الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

صرخة في مذكرات فتاة

Share

نشأت ككل كائن ، لا حيلة له ولا اختيار فى ان يبرز وينمو ، فالحشرة تدفع فتفسد وتفيد وهى لا تعى ما تفعل ، ثم تداس تحت الحوافر والارجل من كائنات قصدت أم لم تقصد . وكلما ازداد جسدى نموا ، كلما ظهرت تشويهاته أكثر وضوحا . ان اكتمال معالى يعنى اكتمال الرؤية الصحيحة لها ، فالشمس من ذلك البعد المعتاد نعمة ، ولكن اذا اقتربت منا أكثر فالذوبان مصير كل شئ ، وعندما استوت المعالم نسبيا فى تفكيرى بعد سنين طويلة من الارتجاج ، وانحلت بعض العقد وتجلى الغموض ، فقدت أبى .

كان الموت بالنسبة لى نهاية غير سارة بالمرة ، اما وأبى هو الراحل فهذا شأن آخر ، فالمسجى بلا حراك هو عائلى ، فلمن أبقى بعده ؟ لأم لا حيلة لها فى ايجاد المأوى والقوت ؟.

كنت قطعة من الارتباك مما حدث ، فلست هلوعة من الموت بل من المستقبل ذلك المجهول الذى يخفى الكثير ، منه ما لا نتوقعه ومنه ما لا يخفى على بال ، وانى على يقين ، انه لو ماتت أمى لما كان هلعى عظيما ، فلقد وصلت من العمر ما يسمح لى بالعيش من دونها ، فحضنها لم يعد يسعنى ، أما ان أفقد عائلى فهذا مما طار بصوابى ، وأغمى على عدة مرات ، وكدت افقد مقومات الكائن الحى ، لولا أن الأقدار لا تزال تبتغى من الكثير الكثير .

" لقد كنت انانية فى تصويرى لدور الأب والأم فى حياتى ، وكان وليد ذلك تجردى من الروحانية التى قد تضل صاحبها فى جل الاحيان عندما يطرق فكرة ماديه ، فمثلا لو ابقى أبى ثروة تذكر لما كان مصابى بتلك الدرجة ، لقد جاوزت السابعة من عمرى ولم أعد محتاجة الى صدر أمى بقدر ما انا محتاجة الى من يحمينى من نوائب الدهر ، وقد أكون صائبة وقد أكون مخطئة .

وما ان انتشلت من براثن القبر حتى فوجئت ببعل لأمى ، وهنا كان الطمس ، لم أفكر فى أب جديد يذود عنى وعن أمى الاحتياج ، ولكن كان هذا

الزوج كاللطمة على الدار ، بمجرد ان تظهر الصورة وهو يشاطر أمى فراشها حتى أفقد السيطرة على نفسى فأصرع واستيقظ لاصرع من جديد على الفراش والصورة .

وأعطى الطبيب وصفة الدواء ، ولم انتظر حتى أشفى ، فلحقت بمعهدى وعزمت على قهر ما يضرني بالدراسة والنجاح اللذين حالفانى وانسيانى حتى تلك الساعة ، ولكن ما حل بي كان فظيعا ، فالصرع لم يكن حالة عرضية عادية ، وانما كان كقدرى ، لا يختفى الا ليعود ، ولا يتركنى حتى وأنا فى أحرج المواقف ، بالفصل بالشارع بالحافلة ، اسقط فتتحرك قوائمى فى كل مكان ، فأمزق ثيابى واهدل شعرى ، فتتبدل سحنتى وتسقط نظارات فتتحطم .

سبق ان لمحت ان كبرى اظهر بعض العيوب فى ، فلقد نقص نظرى فالتجأت الى استعمال نظارات تحت اشراف طبيب أخصائى ، وظهرت حبوب بوجهى لم ترد ان تفارقنى رغم كل الوصفات الطبية و " الرعوانية " التى قدمت الى ، وعملت بما اتى بها ، وزد على ذلك هزال يلفت الانتباه ، فالذى يرانى يجزم انه امام عليلة أصابها مرض السل فى الصميم وانه لمقضى عليها لا محالة مع انى فى نجاة من هذا الداء الخبيث الا انى عزوفة عن الاكل ، أبقى الايام لا أذوق فيها من الفتات شيئا ، حتى الماء المستساغ أجد به مرارة ، وتكتنفنى الوحدة القائلة الموحشة ، كنت سجينة صمتى وانطوائى اجد الناس كل الناس قريبهم الى قلبى وبعيدهم نشازا يفسد على صمتى فأود له المحق ، فأتعرض الى بعض القسوة من والدى لهذا التصرف الشاذ ، فلا اجيب له المحق , بالصمت الذى كنت أهابه وأخافه لانى على علم انه سيصيبنى ان آجلا أو عاجلا بمكروه ، فحساسيتى المفرطة بالحركة فى تضخم متزايد وهذا مما يقربني بسرعة الى الانهيار بين الفينة والأخرى .

وعبثا أحاول تفجير ذلك الحاجز الرهيب الذى يفصلني ببر الامان ، فالذى بى وليد ظاهرة أجهلها ، ويخطر ببالى ذلك الطبيب النفسانى الذى قرأت عنه فى بعض مطالعاتى ، أتمدد على منضدة مريحة مريحة ، وأريح من ذلك كلماته . إن همه ان ينتشلنى مما انا فيه من ضيق يكمن فى نفسيتى ، ان تعابيره لتذكرني بالاعوام الاولى من عمرى ، لما كنت كالزهرة اليانعة وكان حاضناى يشبعانى قبلا وضما ، ويهمسان بكلمات لولاها لكان الفرق بيني وبين صغير الأحراش ليس كبيرا ... ان كل شئ هادىء الا انفاسى اللاهئة التى تعكر على هذه السكينة ، ولكن الجالس على كرسى الاعتراف يعلم كيف يستدرجه

المستنطق الى الخروج عن صمته ، ولكن ماذا أقول ؟ بماذا أبدأ ؟ هل أقول كل شئ ؟ أم أخفى بعض الشئ ؟ أم أكذب ؟ أم أهذى كالمحمومة ؟ أم أصرخ بالحقيقة التى سيصعق لهولها الطبيب ؟ وافيق من حلم اليقظة وأنا أكره هذا هذا الطبيب وكل سائل لانهم كلهم عاجزون ، وأحمد الله على أنهم لم يفكروا فى معالجتى لدى هذا الطبيب .

ان انهيارى على اثر موت أبى كان وليد ارهاق بدنى وحساسية مفرطة بكل ما يحدث ، هذه ملاحظات الطبيب وأشار عليهم الاتصال اخصائى فى طب النفس ، فتبدلت نظراتهم وكأنما كانت الاشارة علامة خطر بأننى قد أصاب بالجنون بين اللحظة والأخرى وان مرضعتى لتحدق فى بعينين جاحظتين ، ولا علم لى بما يدور بخلدها ، كل ما أعلمه انها عندما لمست يدى كانت اناملها باردة كالثلج خالية من حرارة الأمومة ، وكأنها تلمس بعض أثاث البيت ، فزاد ذلك فى كهربه أعصابى وغبت عنهم بعض الوقت ، ولما أفقت كنت أبكى فى صمت وكانوا هم كالاصنام أمام صنم ملقى .

وكنت أصرخ فى صمت كالذى يكوى وهو مكمم فمه ، مقيد الاعضاء ، ان مصابى كان مضاعفا ، الشعور بعدم الانتماء الى عالم الاصحاء ، وذهولهم للخبر الذى عدوه نكبة ما بعدها نكبة فى أنى مجنونة ، وقد انهض بين الفينة والفينة أكسر وأمزق أى شئ صارخة ضاحكة . كان احساسى المفرط يصور لى حالتهم فى أبشع الصور وأشنعها ، وقد أكون مغالية فيما ذهبت اليه ولكن هكذا خيل الى على الاقل .

واختلف بعضهم فى حالتى التى تدهورت كثيرا ، حتى انقطعت عن الدراسة ولزمت الفراش ، فعدها البعض من اختصاص الطبيب النفسانى وعدها البعض الآخر من اختصاص الشعوذة بدون منازع فكان اختيار الطبيب النفسة أرجح ، فحولت اليه وخاب ظنى فيما كنت أتخيل أن أجد عنده من حفاوة ورقة ولين ، فكان يصرخ فى ، وكأنى مجرمة فى حالة استجواب ، وكانت أسئلة بعيدة كل البعد عما يكاد يفجر صدرى ، وعجبت للاطباء النفسانيين الذين سحروني باسلوبهم الشيق فى استدراج مرضاهم حتى يبوحوا بالحقيقة التى هى مفتاح علاجهم ، ووددت أن أصرخ فى هذا المدعى الدجال ناصحا اياه بقراءة كتب اساتذته فيسير على نهجهم فى معالجة مرضاه ولكنى لم أفق الا وأنا أصفع على وجهى .

وقضيت أسبوعا كاملا وأنا طريحة الفراش ، لا أفيق الا لأعود من جديد فى سبات عميق ، كان علاجى أن أغط فى النوم بمفعول أدوية قادرة على تخدير

الوحوش الضارية ، وبعدها شعرت بتحسن لم يطل ، فلقد استطاع الدواء تخفيف حدة توتر اعصابى والاقلال من الصرع ، ولكن الذى بقى يخزنى من حين لآخر ، فيعيدنى إلى سالف عهدى من الاغماءات ، نظراتهم التى سلبت منها بريق الرحمة ، فكانت تنطق بالتنكر لى وكأنى منبوذة بعد ان التصقت بى وصمة عار لا تمحى . وكاد يحصل لدى يقينا ان الذى ينخر حياتى بمعول حاد هو حق كالنور والسواد ، ولقد يئست من ايجاد مخرج من كربى الذى استفحل . وأفيق من انتفاضة صرع وتدور عيناى حولى لاصفع بالمشهد المعتاد بالغرفة وعدم الاكتراث الذى يزداد من يوم لآخر فى الهامات المتحركة بالبيت بلا أرواح ، وكأنها أصنام عند ذلك أسخط فلا يزيد سخطى الا فى انفعالى ، وعندما اتفرغ بعض الوقت للتكهن والتنبؤ بما سيصير عليه حالى ، أجد صعوبة كبيرة للسيطرة على نفسى فأحس بدوار يغمسنى ببئر عميقة ورهيبة .

لم يعد أى شئ يريحنى ، ألفاظ المجاملة والابتسامات المتكلفة تكاد تخنق أنفاسى فما بالك وأنا أعاين استلقائى بغرفة وأنا شبه مجنونة وشبه ميتة وسط هامات أشك فى انتمائها الى ؟!.

ان المرارة لا تفارق فمى وأنا اتصور ان الذى فقدته لم يكن أبى وان التى لا تزال تسعى مع زوج جديد ، لم تكن أمى ، وهؤلاء الصبيان فى سنى الورد لم أنجب واياهما من رحم واحد ، ولو بحث بالسر لصدمونى به ، ولنجوت من انهيار نفسانى لا يخدم مصلحتى بالمرة ، ولقد عملت شخصيت الميالة الى الانطواء والصمت فى سجن السر وراء قضبان صدرى ، لأكون فريسة سهلة الوقوع فى براثن الانهيار ، كانت همسة غير مقصودة من أحدهم ولكنها كانت بالنسبة لى دويا وأى دوى ، رددته احاسيسى فى ذلك الفراغ الهائل الذى كان يفصلني عن محيطى ، أى خبر هذا واى همس هذا وأى واقع هذا ، وأى قدر هذا ، نطفة من أنا ... ؟ ، مضغة من أنا ... ؟ ، ارتعاشة من أنا ... ؟ ، متعة من أنا .. ؟ ، ثمرة من أنا .. ؟ ، لقاح حلال أم لقاح خطيئة ، فمن العن إذا لفنى السواد ، وأصبحت كائنا انسلخ من كل جاذبيات الكواكب ؟ فى أى كوكب أصرخ طالبا معرفة الجاذبية الشرعية ؟

وكان ولا بد ان يكتسحهم القنوط لحالتى التى وان كانت لا تهمهم كثيرا فهى علة ازعاج اطراف النهار وآناء الليل ، فهى مغص فى القلوب ومرارة فى الافواه وكفر فى العقول المشلولة ، انها حالة لا تشفق ولكنها تذهب ما تبقى من راحه البال ، وكان ولا بد ان يتدبروا الامر ، فأشار أحدهم بايداعى

مستشفى المجاذيب ، فلم يوفق فى كسب آراء الآخرين ، فالعملية تكتسى صبغة مظهرية للعائلة ، وهم لا يريدون أقاويل أكثر مما قيل ، وهمست عجوز بأمر قبل بعد حين .

" لم احاول أن أظهر بصورة جلية تصرفات أمى المزعومة نحوى ، لأنى لم أعاين منها ما يشعرنى بانها تمثل دورها بكل اتقان كأم ، ولم تظهر لى جفاء أو عداء ، فكانت كأى صنم من الاصنام الكثيرة التى تتحرك آليا " .

كانت الرائحة تذكرنى بضريح سيدي محرز ، لما كنت أصعب أمى الى هنالك لقراءة الفاتحة التى ما كانت مصاحبتى تحفظها ، بل كنت أقرأها لها ولنفسى ، وتحرك جفناى لا شعوريا للكشف عما وجد بالغرفة ، كان قبيح الملامح ، ذا أنف معقوف كالصقر وجبهة عريضة كثرت تجاعيدها وشفتان زرقاوان ، وعينان حادتا النظر ، مما اسقط جفنى وغار بريقى وصرخ بصوت أجش بهمهمات ونمنمات ما فهمت شيئا منها ولكنها ارعبتنى .

لقد أسقط فى يدى ، وأخيرا ها هم استنجدوا بمشعوذ لتخليصى من " الجن " الذى سكن شكلى فصرت له أمة ، أردت أن أصرخ بالرفض فصدمت بالعجز ، ان صراخى سوف لن يكون له أى تأثير ، فالأمر ليس بيدى ، وما أنا الا مريضة ، أطلب الشفاء فقط ، اما كيف يتم ذلك فليس من اختصاصى .

وصرخ من جديد ثم عوى كالذئب ورقص بجانبى ومبخرته تنفث أشكالا من الدخان يبددها براحته ليحيل سماء الغرفة الى ضباب كثيف ، وأمر باطفاء النور الكهربائى واشعال شمعة ووضعها حذو رأسى وأمرهم بمغادرة الغرفة ، فلا يعودون الا بعد مناداتهم ، وزار ثم عوى وحشرج ، واختلط على زعيقه ورقصه في غرفة لا يرى فيها شئ من سحب البخور التى سدت انفاسى فكنت الى حالة المحتحضرة أقرب ، وكانت يده الفولاذية تعصر معصمى وتمتد الى كتفى وتتحسس جسدى وأنوثتى ، وكيف لى ان ارفع يديه وأنا شبه ميتة ، فأنفاسى لاهثة تمنعنى من ابداء اية حركة ، وحتى اذا كانت لى بعضها فأشك فى أن أمنعه وزبانية القهر خارج الغرفة على أهبة لشد وثاقى لاتمام تطبيبه لى . كان يتحسسنى فى ارتعاش وارتباك ، وبين الفينة والاخرى يعوى بهمهماته ، ولما تيقن من وهنى سلخنى من ثيابى وهو يشخر ولا يفتأ يصرخ وارتمى بثقله الهائل على جسدى الضعيف ، يعتصرنى كما يعتصر الليمونة ، وشعرت بارحامى تتمزق ... ان الجن يسكن فى الارحام ، ولقد اقتحم عليه " المشعوذ " حصنه

الحصين ليخرجه مدحورا مثخنا بجراحه ، ولما قضى وطره ، شرع من جديد يرقص كالمجنون فى الغرفة وهو يزعق ثم فتح الباب صارخا " اخرج ولا تعد " وصدق السافل ، فالذى خرج منى لن يعود ، واقتحمت الهامات الغرفة تسأله وتهنئنى على السلامة ، وكنت أبكى فى صمت ، كنت أبكى بدماء العذراء , وكانت الهامات تبتسم فى بلاهة وهى لا تشعر بما حل بى ، وكانت أمى المزعومة بينهم كأى صنم ، وهالنى ما صارت عليه حالى فصرخت بآلام الصنم وأنا اتحامل على نفسى فأنهض فأتعثر وأسقط فافقد نظارتى التى تهشمت ، ثم انهض من جديد وأنا أزعق ..: لقد أسال دمى . . فيردد " الصنم الام " : انه الدم الفاسد يا ابنتى ! وما كنت لاتبين مكانها من الاصنام ، صرخت وأنا أتمنى العدم اكثر من كل مرة مضت : ان علتى المجتمع الفاسد ... ان علتى المجتمع الفاسد ... ان علتى المجتمع الفاسد ، وكنت أشعر ان صرخى حبائع كضياع الهتاف فى وادى سحيق .

اشترك في نشرتنا البريدية