انحدر من الجبل الوعر بخطى متزنة . . بدت ملابسه نظيفة انيقة . . نفسه نقية طاهرة . . كان منظره يوحى بالرجولة الكاملة والاعتناء بالنفس ..
ابصر راعيا حسن المظهر جميل الهندام يقود غنما هزيلة تحت تأثير نغم جميل يصعده من نايه فيتردد فى الاجواء وينتشر مفعوله السحرى فتتخدر الشياه الوديعة وتنقاد بحركة آلية نحو مرعى بلا عشب ونبع بلا ماء . . تقتات بدون قوت وترتوى بدون ماء . . تقتات وترتوى . . ترتوى وتقتات . . هكذا يخيل اليها . . ولم تكن لتقتات من غير لحمها . . كانت تجر ارجلها جرا فيتطاير من ورائها غبار كثيف يغطى الفضاء ويعكر الجو ويحجب الشمس فتفزع الطيور وتنعق الغربان وتعم الوحشة . . فلا الغنم احست ولا الراعى آبه بذلك .
نادى القادم من الجبل الراعى . . صرخ باعلى صوته . . لكن صوته اختلط بنعيق الغربان وثغاء الغنم وانغام الناى فغدا بلا معنى . . لا من سامع ولا من مجيب . . اسرع الخطى ولحق بالراعى واستوقفه . . سلم عليه وسأله :
- الى اين تقود غنمك ايها الراعى الوقور ؟ . .
- الى المرعى ..
- واين المرعى ؟ ..
- أمامك . . الا ترى ؟ . .
نظر فى اتجاه اصبع الراعى الممدودة . . فرك عينيه وامعن النظر . . لم ير غير ارض جرداء قاحلة . . عمرها الحسك وسيطرت عليها الاشواك والحصى .. قال :
- اننى لا أرى مرعى . . سأله الراعى باستنكار :
- وماذا ترى اذن ؟
- أرضا حصية جدبة قاحلة . . قال الراعى وقد لطف من حدة نبرته :
- هى كل ما نملك...
- ان غنمك هزيلة ؟ ٠٠
أحست الغنم بنشوة تسرى فى ابدانها الهزيلة فرفعت رؤوسها وحملقت فى الرجل القادم من الجبل وكأنها تقول معاتبة :
( أين كنت ؟ . . لقد طال انتظارنا لك . . ) لم يعلق الراعى على ملاحظة الرجل .. ظن الرجل أن الراعى لم يفهم مقصده فقال :
- انها تسير نحو الفناء . . جفلت الاغنام وهز الراعى رأسه قائلا :
- سأرثيها كما رثتت سابقاتها . .
توقف عن الكلام لحظة ، اجال بصره فى غنمه الجافلة ثم قال كمن تذكر شيئا غاب عنه :
- سيأتى الربيع وتخضر الارض وتورق الاشجار . . قد يأتى الربيع . . هدأت حركة الغنم بينما انفعل الرجل القادم من الجبل وضغط على قبضته بشدة وقال :
- لن يأتى عليكم ربيع يا هذا .. ان حياتكم خريف اجرد .. لن تروا غيره من الفصول . .
اشار بيده نحو الجبل الشامخ وواصل كلامه متحمسا :
- ان الربع وراء هذا الجبل . . الحشائش متوفرة هناك والماء ايضا . . قال الراعى بصوت المستسلم الضعيف :
- ان الجبل يقف شامخا امامنا . . يمنعنا من بلوغ المراعى الخصبة والمياه الوافرة .
- اعرف ذلك . . ولكنك ستتمكن ، لو بذلت مجهودا افضل وتحليت بعزيمة صادقة ، من اجتيازه وغنمك . . لن يقف علوه عائقا امامك . .
- لست الوحيد الذى يفعل ذلك . . ابناء عمى هم ايضا يقودون اغنامهم الى نفس المرعى . . اما المراعى التى ترشدنا اليها فلم تكن لنجهلها . . لكن ليس لنا من سبيل اليها . فهذا الجبل يقف سدا منيعا يحول دون وصولنا الى المراعى الخصبة . .
- هل جربتم ذلك ؟ ٠٠
- مرة واحدة . . اصابنا الدمار ولم نصل . .
- هل أعدتم الكرة ؟ . .
- لماذا وقد فشلنا فى المرة الاولى ؟ . .
- كيف تتركون اليأس يتحكم فيكم ؟ . . يسيطر عليكم ؟ . . اسلكوا دروب الخلاص ؟ ..
- توالت الاحداث فسدت فى وجوهنا الدروب وحرمت علينا المحاولات وخربت جحافل الوحوش ارضنا . . زرعتها اشواكا وسمدتها ملحا ولن تصبح خصبة الا بعمل سحرى وليس لنا عصا موسى ..
- ارفضوا المنع ؟ . . مارسوا السحر اذا شئتم ؟ . . اقيموا الطقوس ؟ . . استجدوا الالهة ؟ . . واغسلوا وجه ارضكم لتصبح كما كانت حلوبا مدرارا . . كونوا لبعضكم هارون . .
ضحك الراعى ضحكة باكية ونفخ فى نايه فنكست الاغنام رؤوسها واستأنفت السير . . أمسك الرجل القادم من الجبل بتلابيب الراعى وقال :
- انى ادعوك لتساعدنى على هدم هذا الجبل كى ينهار الظلام وتشرق الشمس ويعم الرخاء ويدفن القحط . .
- دونك والجبل . . انى واياك عاجزان على ان تقتل بعوضة . . لن نقدر على هدمه . .
- انى ادعوك الى فتح ثغرة فيه تصبح ممرا للمراعى . .
- لن نهدم غير ذاتنا . . لن يطلع النور ولن تتحول الصخور الى ذهب ابريز . .
- ستجدون انفسكم يوما ما تجوبون صحراء شاسعة بلا ماء ولا زاد . . ستقبركم الرمال . .
- لن تظهر تانيت . . ولن نغير من الامر شيئا . . على ان الامر ليس بيدى فانا راع مأجور . . واعمالى بها مأمور . . وسيدى فى المدينة مخمور ..
ومرة اخرى نكس الراعى رأسه ونفخ فى نايه واستأنف واغنامه السير . . ظهر عجز الراعى واضحا . . لقد كان العجز بعينه . . كانت ملابسه صورة تزيف حقيقته ..
وقف القادم من الجبل مفكرا . . ابصر ملامح مدينة متلاشية . . قرر الذهاب اليها . . لم تكن الطريق معبدة . . بل لم تكن هناك طريق البتة . . اشواك واخزة وصخور ناتئة اجتازها بصعوبة حتى وصل مدينة ظلماء بائسة . . طلب منه الحارس ضريبة الدخول . . استنكر مثل هذه الضريبة ثم سلمها له نزولا عند عناده . .
ولج المدينة النائمة فاستقبله أحد سكانها وكان مخمورا . . امسك به واخذ يراقصه فى الشارع العام بينما كانت ضحكاته تملأ الفضاء . . كان الرجل المخمور يرتدى جلد شاة فوق ثيابه الجميلة . .
غضب القادم من الجبل من تصرفات الرجل المخمور وخلص نفسه بحركة عصبية وقال :
- اتركنى يا هذا فما جئت للرقص ؟ . . قال الرجل المخمور بصوت معربد ورائحة الخمر تتصاعد من فمه :
- يبدو . . انك . . غريب . . عن .. هذه الديار ؟ . .
- نعم أنا غريب عن دياركم المظلمة . . انا ابن هذه المدينة . .
- وما خطبك ؟ . .
- عدت لانشر النور فى ظلمائكم . . ضحك المخمور سخرا ثم تركه وانصرف معربدا . . سمع الرجل القادم من الجبل صوتا ينادى :
- ايها التائه بين المقابر . . الباحث عن نور فى الظلام . . البس قناعا مع اللابسين وادخل خمارة واغتسل بخمرها واخرج لتصبح سراجا منيرا . . اماما مبجلا . . قائدا مقداما . . لن تحصد غير الخيبة مهما كان نوع زرعك . .
لن تقدر على ازالة اكوام القاذورات التى تراكمت عبر السنين . . ستجمد دماءك بدون فائدة . . لن تجعل المدينة بلا ذباب . .
لم يكد الصوت ينتهى من تحذيراته حتى كانت جحافل من الذباب القذر تهجم على الرجل القادم من الجبل فتلدغه فى كل مكان من جسمه ثم تتراجع امام مقاومته الضارية وبسالته النادرة .
لم يتمكن من معرفة مصدر الصوت ولا هوية صاحبه . . واصل سيره نحو قلب المدينة البائسة غير عابئ بهزء المراقص ونصائح المنادى ووخزات الذباب . . سمع ضجيجا وصخبا وابصر حانة فعرج نحوها وولجها . . وجد اناسا لا يحملون من البشرية غير الصور . . سكارى هنا وهناك . . كؤوس مترعة واخرى فارغة . . قوارير مملوءة واخرى خاوية . . ثار على هذه المناظر وحطم ما فى الحانة . .
القى عليه القبض . . قيد باحكام . . وفى الحين اعد للمحاكمة .. - اعدوا المقصلة لنقطع رأس هذا المجرم بعد ان نحاكمه محاكمة عادلة طبعا ! . .
ترامى والقاضى النظرات . . لم يكن القاضى غير الرجل المخمور الذى راقصه وهزئ منه عندما دخل المدينة . . فى القاعة عدد آخر من القضاة والفضوليين . . كانوا كلهم يرتدون ملابس جميلة عليها جلود غنم . . على الحائط صور مقصلة ومشنقة وحبال غليظة وسكاكين حادة ومقاص وسواطير . .
كان قرار الاتهام طويلا والتهم متعددة ونظرات القضاة لا ترحم . . صرخ باعلى صوته . .
- لماذا تحاكموننى ؟ . . ما تهمتى ؟ . . وما صفتكم ؟ . . ضحك كل من فى القاعة . . قال القاضى بصوت يوحى بالسلطة والعظمة : - تهمك اتلاف المراعى وتحويلها الى أرض جدبة والاعتداء على حانة مقدسة واتلاف مشروبات نحن فى اشد الحاجة اليها و . .
وواصل القاضى تلاوة تقريره الطويل وسرد قائمة التهم بعد ان رماه بنظرات عدائية شرسة محذرة بان يلتزم الصمت وينسجم مع سكان المدينة اذا رغب فى السلامة .
انتهى القاضى من تلاوة تقرير الاتهام وتكلم القادم من الجبل : - لقد كانت الارض قاحلة قبل أن أصلها . . بامكانك ان تشهد الراعى الذى صادفته فى طريقى . .
ونودى على الراعى فكان توا مع الحاضرين وشرحوا له القضية فقال قولهم وايد التهم . . شعر القادم من الجبل ان مؤامرة دنيئة قد حيكت ضده . . وانهم يحاولون سلخ اعتراف منه . . جرى فى جسمه الفزع . . شعر وكان ايدى القضاة تمتد الى عنقه . . تضغط عليه بشدة . . تخنقه . . بدت له وجوه القضاة ضاحكة معبسة . . هازئة قلقة . . مصفرة محمرة . . مصفرة مسودة . . تحولت الوجوه الى انياب حادة ومخالب جارحة . . هلع من المنظر المفزع . . حاول الفرار . . لكن القيد كان محكما والحراس المدججين قد وقفوا كالطود يمنعون الخروج والدخول . .
سأله القاضى بصوت ساخر :
- لماذا عدت الى المدينة ؟
- علنى واياك - سيدى القاضى - نوقظها من سباتها العميق . . انها تحت سلطتك الان . . وليست باحسن حال مما كانت . . ان مدينتكم نائمة نوم المقابر . . ايقظوها . . والا فما فائدة سلطة على مدينة هى مقابر . . طهروها ؟ . . والا فما جدوى قيادة مدينة هى حانات . . لقد تجولت فى المدينة وقبل ان اصل اليها مررت بمراعيكم فرأيت القحط قد نما فى ارضكم بل ارضنا والهزال قد حل بالاغنام والعجز والذل تملكا نفوس الرعاة بعد ان منعتم عنهم المراعى الخصبة . .
تفطن القاضى الى تهكم الرجل القادم من الجبل وانتقاداته اللاذعة فقال بلهجة المهدد :
- أنت تتجاوز الحدود . . ومن يتعدى الحدود فقد ظلم نفسه . . وانت باعمالك هذه تخرج عما اجمع عليه السكان وارتضوه لحالهم ..
كانت تهديدات القاضى تنصب عليه كوابل من المطر .. وكان الجو فى تفاعل كيمياوى خطير . . عذاب الوضع السائد يترسخ فى قلبه ويعم كل جزء من جسمه . . كاد اليأس يطيح باحلامه . . ود لو كانت له قوة الجبابرة فينسف المجلس . . حاول الدفاع عن نفسه . . عن الاغنام الهزيلة . . عن المراعى القاحلة . .
لكن الجلسة ختمت بقرار قطع لسانه . . غير ان اللسان كان يعود الى ما كان عليه كلما قطع .
