الشباب ، ونار القلب تضطرم
فتى كومضة مصباح بآخرة يلهو بها القاسيان : الجهد والسقم
يصوغ من قلبه شعرا كأن به أصداء ناي مع الدمعات تنسجم
وفيه زمجرة غضبي كأن بها بركان نار على الطاغوت يحتدم
وكنت ألمح فى شكواه أمته تئن حيث يسود الظلم والصمم
ولا تنام على ضيم ، مهيأة لوثبة تتحدى كل من ظلموا ...
إباؤها قمة للنجم صاعدة ... وكيف تعنو لغير الخالق القمم !؟
في (( القيروان )) وفي أفياء ظلتها سعى على الدرب : فكر مشرق ودم
هما عمادا فتى توحي ملامحه بما تخبئه الدنيا وتكتتم
على البسيط الموشى من مرابعها حيث انتشى الزهر لما هزه النسم
وفى الفسيح المروى من مواجلها حيث ازدهى الزرع وازدادت به النعم
وحيث يسمو النخيل المجتنى ثمرا كأنملات الغواني زانها العنم
وحيث يأتلق الزيتون مزدهيا كأنه فوق صدر الغادة الحلم
وحيث تمرح في الوديان سائمة على غناء رعاة بالرضا نعموا ...
وحيث ترتفع الأجبال شامخة كأنها عزم أهليها الذين هم ...
هم الأشاوس لم تخمد لعزتهم عزيمة ، أو تهن من همهم همم
وحيث (( عقبة )) ألقى رحله ، وبدا من خلفه : النور والإسلام والحرم
طوى الصحارى إليها حاملا أملا فى أن يرف على (( افريقيا )) العلم
أمر من الله أن تعلو شريعته فى الخافقين وأمر الله ملتزم
فشيدت حيث حل المسلمون بها مساجد الله تسعى نحوها القدم
فوق المآذن تكبير تردده جوانب الأفق أصداء لها نغم
وتحت أسقفها العلياء همهمة لناسكين يشيع النور فوقهم
وألفت بين أهل الشرق في نسق وبين أبناء هذا المغرب الرحم
دم جرى في عروق العنصرين ، فما يشوبه ضغن يوما إذا اختصموا
ووحدت في ائتلاف بيننا لغة فليس يفصم هذي الوحدة العجم
... في ظل هذا الجمال الملتقي تحفا فتانة حار فيها العقل والفهم
شب الفتى (( ابن رشيق )) والزمان فتى يرى حواليه دور العلم تؤتمم
تبدو مواهبه ، والعمر مؤتنق ، يرنو اشتياقا إلى تسجيلها القلم
ساع إلى منهل من بعد سابقه للعلم ، يرشف منه الظامىء النهم
حتى إذا ما استوى عود الفتى انطلقت قيثارة الشعر يهوى شدوها الكلم
أصغى لها أفق (( الخضراء )) وانبعثت أصداؤها خلف هذا الأفق والرنم
شعر عليه من الطاووس : زينته ، ومن عصير الدوالى : العتق والقدم
يرق حتى كأن العين تحسبه دموعها انهملت ، أو انه ديم
من شاعر كسرى الأطياف خفته تكاد ألفاظه يحلو بهن فم
إذا انتضى الصبح سيف النور شق له طريقه حيث لا إثم ولا لمم
إلى المساجد يمضي فى صبيحته حيث الخشوع وحيث الكتب تزدحم
منقبا فى التراث الحي فى دأب عن كل ما نثر الماضون أو نظموا
ونحن أبناء مجد خالد أبدا قد خلفوه لنا أجدادنا القدم
حتى إذا ما الدجى أرخى عباءته آوى إلى شمعة تذوي وتخترم
نديمه : صحف بيض ، ومحبرة ، وخادم الوحي ذاك الصامت : القلم
صريره فوق خذ الطرس سلوته ، لا يعتريه به يأس ولا سأم
والعلم كالدين يجزى عنه ناسكه بالخلد ؛ نعم الجزاء : الخلد عندهم
في الجامع الأعظم المشهور تسبقه وفود طلابه تسعى وتنتظم
يملى عليهم كتابا ظل عمدتنا فى دقة النقد ، حين النقد يتهم
نهج سليم ، وميزان إذا وضعت فيه الأمور استعزت عنده القيم
والنقد إن لم تنزه كفتاه هوى إلى الحضيض وشاه الحكم والحكم
لم أنس صرخته والنار تلتهم هذا الجمال ، وهذا المجد ينهدم
وعصبة ساقها الشيطان باغية على حماه ... فراح الشمل ينقسم
صبوا على (( القيروان )) الشر في غسق لم يردع الشر ميثاق ولا قسم
يسوقهم طائش الطغيان فى عمه كما تساق إلى جزارها الغنم
يخربون ولا يدرون ما خربوا ، ويأثمون ولا يدرون ما أثموا
ويفتكون بأرواح مبرأة من شائب الحقد لم يصددهم ندم
كأنما ثار بركان ، فصاعقة تهوى عليها ، وتهوى بعدها حمم
والناس فى جزع ، يجرون في هلع قد خلفوا ما بنى آباؤهم لهم
طوفان بغي طغى وامتد جائشه يطوى الحياة ، وتطفو فوقه الرمم
يا هول ما فعلوا يا بئس ما صنعوا يا ويح ما اقترفوا يا شر ما اجترموا !
والعهد إن لم تصنه ذمة خلصت لله تعمل ، ضاع العهد والذمم
ما للشعوب إذا ما الأمن حالفها هبت حماقة قوم في الطريق عموا !
بكى (( الرشيقي )) مجد القيروان دما ، وهز وجدانه الأحزان والألم
لما رأى الأرض- أرض المجد_قد غمرت بالمفسدين وجيش البغي يقتحم
آوى إلى سفن فى البحر ماخرة ، والبحر كالأرض فيه الموج يلتحم
وفي صقلية ألقى مراسيه ... وغاب فى الصمت هذا العاشق السدم
واليوم بعد قرون عدة رجعت روح الغريب ترود الدار تلتثم
والقيروان تعيد اليوم سيرتها ولن تموت إذا ما استبسلت أمم ...
