الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

صور محفورة في وجه الماضى

Share

وهو يجول الآن بين هذه الجموع المحتشدة فوق الارصفة .. خطر له ماحدث بالامس البعيد .. تجاهل ذلك فى البداية ؛ لكن ذاكرته ظلت تلح ، وتلح فى عناد واصرار .. ولم تشأ مهادنته رغم المراوغات الذاتية التى ما فتئ يستعملها إزاء هذا الاصرار غير المرغوب فيه ! ..

ووجد نفسه أخيرا مرغما على الانصياع دون اختيار : قالت له : فكر قبل أن تقرر ! قال لها : وهذه حالى دوما ! قالت : أتظن ذلك حقا ؟ ! قال : بل اعتقد ! قالت ببرود : اذن فقد قررت ! ثم أضافت غير واثقة : افعل ما بدا لك .

قبل ان يخطو الى خارج البيت نظر مليا فى صورتها الى جانبه داخل الاطار المذهب ، والمثبت على جدار حجرة النوم . . لقد تعمد ان تكون صورتهما تقابل وضعهما على السرير ! وقد بدا له الان أكثر من اى وقت مضى ان الاطار المذهب أضفى عليها شيئا من الروعة والفتنة . . والاشراق !.

هو لا يشك اطلاقا انه كان مفتونا بهذه الصورة قبل سنوات .. لكنه يسخر من ذلك الان ! لقد كانت هذه الصورة تعنى شيئا ما .. كان يعتبرها مفخرة لأيام شبابه ، المفعمة بالحب والسعادة .. آه على تلك الايام هكذا كان يقول قبل يوم .. أما اليوم فقد حور قليلا فى هذه العبارة ، واعطاها مدلولا يعكسها فاضحى يقول : " آه من تلك الايام !! " .

سحب بصره من صورتهما المعلقة .. وفكر : " ربما كانت سعيدة بفستانها الابيض واكليل الورود عند قدميها .. لكن ، كل ذلك لا يعني شيئا بالنسبة اليه الان ، ولن يستطيع ثنيه عن قراره ! "

وهو يوارب باب الحجرة من ورائه وقع بصره على قامتها المعتدلة امام مغسل الصحون فى المطبخ . . كانت تولى ظهرها لناحيه ، منهمكة فى عملها الاعتيادى " عملها ؟! "

انها لا تعتقد حقا بما قال ! ولا تعطى للامر كبير أهمية ؟ . . لكن ، لم يتعب نفسه بتفكيره هذا .. انه غير مستعد للرجوع وكفى .

تفحصها مليا .. كان شعرها مسترسلا على ظهرها .. يكاد يلامس ردفيها المكتنزين .. كانت ساقاها تنمان عن أنوثة فياضة .. لم يهتم لهذا كثيرا .. فهو يعرفها معرفة السنين التى عاشاها معا .. وبإمكانه ان يرسم لها صورة فى خياله متى شاء .. ولو أراد ذلك فعلا لتخيل شكل محياها الدائرى وحاجبيها الرفيعين ، الجذابين .. وعينيها السوداوين ، اللماعتين ، وصدرها الممتلىء ، والمنم عن استرخاء نهدين رائعين ، بين ثنايا حمالة الثديين في وداعة ولطافة ! ..

كل ذلك يعرفه ، كما يعرف أشياء كثيرة لا تبدو للرائى ! غير انه فضل الاسراع فى الانصراف ، ولا يدرى ان كانت قد شعرت به وهو بحذب الباب الخارجى خلفه .

لكن ، لماذا يعود الى الماضى الان ، وقد اختار طريقا أخرى ؟ .. لماذا يصر فكره ، وتلح ذاكرته وقد رتب كل شئ بمحض ارادته ؟ .. لم تأبي هذا الذاكرة الكف عن ذكر الامس ، وقد قرر لا يذكر الامس ؟؟

شعر ببعض المرارة تطغى على احساسه .. وغصة تلم بقلبه امام ازدراء ذاكرته باعتراضه على نبش ايام الماضى !..

وهو بعد ذلك .. كما هو الان تماما .. كان ينقل خطواته بين الجموع المحتشدة .. شعر بثقل مفاجئ يضغط على كتفه الايمن .. لم يحد أثناءه رغبة فى الالتفات الى مصدر الثقل . . لكنه كاد يصرخ : ما هذا ؟ .. بيد ان صوتا انطلق من ورائه :

- ما هذا ! ألا تستدير ؟ ! استدار الى مصدر الصوت ليجد صديقه الى جانبه .

- آه ! .. هذا انت ؟ ! - نعم أنا ! - وماذا تفعل هنا ؟ - أتمزح ؟ - بل أقول الجد ! - تقول الجد ؟ ! . . قد يكون نفس السبب الذي جعلك انت هنا . - لا أعتقد ! - أخبرنى اولا : أفي الامر شئ ؟ - أى أمر ؟ - هذا الذى انت عليه . - وما الذى وجدتنى عليه ؟ - اننى اراك شبه غائب عنا ! - ماذا تعنى بــ : غائب عنكم ؟ . . من انتم ؟ ! - أقصد . . أقصد ، أنا لا غير ! - اذن ، فلتعلم اننى . . انني ، لست غائبا عنكم . . إطلاقا !!

وضحك الصديقان ، ثم سارا بين الجموع المحتشدة يخترقان الاجسام الادمية المتراصة بصعوبة فائقة ..

- أتعرف كم عدد سكان الصين ؟ - وهل تريد اختبارى فى علم الجغرافيا ؟ - أوه ! ليس الامر كذلك ؟ - لتصحيح معلوماتك اذن ؟ - لا هذا ولا ذاك ! - فلتعلم انه تجاوز المليون بعد السبعمائة . - هم اود ان اكون بين تلك الملايين على ان اكون بين هذه الحموع " !! " - ألأنك صرت شيوعيا ؟ - بل لان تلك الملايين لا تعرض اجسادها مجانا ، كما هي حال هذه الجموع !

- لكن ، لم تقل وما السبب ؟ - السبب ؟ ! العمل طبعا .. العمل اللامنقطع . - بل لأنهم تركوا الماضى .. فعاشوا الحاضر ! - وهل نحن نعيش فى الماضى ؟؟ - تماما " !! " - انى لا أفهمك !

لم يجب ، اذ وصلا الى منعطف . . وكان يجب عليهما ان يقطعا الى الرصيف المقابل ، حيث تنزوى مقهى بيروت . . مقهاهما المفضلة ..

فى داخل المقهى ، جلس الصديقان الى طاولة منزوية .

قال يخاطب صديقه :

- اذا كنت تريد فهمى حقا ، فانى اطلب منك شيئا واحدا . - ما هو ؟

صمت قليلا ، كأنه يتخير اللفظ المناسب . . ثم قال :

- أن لا تعمل على مغالطتى ! - أعمل على مغالطتك ؟ ! - أجل . - لم ؟ ؟ - عدني اولا على أنك . . - أعدك . - هذا جميل !

ومرة اخرى يغرق فى صمت قصير . . متخيرا الكلمات المعبرة . . وأخيرا قال - برصانة الشيوخ - :

- لقد اخترت منذ البارحة ان اقطع حبل الصلة بينى وبين الماضى الى الابد !

- تقطع صلتك بالماضى ؟ ! - نعم - أكاد لا أفهم ! - أهجر الماضى وكل ما يربطني به . - حتى زوجتك ؟ ! - حتى زوجتى ! - وعملك ؟ ! - وعملى ايضا . - لكن هذا مستحيل ؟ . . كيف ستعيش ؟ ! - سأعيش لحاضري فقط ! - ما هذا ؟ ؟ - انه قرارى . - لكن يجب ان تتراجع - اذن فانت تعمل على مغالطتى ؟ ! - لكن ، مستحيل . . مستحيل ! - لذلك أريد تحطيم المستحيل " ؟ ! "  - عد إلى عقلك يا صديقى ! .. واعلم ان لك بيتا وزوجة في انتظارك .

" زوجة أه يا لتلك الكلمة المقيته .. يا لتلك النغمة التى كنت أرددها فى فخر ، مباهيا بزواج أمام زملائى فى العمل .. زواجى فى سن هى زهرة السنين ! .. لكننى اليوم صرت أمقت هذه الكلمة .. صرت أحقد على من يلفظها .. حتى .. حتى ان "

وكاد يسترسل فى محاورة نفسه لو ان صديقه استمر في صمته ؛ بيد أنه قال : - أما زلت مصرا ؟

- على أى شئ ؟ - على تركك للصواب ! - وهل طرأ على نوع من الخبال ؟ - لم أقل هذا . . لكنك تصر على ان تتجاهل الواقع .

- بل أتجاهل الماضى ! - فكر ! ، فكر يا ..

الى هذا الحد قام منتصبا . يريد مبارحة المكان ، ولكن صديقه يعترض سبيله ..

- الى أين ؟ - انك لم تلتزم بوعدك .. فالى اللقاء .. بل وداعا !

وبلطف ابعده عن سبيله وابتسامة شاحبة ترسم على شفتيه . . ولكن صوت صديقه يلاحقه :

- انتظر لحظة ! ومع استدارته ، أضاف . - طبعا لن تعدنى من الماضي ؟ ! - ٠٠ بل انت فى عداد الماضى !! ..

وكاد يضيف : " للأسف " . . غير انه سار ولم يردعا سؤال صديقه الذى بلغ مسمعه وهو يبتعد عنه :

- أحقا ما تقول ؟ - ...

وهو يسير الآن بين هذه الحشود البشرية أمام دار البريد ، مارقا من رصيف الى اخر تذكر كل هذا ، ومد يده الى لحيته ، فاذا هي طويلة .. طويلة .. فخيل اليه انها لا تمثل سبع سنوات فحسب بل تمثل الدهر بأكمله !..

وهو الآن لا يريد تذكر شئ عن ايامه الخالية ، ولا يفكر بما يحدث له باستمرار من مضايقات الناس له .. وحتى الشرطة .. التى غالبا ما تطارده من مكان لاخر .. دونما ذنب اقترفه .. اللهم الا مظهره المشكوك فيه !

لقد قرر ان يعيش ليومه فقط ، لذلك فهو يعتقد ان مظهره الرث وثباته القذرة لن تحول دونه وما قرر ! وقد رضي - ويا له من رضى ! - بما يعثر عليه من فضلات الطعام قوتا له ..

وهو الآن كثيرا ما يضحك ويضحك . . حتى انه - احيانا - ليكاد ينفجر من الضحك لان الناس يرثون له ، ولا يدرون انه يرثى لحالهم .

قسنطينة 1974/3/13

اشترك في نشرتنا البريدية