الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

شهريات الادب والثقافة

Share

1 - مؤتمر البحث عن موقف فكرى واضح :

لقد اتاح المؤتمر التاسع للادباء العرب ،  بانعقاده فى تونس ، من أرض المغرب العربى ، امكانيات جد غنية بالحوار والبحث ، مكنت من ادراك اوسع ،  لعديد من مستويات الفكر والنظر ، كانت تلوح على البعد غامضة وضبابية ،  بفعل الظن والتخيل ، ويبدو انه صار الآن ممكنا ، تحديد معالم الصورة التى يتطور بها الفكر العربى ، لاعادة رسم الواقع ، الذي انهرت مقوماته الكبرى ،  بعيد حرب جوان 1967 ، ذلك ان الفكر العربي ، قد اصابه تغير خطير ،  وهو يرقب الماساة المذهلة ، التى خلخلت القيم الثابتة ، فى عمق الكيان  العربى ، واشاعت الريبة والشك فى نفوس الجماهير العربية ، التى اتجهت بظنونها الى ادانة ذلك الفكر نفسه ، واتهامه بالعجز والقصور عن مواكبة العصر المتجدد ، الزاخر بافانين العلم والصناعة ، وسائر مبتكرات التكنولوجيا الحديثة ، وكان من أهم علامات ذلك التغير ظهور اتجاهات أدبية ، ونزعات فنية ، تحاول ان تعبر عن الواقع ، تعبيرا يتسم بالرفض العنيف مرة ،  وسواد النظرة الحزينة مرة أخرى ، ومن ثمة برزت تلك الموجات الجديدة ،  فى كل من القصة والشعر ، والتى اثارت الجدل القوى وقسمت المثقفين الى فريقين ، فريق معارض ، وآخر محبذ ، وكان من مهمات المؤتمر الاساسية ،  ان يعالج أمثال هذه المواضيع ، وان يبحث بعامة ((  موقف الادب العربي من  العصر وقضاياه  )) الذي يتفرع بطبيعته الى فروع ثلاثة :

1-  تقييم الاتجاهات الادبية العربية المعاصرة واثرها فى خدمة المستقبل  العربى وطنيا وقوميا وانسانيا .

2 - الادب العربى والثورة التكنولوجية  فى النصف الثاني من القرن العشرين .

3 - الادب العربى والصراع ضد الصهيونية والامبريالية العالمية .

وهي كما ترى موضوعات ، تلخص مشكلات الادب العربى الحديث ،  و ظروف الازمة الصعبة التى يعيشها الانسان فى الارض العربية ، ومنذ البدء ، وفي الجلسة الرسمية اللافتتاح ، تنزلت تلك الموضوعات ، منزلتها الاولى ، فى كلمات رؤساء الوفود ، وابرزها خطاب السيد رئيس الجمهورية ، الذى حلل بعمق اسباب تخلف المجتمع العربى ، وردها الى المفهوم الضيق للحضارة والثقافة ، الذي كنا نأخذ به ، تاركين الجوهر الحقيقي للحضارة الحديثة ، المعتمد اساسا على التقنية والتكنولوجيا ،ودعا بحرارة الي ثورة فكرية ثقافية عربية ، تراجع كل المسلمات والتواضعات الفكرية ، التى استقرت بيننا مدة طويلة ، حتى نستطيع ان نعيش عصرنا بحق ، ونتغلب على كل اشكالات حياتنا ، وبالمثل نادى الاستاذ محمد مزالى ، رئيس المؤتمر ، بوجوب التدقيق فى تحديد المفهوم الثقافي الذي تقتضيه الحياة العربية المعاصرة ، فكلنا  (( حريصون على أساس ذاتية قومية سالمة ، من مستعار النماذج ، ودخيل الانماط والاساليب ، وذاتية قومية ، سالمة بالخصوص ، من التحجر والتقليد واجترار الماضي المحنط ، فمطمحنا تجديد ثقافتنا كأحيا ما يكون التجديد واصدق واخصب بحيث لا تبقى جاثمة فى موقف الاستهلاك السلبى ،  والاستجداء المشين ، بل تفرض نفسها وترد الفعل ، ويكون لها من الطرافة الانفساح والتدفق ، ما يبوئها مكانة مرموقة فى عالم يقتضى الصحو الفكرى ،  ويتجة نحو التحاضن الثقافى ، واصبح المثل الاعلى فى كافة ارجائه ، امتلاء الانسان بالذات الانسانية ، بذلك نلتحق بالركب ونساهم فى خلق المصير الانسانى ، وبذلك نعرف لمنزلتنا قدرها فى كيان هذا الكون ))

واثناء الجلسات المتعددة ، عالج المؤتمرون بابحاثهم ومناقشاتهم ، تلك القضايا . بروح تحرص على موضوعية النظرة ، وهدفية الاتجاه ، وبذلك تصفى المؤتمر من شوائب كثيرة ، كنا نسمع عنها فى مؤتمرات سابقة ، وتخلى عن ذلك الصراع العلني الاجوف ، الذى كانت تغذية تمزقات السياسة العربية ، التى كانت تتجه نحو المزايدات اللفظية ، والانغمار وسط فوضى المغامرة ، ويقينى ان ادباءنا من المؤتمرين ، كانوا يحاولون بجد متفاوت ، ان يحيطوا بمعالم الحقيقة الاجتماعية والسياسية والثقافية ، فى الوطن العربي ، وان يتلمسوا نواحي النقص والاكتمال فيها ، باحثين بعمق متفاوت ايضا ، عن مكمن الداء فى تأخر الانسان العربى ، هذا التأخر الرهيب ، فى عالم يكاد لا يكترث بنا ،  غير اننا نستطيع ان نبرز اتجاهين رئيسيين ، سادا المؤتمر ، وظلا متقابلين الى النهاية ، اتجاه أول يدين الواقع العربى ادانة مطلقة ، ويطعنه في حقيقة مؤسساته الاجتماعية والسياسية ، ويرى انها العائق الاول ، امام كل نهضة ،

والسبب الاكبر في كل النكبات التي حلت بالعرب ، ومن أجل ذلك فلا بد من ان تكون للاديب حريته ، حتى يستطيع ان يقوم بدوره فى غرس افكار التطور والثورة ، ويعيد تركيب الصورة الضرورية . لكل نهضة حديثة ، تعتمد على نفسها ، وتسهم بحظها فى دفع حضارى جديد ، واتجاه آخر توفيقى يعتمد قيم الماضى والتراث ، ويرى ان الانصراف عنهما والاتجاه الى القيم الوافدة الجديدة ، هو السبب فى كل تخلف ، ولذلك انصرف اصحاب هذا الاتجاه الى الحديث باعجاب عن التطور الشكلى الذى عرفه الشعر العربي ،  أول هذا القرن ، وكيف انه اعتمد فى ذلك على التراث العربى فى الشعر،  وكان منهج التحليل فى الغالب لديهم ، تقريريا تاريخيا ، تحركه افكار مثالية ، أضحت لا تتفق ومستوى تطور ذهن المثقف العربى ، والحق ان هذا المنهج التاريخى كان يفيد لو ارتبط ارتباطا متينا بقضايا عصرنا الحرجة ، واهتم بالقاء الاضواء الساطعة على منطلقاتها الاجتماعية وتاثيراتها الفكرية والسياسية فى الفرد العربى ، وبذلك نتجنب كثيرا من نواحى السلبية والعقم ، التى تنطوى عليها تلك المرحلة من التاريخ الادبى العربى ، وكانت الابحاث المتعلقة بالادب والتكنولوجية ،هي الاخري محل اخذ ورد  ، اذ اهتم البعض منها بابراز  جوانب تاثر الادب العربى ، بالمكتشفات الآلية ، التى بدأت ببداية القرن ، وان الادب ظل يتتبع سيرها ، ويخضع فى كثير من الاحيان لتطوراتها ، وان كثيرا من القيم التشكلية فى الشعر والقصة والرسم والموسيقى ، وغيرها من الفنون ، مستوحاة من ذلك التقدم الآلى الخطير ، بينما رفع البعض الآخر الصوت ، بنكران دخول العرب العصر لتكنولوجى ، وان الحياة العربية ما تزال فى بدايتها الاولى ، ومهمة الادب فى نظرهم ، ان يحدد الموقف المناسب ، الذي يستطيع منه الفرد العربى ، ان ينطلق الانطلاقة الكبرى ، لبناء حياة جديدة ، تستفيد من تجارب الشعوب الناهضة ، وتعتمد على تحليل علمي وموضوعى ، لكل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية ، التى تبنى بها مجتمعاتنا العربية ، وغير خفي ان الاتفاق على وجهة نظر محددة . يأخذ بها جميع المؤتمرين ، ليس امرا سهلا وهينا ، أولا لان المؤتمر مقيد بفترة زمنية محددة لا يجوز له ان يتخطاها ، وثانيا لان هذا الموضوع ، يخضع ايجابا وسلبا ،  نعدد من التاثيرات التى قد تكون ظاهريا ، خارجة عن حركة المؤتمر ، ولكنها فى الحقيقة حاضرة ، بل ومسيطرة على عقول الكثيرين ، الذين يعلنون غير ما يبطنون . . . ومهما يكن من أمر فقد عكست توصيات المؤتمر اشياء كثيرة تهم حياتنا الادبية والاجتماعية والسياسية ، ودلت على ان الادباء ايضا بامكانهم ان يحددوا مواقفهم بكل حسم ، تجاه القضايا المصيرية ، بصفة خاصة

كقضية فلسطين ، والاطماع الامبريالية والصهيونية التى تحدق بمنعرجاتها ،  لاغتيال شعبها البطل الشجاع .

2 - مشاركة الوفد التونسى :

كان الوفد التونسى ، من اكبر الوفود التى شاركت في المؤتمر ، اذ تألف من أكثر من خمسين أديبا ، بين كاتب وشاعر ، وترأسه الاستاذ محمد مزالى ، الذي تولى رئاسة المؤتمر ايضا ، وكانت مشاركة الوفد ايجابية مثمرة ، اذ شارك البعض بتقديم ابحاث ، القيت ونوقشت كالاساتذة : البشير بن سلامة والمنجى الكعبي ومصطفى الفارسي وحسين التريكى ، واخرى وزعت ولم تلق كالاساتذة : الحبيب الجنحاني وعز الدين المدني ومحجوب بن ميلاد ، وشارك الآخرون بالمناقشة ، ورعاية شؤون المؤتمر ، التى تطلبت مجهودات كبرى ،  بذلها الجميع بسخاء ، واسهم شعراؤنا ايضا فى مهرجان الشعر الحادي عشر بقصائد طيبة ، فشارك : احمد المختار الوزير ونور الدين صمود وجعفر ماجد وعبد المجيد بن جدو والميدانى بن صالح وعبد العزيز قاسم وجمال الدين حمدى والهادى المدنى ، ومحمد الشعبونى ومحيى الدين خريف واحمد القديدى ، وكانت قصائدهم تلقى الاستحسان والاعجاب ، من قبل الكثير من المؤتمرين . ودلت على أن الشعر التونسى ، ليس متخلفا عن ركب المسيرة العربية ، كما يزعم الزاعمون ، وانما هو واحد من أهم عناصرها الرئيسية ،  التى تتشوف للمستقبل الباسم لتحقيق غد افضل .

3 - مهرجان الشعر الحادى عشر :

حفل مهرجان الشعر ، هذه السنة ، باصوات عريقة ، لها مواقفها المعروفة ، من قضايا الشعر الجديد ، كمحمد مهدى الجواهرى وعزيز اباظة وصالح جودت ومحمود حسن اسماعيل ومفدى زكرياء . وكانت انغامهم سائدة والحق يقال ، لان اقطاب الشعر الجديد ، كالبياتى وادونيس ودرويش ، وغيرهم ؛ لم يساهموا فى المهرجان ، وان حضر البعض ، وتتبع كل أشغال المؤتمر . ولم يحضر البعض الآخر ، وان وجهت اليه الدعوة ، وتبعا لذلك ، فقد برزت القصيدة العمودية ، بكل خصائصها المعروفة ، حسناتها وسيئاتها ، التى ظن شبابنا انها اندحرت الى الابد ، فكنت ترى الشاعر يتنقل من موضوع الى آخر ، ومن فكرة الى اخرى ، كصنع زميله الجاهلى القديم ، والطريف ان اغلب هاتيك القصائد ، كانت تستبدل المقدمة الغزلية ، بمقدمة أخرى ، فى التغني

بتونس وبجمال طبيعتها الساحرة ، بل ان القصيدة لتثبت على قافية واحدة ، ذات الروى الواحد ، منذ ان تبدأ الى ان تنتهى ، وتستمر على نغم واحد رتيب لا يتغير ، لكأن هؤلاء الشعراء يثبتون براعة وقدرة على النظم ، او انهم يريدون فى هذا المهرجان ، ان يعلنوا ان القصيدة العربية التقليدية ، لها كل الامكانيات ، فى ان تستوعب قضايا العصر والمجتمع ، وان جمود قالبها في صيغ معينة ، لا يحول بينها وبين الابداع ، والتحليق في اجواء الفن والجمال ،  وقد افتتح المهرجان الشعرى الاستاذ الشاذلى القليبى ، فالقى كلمة ، عن  مفهومه للعمل الشعرى ، والرؤية الابداعية فيه : " ذلك ان الشعر مغامرة وجودية تتنافى مطلقا والتقليد والاحتذاء ، هي مغامرة تخص علاقة الفرد بالواقع او بغيره او بالمجتمع ، وهي مفضية احيانا ، الى ابعاد روحية تخص الانسان سواء فى عالم الشهادة او فى عالم الغيب ".

وانتقل المهرجان الى القيروان ، حيث اختتم جلساته بها ، بين معالم الحضارة العربية الاسلامية ، وروائح التاريخ العبقة بالامجاد والبطولة .

اشترك في نشرتنا البريدية