فى يوم من الايام . . رغبت فى أن يكون حول بيتي حديقة . . يكون فيها أشجار من نخيل وأعناب . . وفاكهة من كل زوجين . . ويكون فيها زهور الفل والياسمين والورد . . وتكون منسقة . . منظمة . . يفصل بين كل صنف وآخر شارع مبلط . . وعلى جنبيه الآجر المصفوف . . ثم أترك فى وسط الحديقة مساحة واسعة لزراعة الحشائش والاعشاب البطيئة النمو . . وأملأ جوانبها بألعاب الاطفال ليتريض فيها أولاد الجيران والاصدقاء على الاقل . .
ولما أمعن عقلي في التفكير بانشاء بركة للسباحة وملعب للتنس قلت له : قف . . من أنت ! وكم بجيبك ؟ . .
فانطويت على نفسي . . وقلت لها : يالضيعة الاحلام . . مالي ابعثر أفكارى سدى . . ولماذا لا اكون عمليا . . واقعيا . . بلى ساكون كذلك . .
ذهبت الى دائرة الزراعة . فوجدت الرجل المسئول هناك رجلا كيسا لبقا تحدثت معه عن الجهود الجبارة التى تبذلها دائرة الزراعة في سبيل النهضة الزراعية المرموقة والآمال المعقودة عليه وعلى امثاله من الشباب المخلصين ثم عرضت عليه مشروعي . . فتبرع باعطائى بعض الشجيرات المثمرة وغير
المثمرة وبعض بذور الزهور لغرسها ، ومضيت شاكرا . . وقلت : نجحت مهمتى . . وسيكون عندى حديقة عما قريب باذن الله . . وسأزرع الخضرة والفاكهة . . وأكفى نفسي مئونة الذهاب يوميا للسوق لشراء الخضرة وسأوزع على الجيران فائض ما احتاج أو ابيعه لهم . . وأصبح من وراء ذلك مثريا . . أو على الاقل غير ذى حاجة !
واستأجرت حمارا لاذهب وأحمل الشجيرات عليه من حديقة الزراعة البعيدة ، ووجدتني سعيدا يوم وصل الحمار بيتي . . فأنزلت شجيراتي . . وأطلقت سراح الحمار فعرف السبيل الى بيت صاحبه . . وأخذت الفأس والمسحاة أحفر الحفر وأضع فيها الماء والسماد والشجر . . ثم أطمر الحفره بالتراب . . وزرعت في يوم واحد على ما أذكر خمسين شجرة . .
ولست أعلم انني ندمت على زراعة هذه الشجيرات ندمى فى اليوم الثالث لغرس الشجر . . ذلك انه كان على فى مساء كل يوم ان اشمر عن ساعدى والبس ( الشورت ) وأسقي تلك الشجرات ، واعتقدت ان هذه عملية سهلة . . وانها رياضة ممتعة لذيذة ولكنني اكتشفت انه حتى الرياضة التى يرى المرء ان عليه ان يمارسها كوظيفة لابد منها ، تراه يملها ويود
لو امكنه ان يطلقها ويتهرب منها !
وراقبت نمو شجيراتي فرحا . . فأما الشجرات المثمرة كالموز ( البنانا ) والبرتقال مثلا فقد كانت تحتاج إلى كثير من العناية ( والتدليل ) والماء . . والوقاية من الريح الشمالية وكانت تحتاج الى أن تكون ضمن نطاق سور يمنع عنها الابل السارحة والمعزى والغنم والحمير والبقر . . هذه الحيوانات التى يلذ لها ان تعبث بكل شئ أخضر إلى جانب طعامها من الورق والجرائد في الشوارع والطرق .
وليس بمقدورى أن أبنى سورا حول بيتي البسيط . . ولذلك تركت هذه الشجيرات تقاوم مثلي في صراع الحياة الرهيب . . فأما الشجرات المثمرة فأصبحت في خبر كان . . وبقيت الشجرات الاخر تصارع . . وتقاوم عوادى الريح والمعزى . . وكلما كنت بالبيت وقام المعزي والبقر والحمير
بهجوم قمت من جانبى بهجوم معاكس كنت أنتصر فيه بالنهاية الا في معركة الحمير فكنت الخاسر دائما لانني كنت أضربها بكل ما حولى من حجارة أو عصى أو أخشاب فلا تتحرك أو تحس بالم . . فيسقط في يدى واستسلم للحمير استسلام اليائس المغلوب على أمره . . وفي النهاية عاش بعد المقاومة الرهيبة نصف عدد الشجر . وفرحت ايما فرح . . لانني وجدت فى ذلك انتصارا على الحياة او انتصارا للحياة . .
ونمت شجراتى . . ولم يرعني في كل هذه العملية سوى شجرة ( بارازيت ) فضولية شائكة . . أطلت من الارض براسها . . وأخذت سبيلها فى النمو بعد سنتين من غرس
وانتعاش شجراتى . وكانت لا تبعد أكثر من شبر أو فتر عن شجرة نامية مترعرعة . . وكانت بجانب درج بيتى تماما . . وأهملت شأن هذه الشجرة الشائكة أول الامر . . وقلت لن يكون غذاء فى الارض كافيا لاثنتين متجاورتين . . وستكون الشجرة الكبيرة اقوى بامتصاص الغذاء من الارض . . وستجد هذه الشجرة الطفيلية أن لا مكان لها فى الارض . .
وان وجودها غير مرغوب فيه فتضؤل وتضمر وبالنهاية تجف وتلحق بأخواتها الشجرات المثمرات ولكن غير ماسوف عليها هذه المرة ولكن نمو هذه الشجرة الشائكة الطفيلية أخذ يتسارع وها هى أشواكها تتطاول وها هو جذعها يمسك . . عجيب ! . . ان نموها أسرع بكثير من كل شجرة من الشجرات التى حولها . .
واسترعت هذه الشجرة انتباهى التام . . وكنت اخاطبها كل يوم بحقد : ولماذا تصارعين الحياة هذا الصراع . . سوف لن اعيرك أى التفات لن أسقيك بيدى كما سقيت باقى الشجرات . . ولن أجلب لك السماد ولن أعني بك أية عناية . . انك طفيلية اننى احتقرك . . وأهم بأن أدوسها برجلي . . اسحقها . . او اضربها بالفأس على قمة رأسها . . أو بلغة الشجر . . على أعماق جذورها .
ولكن اعود فأقول فى نفسى فلنتركها لنرى ما يكون . . ولنرى من الذى سينتصر . . ولم يكن من صدى لكلماتى . . ومقتى . . وحنقي على هذه الشجرة الشريرة الماكرة الا ابتسامة السخرية منها والهزء بي . ها هى اوراقها الخضر النابضة بالحياة
تكثر وتفيض رواء وانتعاشا . . وها هى أشواكها تمتد فى كل جهة فتلمس بل وتتعانق . . معاذ الله ! بل وتنفذ من أوراق وأغصان الشجرة الوديعة المسالمة التى بجانبها . . فتنكمش أوراق هذه وتذبل وتنحنى أغصانها باتجاه أشواك جارتها التى حنت عليها واكرمتها وأفسحت لها . . فنمت وترعرعت من غذائها ومائها وهووائها . . وصممت على دراسة هذه الظاهرة الخرقاء الطبيعية أو بالاحرى غير الطبيعية حتى فى عالم النبات . . فماذا كان . .
كانت النتيجة أنه بينما كان هنالك فرق سنتين بين عمر الشجرة الاصيلة المضيفة الوادعة المسالمة . . والشجرة الطفيلية الشائكة غير المرغوب فيها . . نرى هذه الشجرة الشريرة بعد سنة واحدة وقد اصبحت أضخم وأعلى بكثير من جارتها . . حتى أنها غطت عليها والتفت أشواكها حولها . . فكبلتها وقيدتها فتضاءلت على نفسها وانكمشت . . وأصبحت السيطرة تحت درجى للشجرة الشائكة . .
وتطاولت اشواكها حتى وصلت ( الفرندا) . . فكان اذا جاءني ضيف بسيارته . . وقليلا ما هم ضيوفى أصحاب السيارات ، وركن سيارته بجانب الدرج كان عليه ان يزيح أغصان الشجرة الشريرة هذه بيديه ليستستطيع النفوذ إلى الدرج واذا كان مسرعا وأراد الوصول إلى الدرج على عجل ارتطم وجهه بالاشواك فسالت منه الدماء . . فأعتذر وأقص هذه الاغصان الشائكة التى تطاولت الى درج بيتي وفرندته وكادت أن تصل الى شباك الغرفة . . وربما إذا تركت
خرقت الشباك ونفذت منه الى داخل الغرفة . . وكثيرا ما كان يقرعني بعض ضيوفى ( الناعمين ) ويستغربون كيف يرضى رجل ( فنان) . . بهذه الشجرة التى لا صلة لها بالفن قط وأنا ضعيف امام النعومة . . يسلس قيادى لها . . ولم تكن حجة " دراستى لظواهر الخير والشر تغنيني عن تخفيف الالم أو تضميد جراح الوجوه الناعمة شيئا . .
وكدت أقتنع بضرورة قلع وخضع واجتثاث شجرة الشر والشوك والفجور . . لولا اننى رأيت حادثنا فى بنى الانسان ادهشني وأذعننى وصرفني عن الاهتمام بدراسه الخير والشر بين النبات والجماد والحيوانات جاءنى فى يوم من الأيام . . مدير شركة عظيمة معروفة فى العالم اجمع يقول : تعال معي نستقبل صديقا لى وزوجته . . يصلان بالطائرة الآن من أمريكا . . فذهبت معه واستقبلناهما خير استقبال . . ونزلا بفندق مشهور من فنادق البلدة . .
وفي المساء ذهبنا لزيارتهما . . فوجدناهما متضايقين من هذا الفندق الفخم . . . فعرض عليها رفيقي النزول فى ضيافته . . فقبلا ذلك العرض دون ما تردد . . فاعطاهما رفيقي غرفته ( المكندسه ) صار ينام فى مكتبه الوتير ( الكندس ) ايضا وبقيا في ضيافته أسبوعا او يزيد أقام خلاله حفلات صاخبة جمع فيها نخبة سراة البلد وعلية القوم من محليين واجانب . . وعمل كل ما فى وسعه أن يعمله رجل شهم كريم حسيب من اكرام واعزاز وسخاء حتى أصبح مضرب المثل . . وعرف ضيفه
بالنخبة والعلية والطبقة الخاصة فى البلد . .
فماذا كان . . ؟ !
وجد الضيف العتيد أن مضيفه يتمتع بمركز كبير فى البلد . . وانه يسكن فيلا أنيقة تحيط بها الاشجار من كل جانب . . وان اثاثها فخم جدا من أفخر ما انتجت مصانع الاثاث الامريكية . . وانه بالاضافة إلى أن راتب مضيفه ضخم الا انه لا يصرف من جيبه مليما واحدا على مأكل أو مشرب أو ملبس . . فالشركة تتعهد ذلك كله . . حتى الحفلات الصاخبة وأن البيت ملئ بالخدم والفراشين والطباخين . . وانه ما على المرء الا أن يأمر فيطاع ويكون له ما أراد . . وان
الواجبات المطلوب من المدير أن يقوم بها ما هي الا واجبات روتينية رتيبة من السهل على كل امرئ ذى ذكاء محدود أن يقوم بها . . هذا بالاضافة الى أن سيارتين جديدتين هما دائما بخدمة وتحت تصرف المدير العظيم !
بهرت هذه التيسيرات والتسهيلات والمبهجات أعين الضيف وزوجه . وعادا الى أمريكا . . وبدلا من أن يمتدحا خلق ومركز وحسن استقبال وضيافة مدير هذه الشركة الى رئيسها ومالك اكثر أسهم فيها . . أخذا يشتمان هذا المضيف والمدير الذي ( لا قيمة ولا مركز له) . . والذي ( لا يحترمه أحد) . . والذي ( لم يقم بواجب اكرامهما ايما اكرام ) والذي ( لا يليق قط بمثل هذا المركز) . . والذي ) لا يستطيع ادارة مكتب الشركة) . . والذي ( لا يعرف السبيل الى الاتصال بعلية القوم للاستفادة أيما استفادة) . . والذي
( يجهل أصول الاتكيت والبروتوكول في معاملته واجتماعياته) . .
ودوت مثل هذه ( التشنيعات ) دوى الرعد فى أذن صاحب اكثر اسهم الشركة . . انها شركة الدولار والذهب الاسود والمتناقضات جميعا انها شركة البحث عن المتاعب والصفقات والمغامرات والمضاربات والغش على أوسع نطاق . . وصاحب أكثر الاسهم هو الرجل المسيطر الفعلى عليها . . هو الذى يلعب بمقدرات شركائه . . وهو الذى له القول الفصل فى النهاية . . وهذا رجل قد بلغ من الكبر عتيا . . ولكنه
عبد خاضع للمرأة . . مزواج مطلاق وهو هارب من أمريكا كلها ويسكن أوروبا تهربا من دفع ضرائب معينة عليه . . بل هربا من آخر زوجة طلقها فرفعت عليه قضية تطالبه بنصف ثروته حسبما جاء في شروط عقد زواجهما فى حالة الطلاق . . ولعب الضيف وزوجته الحسناء البارعة الاغراء . . دورهما في اقناع العجوز صاحب الشركة بتفاهة شخصية مدير الشركة في تلك البلاد التى تدر لبنا
وعسلا وذهبا أسود . . وحار فى أمره من سيدبر عوضا عنه في تلك الصحراء النائية . . ولم يكن من العسير التفتيش عمن يحل محله . . فهما مستعدان لمثل هذه المفاجأة . . واقتنع المليونير العجوز أن خير من يحل محله هو هذا الضيف الذي حل بالامس فى ضيافة صاحبه . . واذن عرف الشئ الكثير عن البلاد وخبر أهلها . . واذا ذهب كان كمن يذهب على مدى وبصيرة من امره . . هذا مع وجود هذه الكفاءات المتعددة لهذا الرجل .
امرأة مغرية لعوب . . لها صلات متعددة فى تلك البلاد . . ورجل مغامر صاحب ( مقالب ) يعرف كيف ينتهز الفرص وكيف يوقع ويتامر ويغدر وكيف يكون منكرا للجميل . . منكرا للنعمة . . يرفس الصداقة برجله في أى وقت شاء تبعا لمصلحته . . يتود ويحتال وينافق ويتمسح بالاعتاب لينال غايته . . لئيم خبيث ماكر . .
يستعمل كل واسطة لتبرير غايته . . يغتاب ويحسد ويحقد . . يكذب وينكر أقواله بسرعة ويقسم على ذلك أغلظ الايمان . . يتحمل الصفع والاهانة بابتسامة وهدوء اعصاب ويشكرك في النهاية عليها ويهز كتفيه واذا اقتضى الامر لتقبيل يدك فعل ذلك لمصالحتك واعتذارا اليك لتعفو وتصفح عنه . .
قد يكون هذا تعريف ال Gueicn في بعض جهات العالم . . وقد يكون لا مكان للرجل الشريف بينهم . .
وكل المليونير العجوز امر هذه المهمة ( الشاقة ) الى هذا الرجل وزوجه . . وسلمهما زمام أمره وأمر شركته في تلك الصحراء النائية . . وأوصاهما بأن يبقيا مدير الشركة ذاك حيث هو . . فى وظيفته . . تقديرا لخدماته السابقة . .
جاء الرجل بمفرده وترك زوجه في مكانها . . حيث يقيم المليونير العجوز فأهل به المدير الاصيل ورحب . . واكرمه ايما اكرام . . وأحله في البيت والمكتب في المحل الاول . .
طمع القادم الجديد . . وفي اليوم الثاني كان بأمر هذا . . وذاك . .
من موظفي المكتب . . ويثير المشاكل ويأمر بنقل هذا الكرسي من هنا إلى هناك . . وهذا المكتب من هناك الى هنا . . ويثير الغبار حوله حيثما جلس أو نهض . . ! ويلقب نفسه بصاحب السعادة المدير الجديد ذي الكلمة الاولى ورب الامر والنهى والسلطان .
وفي اليوم التالي بالذات كذلك أخذ يسطر برقيات الشكوى المريرة الى صاحب الشركة المليونير العجوز ضد المستر . . مدير الشركة الذي لا يحفل به ولا بصاحب الشركة ولا يبدى أى ذرة من روح التعاون معه ، وبالنتيجة يستحيل التفاهم معه . . ويرسل نسخا من تلك البرقيات الى زوجه .
لتتصل بالمليونير العجوز وتلقى شباكها ( الرشيقة ) حوله . . لتصل هى وزوجها العتيد الى النتيجة المحبوكة خيوطها وسطورها منذ أول لحظة وطئت أقدامهما أرض الصحراء . .
لم يكن عسيرا على الزوجة الناعمة الحسناء اقناع المليونير العجوز بلزوم ( قلع ) و ( خلع ) المدير القديم من حذوره . . والاستغناء كليا عن خدماته ولم يكن ليكلف ذلك أكثر من استعمالها كافة وسائلها المغرية للحصول على برقية الاستغناء عن خدماته مع تقدير هذه الخدمات وشكره على جهوده السالفة . .
وصلت البرقية المدير القديم . . فضرب كفا بكف . .
ويلاه . . ماذا فعلت ! . .
اخلاص وجهد وتعب وعرق خمس سنوات عجاف . . تودى بها كلها برقية . . وما هى البرقية . . انها ورقة وعليها سطور وكلمات وحروف كهذه التى تقرؤها بين يديك الآن . .
آه . . لو درى الناس ما تفعل هذه الحروف وما هو تأثيرها فى النفوس اذن لتدبروا . . وفكروا طويلا . . وتعقلوا . . قبل أن يكتبوا حرفا واحدا . . وقبل أن يصدروا اوامرهم ارتجالا واعتباطا ! . . ان هذه الحروف أصبحت الآن تتحكم بمصائر الرجال بمصائر الحكومات والشعوب . .
والاسرة التى هى أساس المجتمع . . ان قصة واحدة أو كلمات معينة تسطرها يد . . اما ان تضل رجلا وأمرأة . . او تهديهما سواء السبيل لقد اخترع الانسان هذا الحرف ثم أصبح عبدا له . . يسير حسب ما
يمليه هو على نفسه وعلى غيره . . وان ساعة نزق أو طيش . . أو سكر وغيبوبة عن الدنيا يكتب فيها ما هو كاف لان يمزق أسرا ويدمر مستقبل رجال . . ويهدم نظاما تعب فى جمعه وتطبيقه أجيال وأجيال . .
آه لو درت هذه السطور وهذه ( البرقية ) كم عرق وسهر هذا المدير في بدء تأسيس الشركة وكم بذل من جهد وكم صبر على كل مشقة . . كيف أتى الى مكتب لا نور ولا ماء به حتى ولا أسلاك . . ولا زجاج . . ولا بلاط . . ولا أثاث . . وبقى المدير
ينام على كرسى مصنوع من سعف النخيل . . سنة كاملة فى خارج البيت . . حيث لا يمكن لامرئ قط أن يطيق البقاء فى بيت هو هيكل من الهياكل الأثرية القديمة ملئ بالذباب والبعوض وشتى انواع الهوام والحشرات ويحتاج اصلاحه وتعميره الى أشهر عديدة . . هذا البيت والمكتب الذي دخله المدير بهذا الشكل تعالى الآن وانظر اليه فماذا ترى . .
تراه بيتا يصلح لاستقبال الملوك ، وتراه مكتبا يحوى أنفس الأثاث والرياش . وترى حول البيت حديقة تحوى باسق الاشجار ، والازهار العبقة الشذى والعبير . . وتجد غرفا تحوى خير الكتب والمجلدات التاريخية والعلمية والاجتماعية النفيسة . .
تجد الصالونات الملأى بنفيس السجاد والفوتيهات التى لا وجود لها الا فى بيوت الاريستوقراطية الامريكية - الحديثة . . ايستطيع امرء أن يقدر الجهد المبذول لتحويل الصحراء إلى جنات عدن تجرى من تحتها الانهار . . والى تحويل الخرائب الى قصور . والجهل الى علم ومعرفة . .
لم يكن بد أمام الرجل النبيل المدير القديم . . الا أن ينطوى على نفسه . . ويهدأ الى كلبه الامين الذى صاحبه ستة أعوام في هذا البيت بالذات . . ما عتم الكلب أن عرف أن صاحبه تارك البيت لا محالة حتى تعلق بصاحبه وأبى أن يتركه غمضة عين . . كان ينوح ويعوى عوا الالم والكابة صباح مساء . . ويجرى من غرفة لاخرى يبصبص بذيله ويجرر
رجليه جرا ذليلا . . حتى لكأنه فاقد أعز ما يملك في الدنيا . . وأخذ يذوى كل يوم اكثر من اليوم الذي قبله . . ويضمر ، ويفقد شهيته لتناول كمية اللحم التى توضع أمامه كل يوم . . والتي تكفى لاشباع اسرة كاملة من الفقراء والمحرومين وابناء السبيل . . وكلما حزم المدير القديم حقيبة فقد هذا الكلب الامين من روائه ونضارته وصحته مما اصبحت اعتقد ان الكلاب تنتحر بالفعل وفاء واخلاصا وحزنا !
وحزم الرجل النبيل . . المدير
القديم امتعته كلها . . وقبل اقلاعه بالباخرة . . كان كل من عرف مثاليته ونبله يودعه على الرصيف . . وكان تبادل مجاملات وكلمات حارة . . وتمنيات طيبة . . ولم يره الناس أمرح منه في تلك الساعة قط . . وعندما أوشك الناس أن ينفضوا وقد أوشكت الباخرة أن تطلق صفارتها ، قال الرجل كلمة جميلة قهقه لها الجميع طربا وذهبت مثلا :
لمن يعمل مع مليونير عجوز ولا تكون الى جانبه اسلحة فتاكة . . ( رشيقة) ( جذابة)(فاتنة) . . ان مثل هذه الاسلحة يا اصدقائي تفوق في مفعولها وسحرها كل ذكاء وعبقرية واخلاص ونشاط . .
وأما الكلب . . فقد عرف أنه تبناه صديق للمدير القديم . وعاش يومين معه . . كان في كل مرة يستطيع الانطلاق من صاحبه الجديد . . يعود الى صاحبه القديم وينوح . . وكأنه يقرح جفنيه بكاء على فراق صاحبه . .
ولم يرع الجميع ساعة اقلاع الباخرة الا والكلب ينطلق من بعيد . . ويهجم صوب الرصيف والناس . . وحين وصل حافة الرصيف قذف بنفسه فى اليم . . وانطلق كالسهم يعدو باتجاه الباخرة . . وكان من الطبيعي انه منهوك القوى خائر الاعصاب . . مقرح الاجفان . . لم يستطع المقاومة ولا اللحاق بالباخرة التى كانت المياه
المتدافعة المتلاحقة التى تحدثها الباخرة وهي تمخر عباب اليم . . والتي كثيرا ما تبحر معها قاربا كبيرا أو سمبوكا فتغرقه وتهشمه . . فكيف بكلب مصمم على الانتحار . . لقد جرت الباخرة ذلك الكلب اللاحق بها . . وبيسر انالته بغيته . . فقد غطس غطسة لم يعرف النور بعدها قط . . وربما فضل هذه النهاية على نهاية أخرى قد تكون أقسى وأشد ايلاما على يد انسان غادر . .
منذ رأيت نهاية عذاب المدير ، وهذا الكلب . . والشر كيف يتفاعل بنفوس بني الانسان فيكون أضرى وأفتك وأسحق مما هو عليه عالم النبات فى الارض الطيبة . . صممت . . وعزمت على أن أبقى شجرة الشر فى أشواكها وأسلحتها الرهيبة فى مكانها . . وأبقى تلك الشجرة المسالمة التى تلتفت حولها الشجرة الشائكة لتغتالها . . وابقى شجرة النخيل التى نبتت بين الاثنتين وكانها رسول صلح وسلام !
فماذا وجدت في النهاية . . ؟ وجدت الشجرات الثلاث استطاعت ان تعيش فى الارض الطيبة . . كل منها تصارع لتعيش . . وعاش الثلاثة معا دون أن تسحق أو تقتلع أو تجتث احداهن الاخرى . .
فقلت في نفسي . ليس على الارض شر من الانسان !
