فارق حماره واستبدله بعصا غليظة طويلة كعصا الانبياء ورفع رأسه ينظر الى السماء في حيرة لم يكن ليعرف مثلها من قبل . لقد تغيرت نظرته فأصبحت لا تستقر على شيء ولكنها تنطلق الى ابعد من الافق ممتطية أشعة الشمس الذابلة المائلة إلى الغروب متطلعة إلى المجهول إلى الغيب وقد انغلق عليه فتاقت نفسه إلى الكشف عنه لعله يكف عن معالجة التافة من واقعه اليومى . اتجه الى الفسيح من الارض ، مزورا عن الانهج الضيقة الملتوية ، والابواب الصغيرة المترهلة ، معرضا عن وجوه البشر وقد شغلها الحاضر وأماتتها اللحظة حتى ارتقى الربوة مترفقا ، تائه الحركة غير عابىء بالمنعرجات ولا مكترث بالغبار تثيره ريح عابرة شاغلة .
وصل إلى أعلى الربوة فأشرف على قريته البيضاء وقد غمرتها ظلال الشمس المحتضرة ، فتمثلت له حبة صغيرة فى هذا الوجود الكبير ، وابتسم لها يحييها تحية الظافر الذى قهر سخافة البشر فيها وضآلة أمانيهم وتفاهة الجهد منهم . فشعر بانقطاع الصلة بينه وبينهم وارتاح ارتياحا لم يعرفه عندما كان يحتال فينجح وينصب الفخاخ فيقع فيها من يقع من المغفلين وغير المغفلين . جلس على الربوة وأسند الى جانبه عصاه فانطلق نظره إلى البحر وامتد يدغدغ ألوانا متشابكة وأنوارا متكاتفة حتى استقر وراء خط اللقاء : لقاء السماء بالماء وراح يستجلى المغمضات ويغوص فى أعماق اللامحدود . ولما أعياه الامر وانكمش نور النهار عنه وانكشفت له الظلمة عميقة جبارة اضطجع وأغمض عينيه ورجع بنفسه ينظر الى هذا التحول الغريب حتى اختلطت اليقظة بالاحلام واتحدت فى خلاء العدم .
لم يستيقظ إلا على نبيب التيس وثغاء الغنم ؛ فانتصب من يومه راعيا . وانقضت له في ذلك ثلاث بأيامها وهو فى تأمل وانقطاع مع القطيع , حتى قارب اليأس نفسه ، وشعر بالعجز عجز الكائن الحى يقف قبالة الحياة ولا حركة . طأطأ رأسه فى انكسار فالتقى نظره بأسفل الربوة حيث الطريق : طريق الناس . وتبين القافلة تمر ، تحمل من الشرق التحف والكنوز ، فرافقها بالبصر ، حتى حطت غير بعيد تستقبل ظلمة الليل فى طمأنينة الامل .
عاوده الحنين إلى الماضى القريب وانفتح له باب من الحيلة طريف : لن تستجيب السماء بالدعاء والتسبيح وإنما تقرع أبوابها قرعا وتدفع دفعا . وليس افتح لها من عبيق البخور ولعلعة ألسنة الند المحترق . فانسل إلى القافلة في خشوع واستولى على كيس من البخور لم يكد يصل به الربوة حتى انطلقت ألسنته صارخة نحو السماء فخشع وانتظر ، وسبح وأنصت ؛ وإذا بالسماء تنشق له وبهينمة بعيدة تطرق سمعه وتقترب وتقترب ، وإذا الملائكة تحدثه وتسأل : ما الامنية والرغبة ؟ اضطرب كيانه واحتبس لسانه ولم يشعر بنفسه إلا وقد نطق وطلب : طلب صفارة صغيرة كلما نفخ فيها رقصت لنغمها البهائم والناس .
بات ليلته فى طمأنينة السعيد فرحا بغنيمته فرح الظافر المنتصر ينتظر الصباح لينعم ويلتذ نهض ونظر حوله فألفي القطيع قد انتشر يمرع فتناول الصفارة ونفخ فيها وإذا بالشياه : الصغيرة والكبيرة ، الذكر والانثى ، تتوقف عن الاكل تاركة رؤوسها يعبث بها النغم وحركاتها ينظمها اللحن . أعجبه الامر فأخذ يغير اللحن تارة هادئا رفيقا وطورا مندفعا عنيفا وكلما مضى فى النفخ استساغ له وطاب . فلقد أخذه سحر النغم كما أخذ شياهه وشغله كما شغلها . مضت له على ذلك سبعة أيام طال فيها العشب وأينع ونحلت أجسام الكباش والخراف فتقوست الظهور وبانت الضلوع وانتبه أصحابها وظنوا الظنون حتى رأوها راقصة مأخوذة فشكوا أمرهم للقاضى .
دخل جحا المجلس بين الاعوان والكتبة ووقف أمام القاضي في وقار وحشمة . ولم يسعه بعد الالحاح والتهديد إلا أن ينفخ من سحره في صفارته فكان نغما " فزانيا " هزازا مزلزلا خرج به القاضي عن وقاره ونزل مع الكتبة والاعوان يرقص مصفقا صائحا : - ألا تستحى كف . ألا تستحى .. كف . وانحلت عن رأسه عمامته تتموج مع حركاته مهددة متوعدة فألقى جحا عصاه فإذا بها تنضم الى القوم محرضة مستهوية .
انقض الاعوان على جحا فابتلع صفارته وأفلت منهم . وفى الطريق حن إلى حماره .
