الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

شعراء المجال والحب في العربية

Share

لقد أخطأ الذى وصف الادب العربى بأنه مجموعة امداح واهاج ومراث تقليدية ومطامع وشحاذة متلونة خلابة وانه ادب معدوى ...

وكيف يصح هذا القول ومن شعراء الادب العربى طائفة لا يستهان بها قصرت أشعارها على الابتهال والتعبد فى هيكل الحب وكرست أدبها على التسبيح بحمد جمال الطبيعة الفتان والتغريد بين أزهارها الفاتنة الرائعة كالبلبل الشادى الصداح في الرياض والغياض يحركه كل منظر من مناظر الطبيعة فيشدو ويسببه الجمال فيترنح بين الكائنات الحية النابضة من حيث هى وينبعث الفينة بعد الفينة غريدا وثملا شان العندلب التائه بين الجمال والجلال . كيف لا ، وأدب من شعرائه أبو الوليد بن حبيب الذى آل على نفسه فى فتاء السن إلى أن توفى في سن مبكرة جدا وما أنافت على العشرين سنة إلا بعاملين أن يقصر أشعاره على زهرة يناغيها أو منظر طبيعي يصفه أو دوحة يداعيها ويغازلها ولم يؤثر عنه شعر ولا نثر فى غير الجمال والطبيعة حتى في الرسائل . فقد كتب لابيه ما يلى : لما خلق الربيع من أخلاقك الغر وسرق زهره من شيمك الزهر حسن في كل عين منظره وطاب في كل سمع خبره ، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه وما ومالت إلى الاشراف على بعض ما يحتويه من النور الذى بسط على الارض حللا لا ترى فى أثنائها خللا سلوك نثرت على الثرى وقد ملئت مسكا وعنبرا ان تنسمتها فأرجه أو توسمتها فبهجه

فالارض في بزة من يانع الزهر          تزري إذا قستها بالوشي والخبر

قد أحكمتها أكف المزن واكفة            وطرزتها بما تهمي من الدرر

تبرجت فسبت منا العيون هوى           وفتنة بعد طول الستر والخفر

 

فأوجد لي سبيلا إلى إعمال بصرى فيها لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها

ومن شعره يصف وردا بعث به إلى أبيه

يا من تأزر بالمكارم وارتدى         بالمجد والفضل الرفيع الفائق

انظر إلى خد الربيع مركبا            في وجه هذا المهرجان الرائق

ورد تقدم إذ تأخر واغتدى            في الحسن والإحسان أول سابق

وافتاك مشتملا بثوب حيائه           خجلا لان حياك آخر لاحق

وجاء في النفح أن ابن حبيب هذا كان وهو ابن سبع عشرة سنة ينظم النظم الفائق ، وينثر النثر الرائق ، وأبو جعفر ابن الابار هو الذي صقل مرآته ، وأقام قنانه ، وأطلعه شهابا ثاقبا ، وسلك به الى فنون الآداب طريقا لا حبا ، وله كتاب سماه ب " البديع ، فى فصل الربيع " جمع فيه أشعار أهل الاندلس خاصة ، أعرب فيه عن أدب غزير ، وحظ من الحفظ موفور ، وتوفى وهو ابن اثنتين وعشرين سنة ، واستوزره داية الفتنة ، ورحي المحنة ، قاض إشبيلية عباد جد المعتمد ، ولم يزل يصغى إلى مقاله ، ويرضى بفعاله ، وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك ، وأكثر نظمه ونثره فى الازاهر ، وذلك يدل على رقة نفسه ، رحمه الله تعالى ! انتهى .

وان أنس لا أنسى شاعر العاطفة الفياضة بكل وصف رائع الذى خلق للجمال والحب . ألا وهو أبو الفضل العباس بن الاحنف المتوفى سنة 192 من الهجرة . عاش فى أزهر عصور الدولة العباسية ببغداد عندما كان الخلفاء العباسيون يمعنون في تشجيع أهل الادب ، ويرفعونهم إلى أعلى الرتب ، ويدرون عليهم اختلاف النعم فيغردون على أدواح الندى ، ويرتلون آيات المديح والثناء . فلم يلتفت العباس لرياضهم ولا طمحت عين له إلى تراث غياضهم ولا هزته زخرفة الحطام بل ظل مخلصا لعاطفته يسجع على مسرح الحياة سجع الحمام ، وبالرغم عن عزوفه عن المديح فقد اضطر العباسيون إلى ارضاء عاطفتهم بإيثاره ، وتقديره ، واعزازه ، وتكريمه اعترافا بلطيف أشعاره ، ورقة طباعه ، وتمجيدا لنزعته العاطفية ، واعترافا لموهبته الفياضة ، الساحرة ، الفاتنة وإن فيما يرويه ابن شبة الاديب بلاغا ومقنعا . قال ابن شبة : مات ابراهيم الموصلى المعروف

بالنديم ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوى والعباس بن الاحنف  فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون (ولى عهده ) آن يصلى عليهم .  فخرج فصفوا بين يديه فقال : من هذا الاول ؟ قالوا ابراهيم الموصلى : قال : أخروه وقدموا العباس بن الاحنف . فقدم فصلي عليه . فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم ابن عبد الله الخزاعى . فقال :  يا سيدى كيف آثرت العباس بن الاحنف بالتقدم على من حضر ؟ فأنشد :

وسعى بها أناس وقالوا إنها                  لهى التى تشقى بها وتكابد

فجحدتهم ليكون لغيرك ظنهم                 انى ليعجبنى المحب الجاحد

ثم قال : أتحفظها ؟ فقلت نعم وأنشدته . فقال لي المأمون : أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدم . فقلت بلى والله يا سيدى انتهى .

ويروى تاريخ الادب عن حادث وفاة العباس بن الاحنف رواية أبدع وأروع من هذا الحديث الذى رويناه عن المأمون . وهاته الرواية التالية تصف لنا في روعة فائقة ختام حياة هذا الاديب العاطفى ،  والشاعر الرقيق ما أظن أن تاريخ آداب الامم الاخرى حكى ما يظاهيها فقد جاء في المروج ما نصه عن جماعة من أهل البصرة  قالوا : خرجنا نريد الحج . فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة ينادى : أيها الناس هل منكم أحد من أهل البصرة ؟ قال : فعدنا إليه وقلنا له : ما تريد ؟ قال إن مولاى لما به يريد أن يوصيكم . فملنا معه فإذا شخص ملقى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يحر جوابا . فجلسنا حوله ، فأحس بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا وأنشأ يقول :

يا غريب الدار عن وطنه           مفردا يبكى على شجنه

كلما جد البكاء به                    دبت الاسقام في بدنه

ثم أغمى عليه طويلا ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد . ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر ثم أنشأ الفتى يقول :

ولقد زاد الفؤاد شجا                        طائر يبكى على فنه

شفه ما شفني فبكى                          كلنا يبكى على سكنه

ثم تنفس تنفسا فاضت روحه . وبعد أن تولينا شؤونه ودفنه سألنا الغلام عنه . فقال : هو العباس بن الاحنف انتهى .

فأى فصيح يوفى هذا المنظر البديع حقه من الوصف في دقة ؟ وأى عبارة يمكن لنا أن نعرب بها عن هاته العاطفة الرقيقة ؟ والحق أن العباس بن الاحنف كان من ضروب الادباء الممتازين الذين تجود بهم العناية في بعض الفترات التاريخية النادرة . أو ليست هاته الشاعرية العاطفية الرائعة تترك وراءها هالة من الشعر العاطفى لتتم به مجموعة الادب العربى الذى أخذ من كل شىء احسنه :  مدح فأشاد بأهل الفضائل ، وشجعهم على المضى قدما فى بناء المكارم وهجا المتنطعين المسرفين المفسدين فأفسد خطتهم ، وعرقل  سعيهم وبكى أهل المكارم ليقتدى بهم الطموح الذى يحاول النسج على ذلك المنوال فيلتحق بالركب ويكون في طالعة الرعيل .

ومن شعراء العربية الذين عاشوا للطبيعة يمجدون جمالها أبو اسحاق بن خفاجة الاندلسى المتوفى سنة 535 ه . المعروف عند الأندلسيين بالجنان وهو القائل :

سلم الغصن والكثيب علينا                   فعلى الغصن والكثيب السلام

وكان يضاحك الحمام بين الرياض ، ويداعب الاغصان المائسة فوق الربى متغزلا بغصن البان ، هاتفا بالحمام قائلا :

وهاتفة فى البان تملي غرامها         علينا وتتلو من صابتها صحفا

عجبت لها تشكو الفراق جهالة         وقد جاوبت من كل ناحية إلفا

ويشجي قلوب العاشقين أنينها          وما فهموا مما تغنت به حرفا

ولو صدقت فيما تقول من الاسى       لما لبست طوقا ولا خضبت كفا

         

وهو القائل :

و مياسة تزهو وقد خلع الحيا          عليها حلى حمرا وأردية خضرا

يذوب بها ريق الغمامة فضة           ويجمد في أعطافها ذهبا نضرا

سقيا لها من بطاح خز                   ودوح نهر بها مطل

فما ترى غير وجه شمس                أظل فيه عذاب ظل

وهو من بديع الشعر ، وكم لابن خفاجة من مثله .

وقال أبو اسحاق بن خفاجه لما اجتمع به أبو العرب وسأله عن حاله وقد بلغ في عمره احدى وثمانين سنة ، فأنشده لنفسه :

أى عيش أو غذاء أو سنه               لابن احدى وثمانين سنه

قلص الشيب به ظل امرئ               طالما جر صباه رسنه

تارة تسطو به سيئة                      تسخن العين وأخرى حسنه

ومنهم الذائع الصيت الغني عن الدراسة والتعريف عمر بن أبي ربيعة الذى لم يمدح أحدا قط وكان يعيش فى شرخ العصر الاموى وعنفوان الدولة الاموية العربية وملوكها انذاك في حاجة الى المديح . وقد طلب منه ذلك فأبى وقال أنا لم أخلق للمديح وما هو من مهمتى فى الحياة التى يسبينى فيها الجمال ...

هؤلاء وغيرهم من شعراء العربية الهواة هم الذين حلقوا في آفاق الجمال وعاشوا للعاطفة وهم ليسوا بقليل بين أدباء العربية .

اشترك في نشرتنا البريدية