الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

صفحات مشرقة من تاريخ صقلية ، والفاتح القاضي أسد بن الفرات

Share

أما عهد الدولة الفاطمية فابتدأ من سنة 297 ه . حين تولية الحسن بن أحمد الجزيرة من قبل عبيد الله المهدى وقد كان هذا الوالى متشيعا للبربر ميالا لهم ، وعمل على دعم التفرقة بينهم وبين العرب فكانت الثورة فى النهابة وإقالته من قبل الخليفة .

هذا وقد انقسم العهد الفاطمي الى فترتين : فترة عصر الولاة والارهاب ، والفترة الثانية تمثلت فى عصر الاستقلال الذاتى والذى امتاز فى أولى سنواته بالالتحام بجيش الروم وقتالهم والانتصار عليهم خصوصا فى فترة حكم أحمد بن الحسن بن على الذى انتصر عليهم انتصارا مشهودا وأسر أمير البحر

" بنساتاس " وأرسل به صحبة عظماء الروم المأسورين الى بلاط الخليفة فى المهدية حتى كان الصلح فى النهاية والذى سعى اليه الروم جادين حيث لم يبق لهم أمل فى مواجهة المسلمين والتغلب عليهم ونتيجة لذلك حل وفد من القسطنطينة بالمهدية محملا بالهدايا النفيسة والعطايا الغالية إلى الخليفة المعز ، فتم الاتفاق على عدم دخول الروم صقلية أبدا وترك مدينتى طبرمين ورمطة للمسيحيين فقط .

وكان هذا الاتفاق نكبة على المسلمين حيث دبرت المؤامرة وأصبحت المدينتان مركزين لتقوية عضد المسيحية ضد الاسلام ومركز انطلاق الروم للاعتداء والسلب والفتك ، ثم كان تدخل النرمان بعد احتلالهم جزيرة كورسيكا وجعلها مركزا للانقضاض على الجزيرة وبمن فيها من مسيحين ومسلمين ، وقد باشروا

الغزو فى ابشع صورة وأشد فتكة وحطموا وهدموا واحرقوا ما كان فى طريقهم حتى ضجر منهم البابا " ليون " التاسع وبعث برسالته الشهيرة الى امبراطور القسطنطينية والتى فصل فيها القول عن عدم انسانية هؤلاء وذبحهم للمسيحيين كما تذبح الشياه ، ولم يعر الامبراطور أية أهمية لهذا الاستنجاد فدعا الالمان الى المؤازرة الا انهم أبوا ، وفي الآخر جند جيشا بقيادته الا أنه هزم وأسر حتى كانت الفدية فأطلق سراحه بعد عام . وهكذا واجه سكان جزيرة صقلية على اختلاف الديانة هؤلاء النرمان خصوصا فى عهد الدولة الحسينية . وما ان كان الفاطميون بمصر ، وانتقال ثقل الدولة من المهدية الى القاهرة ، وقد عين الخليفة لولاية المغرب أحد القواد العظام وهو يوسف بلكين ابن زيرى بن مناد ، لكنه لم يمكنه من صقلية والتصرف فيها فأصبحت الجزيرة

تابعة رسميا للخلافة بالقاهرة ومستقلة بصورة عملية تحت تصرف ملوك بني الحسن بن علي . وربما كان هذا الصنيع سببا آخر فى تقهقر الوضع وضعف السلطة الاسلامية مع هذا التفرغ الكلى لدولة صنهاجة بالاعتناء بشؤونها وتدعيم قوتها خصوصا فى فترة المعز بن باديس وهكذا تمكن الترمان من زيادة التنكيل بالمسلمين وخضد شوكتهم فما كانت الرغبة تتحقق لمد يد المساعدة من طرف الدولة الصنهاجية حتى أصيبت هى الاخرى بمقاومة بني هلال وسليم فكان ابتداء النهاية وتدهور حال الدولتين فى صقلية والمغرب .

وفى الاثناء كانت هناك انتصارات رائعة للمسلمين سجلها التاريخ وكانت على يد الشهيد الامير أبي القاسم على حيث قاوم زحف الالمان وقبل استشهاده فى ساحة الوغى فى شهر محرم سنة 372 ه . ( 984 ) م . توفى متأثرا بجراحه امبراطور الالمان " أوطون " الثاني في ديسمبر ( 983 ) م . وبعد فترة تميزت بالصراع من أجل السلطة والاستحواذ على النفوذ وقيام ثورات داخلية مؤ سالت فيها دماء المسلمين رجعت الثقة فى نفوس الكثيرين وأخذوا يوالون الفتح والتقدم ، لكن انقلبت عليهم الظروف ، وعسر الوضع رغم هجرة الكثير من أهالى افريقية الى الجزيرة اثر المجاعة التى حلت بالبلاد وذلك سنة 395 ه

ومن تفصيل هذا الفتح والتقدم انه فى سنة 846 م . تقدم أسطول اسلامي وأرسى جنوده قرب مدينة روما يوم 26 أوت من نفس السنة ، لكنهم اكتفوا بالمغانم ورجعوا نتيجة قلة العدد ثم استؤنفت المعارك من جديد واحتلت مدينة " باري " BARI ، لكن سرعان ما وقع استرجاعها بعد حرب دامت أربع سنوات ، وكان ذلك يوم 2 فيفري سنة 871 م . ثم تألب بقية أمراء ايطاليا الوسطى والجنوبية وتمكنوا من تحطيم قوة المسلمين يعاضدهم البابا بنفسه

وأسطول الروم المستنجد به ؛ وكان نصرهم المشهود فى شهر أوت سنة ( 916 ) م . لكن كل هذا لم يمنع خطر غارات المسلمين من حين لآخر كاحتلال جنوة بين سنتى 934 م . و 935 م . ، وانهزام الاسطول الرومى من طرف مسلمى صقلية بمدينة مسينا سنة 965 م . وسميت الوقعة بوقعة المجاز . ( أثبتت الكثير من المصادر أنه سقط فيها قرابة العشرة آلاف قتيل من الروم ) .

ثم هذه المعارك الطاحنة التى دارت مع جيش الامبراطور الالمانى أوطون الثاني الذي فر مقهورا وقد استشهد فى الاثناء أمير صقلية أبى القاسم بعد أن أبلى البلاء الحسن ، وازداد الانقسام فى صفوف المسلمين واستنجدوا بالمعز بن باديس بعد يأسهم من الفاطميين ، فاستجاب لرغبتهم وأرسل ولديه عبد الله وأيوب مع جند كثير ، فدخلوا صقلية وقتلوا الوالى أسد الدولة أحمد الاكحل سنة 417 ه . وتولى الامر ابنا المعز بدراية وذكاء .

وفى الاثناء استعد النرمان والنصارى من جديد للأيقاع بالمسلمين فاستنجدوا للمرة الثانية بالمعز بن باديس فمكنهم من أسطول ضخم بلغ تعداده قرابة أربعمائة سفينة محملة بالعتاد والخيل الكثير . لكن لاراد لقضاء الله فقد تعرض لزوبعة بحرية أتت على أكثره ولم ينج الا القليل وقد كاد هذا الاسطول أن تكون له الكلمة الفصل لا فى صقلية فحسب بل وفي أوربا كلها .

وهكذا كان الخسران على صقلية وعلى ابن باديس ذاته اذ زياده على هذه المصيبة يصاب بفتن وثورات الهلاليين الساحقة والتي لا تبقى ولا تذر . وثار أهل صقلية على ابنى المعز ومكنوا صمصام الدولة حسن بن يوسف شقيق أحمد الأكحل الذي مر الحديث عنه .

ثم كان الانقسام من أجل الحكم كل يحكم منطقة ، والخيانات تنشر وتستشرى وفى الاخير كانت النكبة الاخيرة فى القيروان على المعز بن باديس وخراب دولته وعاصمة نفوذه على يد بني هلال سنة 435 ه . 1047 م .

ثم كان بالبلاد التونسية ملوك الطوائف وانقسمت البلاد الى عدة امارات ضعيفة واهية كامارة بني خراسان بمدينة تونس وضواحيها من سنة 458 ه سنة 553 ه . وامارة بني جبارة بن مكى التى حكمت بناحية سوسة الى سنة 554 ه وامارة بني مدافع بن جامع الهلالى التى استقلت بجهة قابس والجنوب حتى سنة 555 ه . و استقلت عائلة بني الرند بجهة الجريد حتى سنة 575 ه .

وفى المهدية تواصلت امارة بني المعز بن باديس الى سنة 555 ه حيث دعمت الوضع دعوة عبد المؤمن بن على الذى قضى على ملوك الطوائف ووحد الشمال

الافريقي تحت رايته . وتوطد ملك الدولة الصنهاجية بالمهدية هذه المدينة التى رأت أياما زاهية وبروز رجال أكفاء في ميادين العلم والادب والفلسفة . وحل بها وفي الاثناء فيلسوف الاندلس أمية بن أبى الصلت والامام المازري وكذلك لا ننسى نزوله بها شاعر صقلية العظيم عبد الجبار بن حمديس بعد خراب وطنه الأم .

وعودة الى الجزيرة لنشير الى أن أميرها على بن الحواس قد حاول توحيد الصفوف واعادة الكرة على الاعداء واستنجد بالامير الشاعر تميم بن المعز الذي لم يبخل على الرد وجهز أسطولا بقيادة ولديه على وأيوب . وبعد نزولهما كل فى جهة ركب الشيطان رأس الامير فخشى على ملكه وصادم جيش الانقاذ فقتل بسهم أصيب به . وتولى الامر أيوب بن تميم وواجه النرمان مواجهة عنيفة الا انه وجد مقاومة وقوة مضاعفة تجاهه حيث وقف دونه الكثير من المسلمين الصقليين وقاتلوه فقرر الانسحاب الى المهدية وكان ذلك سنة 461 ه

( 1073 ) م . ولم يبق بايدى المسلمين بالجزيرة الا القليل الاقل من الحصون والقلاع كقلعة قصريانة GASTRO GIOVANNI ، ومدينة جرجنتى GIRGENTI وقد بقيت هذه المدينة صامدة طيلة ثلاثة أعوام بعد حرمان واحتياج وآلام ممضة . أما قصريانة فما كان الاستسلام منها الا سنة 484 ه . ( 1096 ) م .

وبذلك يكون صمودها قد تواصل طيلة 23 سنة اثر عودة المهاجرين صحبة أيوب بن تميم بن المعز الى المهدية . ويكون بذلك الاحتلال النهائى وتمكن النرمان من الجزيرة كاملة . واثر هذا الانتصار اقتفوا آثار المسلمين بسواحل الشمال الافريقي فاحتلوا مدينة طرابلس سنة 540 ه . ثم مدينة صفاقس سنة 543 ه والمهدية التى طردوا منها سلطانها الحسن بن على بن يحيى سنة 543 ه . وتصرف ملك النرمان رجار الاول مع مسلمى صقلية تصرفا مشينا تنكيلا بهم وعسفا وقهرا . وقد وصف وضعهم ابن الاثير بقوله : " لم يترك لاهلها من المسلمين حماما ولا دكانا ولا طاحونا ولا فرنا " . لكن بقيت بقية من المسلمين تنشر التمدن والعلم والمدنية تحت الحكم المسيحي النرمانى واذا لم تتمكن من السلطة والنفوذ فانها تمكنت من بسط شعاع الفن المعماري

والتمدن فى جميع الوجوه حتى كانت تنعت فترة ما بعد النكية بفترة المدنية النرمانية الاسلامية . وقد سجل العديد من المؤرخين هذه الفترة كابن الاثير والشريف الادريسى الصقلى فى كتابه الشهير : " نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق " وابن جبير الذى زار صقلية بعد مائة عام من النكبة فى سنة 560 ه . 1172 م . وقال عن مدينة مسينا التى زارها :

" وكفى بأنها ابنة الاندلس فى سعة العمارة وكثرة الخصب والرفاهة ، مشحونة بالارزاق على اختلافها ، مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها . لكنها معمورة بعبدة الصلبان يمشون فى مناكبها ويرتعون فى أكنافها والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم قد أحسنوا السيرة فى استعمالهم واصطناعهم ، وضربوا عيهم أتاوة فى فصلين من العام يؤدونها وحالوا بينهم وبين سعة فى الارض كانوا يجدونها . . . وليس فى مسينا هذه من المسلمين الا نفر يسير من ذوى المهن ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب " .

وعند حلوله ببالرم PALRME سجل الملاحظات التالية الطريفة  :

هى مسكن ملكهم غليام GUILLAUME وشأن ملكهم عجيب فى حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المحابيب . وكلهم أو أكثرهم كاتم إيمانه متمسك بشريعة الاسلام وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن اليهم في أحواله والمهم من أشغاله حتى ان الناظر فى مطبخته رجل من المسلمين وله جملة من العبيد المسلمين السود وعليهم قائد منهم ... ومن عجيب شأنه أنه يقرأ ويكتب العربية وعلامته على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به :

" الحمد لله حق حمده " وكانت علامة أبيه : " الحمد لله شكرا لأنعمه : ... الى غير ذلك من الوصف المرتبط بتعلقه بالمسلمين أو بوصف مدن أخرى عليها وفيها ظلال الاسلام والمسلمين ويروى ابن جبير فى ثنايا كتابه حادثة تهز القلوب هزا وتملأ النفوس لوعة وضنى وإشفاقا للحال الذي وصل اليه المسلمون فى صقلية وما هم عليه من سوء وضع وهذا دليل قرب الزوال والاندثار يقول :

" ومن أعجب ما شاهدناه من أحوالهم التى تقطع النفوس اشفاقا ، وتذيب القلوب رأفة وحنانا ، أن أحد أعيان هذه البلدة وجه ابنه الى أحد أصحابنا الحجاج راغبا فى أن يقبل منه بنتا بكرا صغيرة السن قد راهقت الادراك ، فان رضيها تزوجها وإن لم يرضها زوجها ممن رضى لها من أهل بلده ويخرجها مع نفسه راضية بفراق أبيها وإخوتها ، طمعا فى التخلص من هذه الفتنة ورغبة فى الحصول فى بلاد المسلمين . فطاب الابن والاخوة نفسا بذلك لعلهم يجدون السبيل للتخلص الى بلاد المسلمين بأنفسهم اذا زالت هذه العقلة المقيدة عنهم .

" فتأجر هذا الرجل المرغوب اليه بقبول ذلك وأعناه على استغنام هذه الفرصة المؤدية إلى خير الدنيا والآخرة ؛ وطال عجبنا من حال تؤدى بانسان الى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة من القلب واسلامها الى يد من يغربها ، واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق اليها والوحشة دونها ، كما استغربنا

حال الصبية صانها الله ورضاها بفراق أهلها رغبة فى الاسلام ، واستمساكا بعروته الوثقى " . .

وبانتهاء عهد ملوك النرمان بصقلية الذي دام قرابة المائة عام ، ازداد الاضطهاد والتعدى على المسلمين ، كل ذلك بأمر الكنيسة وبالتأثير المباشر من واقع الحروب الصليبية لكنهم ثاروا من جديد سنة 1200 م . ، غير أنه سرعان ما غلبوا على أمرهم ثم أعادوا الكرة فيما بين سنوات 1221 و 1225 م . والنتيجة كسابقتها . لكن الامبراطور فريديريك الثانى الذى نشأ نشأة صقلية عربية حيث كانت أمه كنستنسا صقلية النشأة والمسكن بعث بالكثير من المسلمين والمسلمات الى إيطاليا بلغ تعدادهم قرابة الستين ألفا ثلثهم من رجال السيف

والحرب كل ذلك ليقاوم بهم أعداءه بالبلاد الايطالية وبصنعه هذا انتشرت البلبلة فى صفوف المسيحيين وفى مقدمتهم البابا الذي كان يحاول جمعهم لمقاومة المسلمين وأعلن البابا كفر الامبراطور ، لكن بعد مشاركة الاخير فى الحرب الصليبية بفلسطين وتأسيسه مملكة صقلية . ثم واصل السعى لاسترضاء البابا بعد تمكنه من صلح المسلمين ببيت لحم والناصرة وكان ذلك على يد سلطان مصر الملك الكامل . وتمثل الاسترضاء فى طلب الغفران ونسيان الماضى . وبتمكين رجال الكنيسة من ضعف فريد يريك قاوموا المسلمين مقاومة جد عنيفة ونكلوا بهم شر تنكيل وابتدأت النهاية بمغادرتهم للجزيرة

متى سنحت الفرصة ؛ وحين بلغ الامر السلطان الحفصى أبا زكرياء بن أبي محمد سعى لعقد صلح مع الامبراطور يتم بمقتضاه احترام حرية الدين والحفاظ على الاملك . وما أن قضى السلطان نحبه فى الثالث والعشرين من جمادي الآخرة سنة ( 647 ) ه . ( 1260 ) م . حتى وقع نقض العهد ، وانقض النصارى عليهم شر انقضاض ورغم المقاومة العنيفة الا انه كانت الغلبة للنصارى . وفى الاخير أركبوا البحر الى سواحل افريقية وكان هذا ايضا مصير مسلمى مالطة الذين تم اخراجهم عنوة وقسرا من الجزيرة وتم ترحيلهم الى تونس . ومنذ هذا الحين انتهت الكلمة للمسلمين بجزيرة صقلية ولم تعد لهم قوة تذكر ولا شأن يسجل .

واثر وفاة الامبراطور وتولى الملك شارل مكانه عمد هذا الاخير الى التخلص من المسلمين نهائيا فى ايطاليا فأركب منهم البحر الى افريقيا سنة 1292 م . والبقية الباقية أجهز عليها جنده قتلا ونهبا لمتاعهم وارزاقهم . وهكذا هى النهاية بايطاليا كما هى بصقلية . واذا ما عرجنا على حال التمدن والعمران

بصقلية وما ترك المسلمون فيها من أعمال خالدة فانه يعسر علينا الاحاطة بما نبغى لكن تكفى الاشارة إلى أن المسلمين قاموا بالتنظيم الاداري على أحسن وجه وركزوا القضاء والجباية ووفروا العدل والتسامح الديني وقاموا باصلاحات كبرى فى الصناعة وكذلك فى الزراعة حيث ادخلوا لها غراسة القطن وقصب السكر وابتكروا قنوات الرى وازدهرت التجارة وتنوعت . وباعتراف مؤرخ

أوربى فان جزيرة صقلية قد " أصبحت تحت أيدى المسلمين جنة من رياض الشرق اليانعة " . وكفانا أيضا مؤونة البحث والاستقصاء الرحالة والجغرافى الكبير محمد بن عبد الله الادريسى المغربي ( 2 ) حيث ترك كتابه : ( نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق ) والذي ألفه بطلب من الملك النرمانى روجار الثاني ودققق فيه الوصف لمدن صقلية أواخر الحكم الاسلامي وأوائل العهد النرمانى . وكذلك ياقوت الحموى فى كتابه ( معجم البلدان ) . وإن الحديث بطول عما كان لهذه الجزيرة من رجال سواء فى الادب أو العلم أو الفن واستحقت بهم الجزيرة - كما قيل - لقب : " باب الشرق للتوغل فى الغرب " .

وكان أشهر علماء الجزيرة على الاطلاق قسطنطين الصقلى أو قسطنطين الافريقي وليد تونس سنة 400 ه . كان تاجرا من تجار المسلمين ؛ استقر بالجزيرة فى تجارة له لكن سرعان ما تفرغ لترجمة الكتب العربية فى الطب الى اللاتينية بعد اتصاله بأمير الجزيرة "جيزولف " الذي وجد منه كل تشجيع فترجم كتاب " زاد المسافر " لابن الجزار ( 3 ) حيث أصبحت طريقة هذا الطبيب

منتشرة فى أوربا كلها ، كذلك ترجم كتبا أخرى للرازي واسحاق بن سليمان وازداد اتساع علم قسطنطين حتى ألف قرابة الاثنين وعشرين كتابا وأسس مدرسة سالرنة : SALERNE للطب حيث أضحت مركز اشعاع طيلة قرون .. وكانت وفاته بالجزيرة سنة 475 ه . 1084 م . بالتحديد بدير جبل كاسان الذى تفرغ فيه للكتابة وللترجمة والذى حطمته الحرب العالمية الاولى وتركته أنقاضا

هذا وقد ترك أبناء الجزيرة من الشعراء قصائد مؤثرة فى وصفها وذكر معالمها .

يقول الشاعر عبد الرحمان بن عمر الذي عاش أيام روجار ، واصفا حياة الجزيرة متغنيا بها وبجمالها :

أدر العقيق العسجديه     وصل اصطباحك بالعشية

واشرب على وقع المثانى   والاغاني المعبدية

ما عيشة تصفو سوى      بذرى صقلية هنيه

فى دولة أربت على         دول الملوك القيصرية

أعجب بمنزلها الذى        قد أكمل الرحمن ريه

والملعب الزاهى على        كل المبانى السندسية . . .

ويقول الشاعر الفتان عبد الرحمان بن أبي العباس فى قصيد رائق يصف فيه حياة بالرم وقصر الفوارة التابع لقصر المعتزية وقد كان متنزه ملوك صقلية المسلمين :

فوارة البحرين جمعت المنى             عيش يطيب ومنظر يستعظم

قسمت مياهك فى جداول تسعة       يا حبذا جريانها المتقسم

فى ملتقى بحريك معترك الهوى          وعلى خليجيك للغرام مخيم ...

الى أن يقول :

يا نخلتى بحري بلرم سقيتما        صوب الحيا ( 4 ) بتواصل لا يصرم

هنيتما امر الزمان ونلتما           كل الاماني والحوادث نوم

بالله طيبا واسترا أهل الهوى         فبأمن ظلكما الهوى يتحرم

وهذا ابن صقلية البار أبو العرب مصعب ابن محمد بن أبي الفرات القرشى الذي كانت ولادته سنة 464 ه وانهى حياته باشبيلية بعد أن أم بلاط المعتمد بن عباد ووجد لديه العناية والاكرام . قال فى مدحه وذكر بلاده الأم :

الى م اتباعي للامانى الكواذب    وهذا طريق المجد بادى المذاهب

أهم ولي عزمان ، عزم مشرق      وآخر يغري همتى بالمغارب

ولا بد لي أن أسأل العيش حاجة   يشق على إخفاقها والغوارب

على لآمالي اضطراب مؤمل        ولكن على الاقدار نجح المطالب

فيا نفس لا تستصحبي الهون إنه   وإن خدعت أسبابه شر صاحب

ويا وطني إن بنت عني فاننى        ساوطن اكوار ( 5 ) العتاق النجائب

إذا كان اصلى من تراب فكلها      بلاد وكل العالمين اقاربي

وهذا الشاعر عمر بن رحيق الصقلى المنشا وقد هجر الجزيرة حين افتكاكها من طرف النرمان . يقول متحسرا عنها :

نفسى تحن الى أهلى وأوطانى            وهل رأيتم محبا غير حنان

كانوا بقلبى أحياء وفي كبدى            نار تأجج من شجوى وأحزانى

ما ضر حين نأوا لو ودعوا دنفا         رهن الحواث في كف الهوى عانى ( 6 )

عز اصطبارى لرزء قد دهيت به        وبان عني لو شك البين سلوانى ] كذا [

وهذا علم سرقوسة الشاعر الاديب عبد الجبار بن حمديس الذي ولد سنة 446 ه .وشاهد ضياع صقلية الجنة الساحرة وملكها التالد يترك لنا شعرا عد ملحمة من أحسن ما أبدع الشعراء من ملاحم وقد توفى سنة 527 ه بعد أن جاب بلاد المغرب والجزائر وتونس والاندلس واتصل بملوكها وأمرائها ، وكان كلما حل ببلاد تذكر صقلية وحرص على مناصرتها وإعانتها وافتكاكها من أيدى الغزاة - يقول فى قصيد يذكر شبابه وشباب صقلية :

قضت في الصبا النفس اوطارها       وأبلغها الشيب انذارها

وما غرس الدهر فى تربة               غراسا ولم يجد أثمارها

نعم وأجيلت قداح الهوى             عليها فقسمن أعشارها

فأفنيت في الحرب آلاتها              وأعددت للسلم أوزارها

ويقول وقد حن للجزيرة :

ذكرت صقلية والأسى             يهيج فى النفس تذكارها

ومنزلة للتصابى خلت             وكان بنو الظرف عمارها

فان كنت أخرجت من جنة       فانى أحدث اخبارها

ولولا ملحة ماء البكاء           لخلت دموعي انهارها

وأمام جنته المفقودة يقول :

فبت من الليل في ظلمة             فيا غرة الصبح هاتى الضياء

ويا ريح اما مريت الحيا              ورويت منه الربوع الظماء

فسوقي إلى جمام الغيوم              لأملأها بالدمع ماء ] كذا [

وراءك يا بحر لي جنة                 لبست النعيم بها لا الشقاء

اذا انا طالعت منها صباحا           تعرضت من دونها لى مساء

فلو اننى كنت أعطى المنى           اذا منع البحر منها اللقاء

ركبت الهلال به زورقا                الى أن أعانق فيها ذكاء

ويقول أيضا متوجعا وكله حنين وشوق :

امثلها فى خاطرى كل ساعة          وأمرى لها قطع الدموع السواكب

احن حنين البنت للموطن الذي     مغاني غوانية اليه جواذبي

ومن سار عن أرض ثوى قلبه بها      تمنى له بالجسم أوبة آيب ...

الى غير ذلك من الشعر الذي يكتب بماء الذهب وأكثر حول هذه الجزيرة ( 7 ) الضائعة وما قام به أبناؤها الاولون من أعمال خالدة فى سبيل تركيز دعوة الاسلام ونشر مبادئه السامية الجليلة . ولنختم برثائه لها إثر يأسه من إنقاذها نهائيا وانتشالها من أيدي الأعداء :

اعاذل دعنى أطلق العبرة التى        عهدت لها من أجمل الصبر حابسا

أود لأرضي أن تعود لقومها          فساءت ظنوني ثم اصبحت يائسا

وعزيت فيها النفس لما رأيتها         تكابد داء قاتل السم ناحسا

صقلية كان الزمان بلادها            وكانت على أهل الزمان محارسا

الى آخر القصيد وقد تحسر فيه على هذا الضياع وكيف يصبح حال العرين الذي يغيب عنه ليثه فتصبح فيه الذئاب مائسة مترنحة .

وبالجملة فتلك هى بعض الذكريات من أعمال مجيدة خالدة حواها موجز للتذكير بهذه الجزيرة المفقودة ، ولم يتسن الحديث عن كل رجالاتها ترجمة بتفصيل ونأمل ذلك فى القريب ولله الامر وتدبير الشؤون من قبل ومن بعد .

اشترك في نشرتنا البريدية